الأنافورة الباسيليّة من منظور اللاهوت الكتابي
الإثنين سبتمبر 10, 2012 2:48 am
الأنافورة الباسيليّة من منظور اللاهوت الكتابي
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
بقلم الأب د. يوأنس لحظي جيد
مقدمة
خاص بالموقع - يُعرِّف كتابُ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة[1] سر الإفخارستيا[2]
بأنه "منبع الحياة المسيحيّة كلها وقمتها، فالأسرار وجميع الخِدَم
الكنسيّة والمهام الرسوليّة مرتبطة كلها بالافخارستيا ومترتّبة عليها"[3]. كما يؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني على كون سر الإفخارستيا هو السر المقدس الّذي يقطن فيه كلّ كنز الكنيسة الروحي[4]،
أي المسيح ذاته، فصحنا، والخبز الحيّ الّذي يهب لنا الحياة، فبواسطة جسده
الحيّ والمحييّ يحل الروح القدس على المؤمنين، فيقدسهم ويدعوهم إلى تقديم
حياتهم، وأعمالهم، ومشروعاتهم... تمجيداً لله الآب.
ومن
ثمَّ فهناك ارتباط لا تنفصم عُراه بين سر الإفخارستيا، وحضور المسيح السري
في حياة كنيسته، لدرجة أنه لا يُمكننا الولوج لمعنى الإفخارستيا دون
التعرض لسر المسيح ذاته. ومن هذا المنطلق سنحاول في الصفحات القادمة عرض
القداس الباسيلي[5] من منظورٍ كتابي، بهدف معرفة الإيمان العميق بسر المسيح، هذا الإيمان المعبر عنه في القداس الباسيلي، والمؤسس على الكتاب المقدس.
لأن
الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، يحمل مراحل تاريخ الخلاص التي مرّت
بها العلاقة بين الله والإنسان، والتي وصلت إلى قمتها في المسيح، الّذي
أُعتبر "المخلص"، والّذي علمنا طريق الخلاص بحياته وموته وقيامته. والقداس
الباسيلي، يعيد لنا ذكرى[6] هذه المراحل، ويُؤوّنها[7]
في واقعنا، انطلاقاً من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وسنحاول
فيما يلي عرض العلاقة بين القداس الباسيلي، والكتاب المقدس من خلال عنصرين:
الأول، عرض نص "الأنافورة"[8]، من القداس الباسيلي، وما يوازيها من آيات كتابيّة. والثاني، محاولة استنباط الفكر اللاهوتي من هذا التوزيع.
صلاة الأنافورة الباسيليّة من منظور اللاهوت الكتابي
أوّلاً: الآيات الكتابيّة لصلاة الأنافورة:
الكاهن: يا الله العظيم الأبدي الّذي جبل الإنسان على غير فساد[9]، والموت الّذي دخل إلى العالم بحسد إبليس[10] هدمته[11]، بالظهور المحيّ الّذي لابنك الوحيد الجنس ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح[12].
وملأت الأرض من السلام الّذي من السموات، هذا الّذي أجناد الملائكة
يمجدونك به قائلين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام وفي الناس
المسرة[13].
الشماس: صلوا من أجل السلام الكامل[14] والمحبّة[15] والقبلة الطاهرة الرسوليّة[16].
الشعب: يارب ارحم[17].
الكاهن: بمسرتك يا الله املأ قلوبنا من سلامك[18]، وطهرنا من كلّ دنس ومن كلّ غش[19] ومن كلّ رياء ومن كلّ فعل خبيث[20] ومن تذكار الشّرّ المُلبس الموت، واجعلنا مستحقين يا سيدنا أن نقبل بعضنا بعضاً بقبلة مقدسة[21]. لكي ننال بغير وقوع في الدينونة من موهبتك غير المائتة السمائية بالمسيح يسوع ربنا[22]
هذا الّذي من قبله المجد والكرامة والعزة والسجود تليق بك معه ومع الروح
القدس المحيي المساوي لك الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور. أمين.
الشماس: قبلوا بعضكم بعضاً بقبلة مقدسة[23]. يارب ارحم (3) نعم يارب الّذي هو يسوع المسيح ابن الله الحي اسمعنا وارحمنا. تقدموا على هذا الرسم، قفوا بخوف ورعدة[24]. وإلى الشرق انظروا[25]، ننصت[26].
الشعب:
بشفاعات والدة الإله القديسة مريم، يارب أنعم لنا بمغفرة خطايانا. نسجد لك
أيها المسيح مع أبيك الصالح والروح القدس لأنك أتيت وخلصتنا. رحمة السلام
ذبيحة التسبيح.
الكاهن: الرب مع جميعكم[27].
الشعب: ومع روحك أيضاً[28].
الكاهن: ارفعوا قلوبكم[29].
الشعب: هي عند الرب.
الكاهن: فلنشكر الربّ[30].
الشعب: مستحق[31] وعادل[32].
الكاهن:
مستحق وعادل، مستحق وعادل، لأنه بالحقيقة مستحق وعادل. أيها الكائن السيد
الرب إله الحق الكائن قبل كلّ الدهور والمالك إلى الأبد، الساكن في الأعالي[33]، والناظر إلى المتواضعين[34]. الّذي خلق السماء والأرض وكل ما فيها[35]. أبو ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح[36]، هذا الّذي خلقتَ به كلّ شيء ما يرى وما لا يرى. الجالس على كرسي مجده، والمسجود له من جميع القوات المقدسة[37].
الشماس: أيها الجلوس قفوا[38].
الكاهن: الّذي يقف أمامه الملائكة ورؤساء الملائكة، الرئاسات والسلطات والكراسي والأرباب والقوات[39].
الشماس: وإلى الشرق انظروا[40].
الكاهن: أنت هو الّذي يقف حولك الشاروبيم الممتلئون أعيناً والسيرافيم ذوو الستة الأجنحة، يسبحون دائماً بغير سكوت، قائلين:
الشماس: ننصت[41].
الشعب: الشاروبيم يسجدون لك، والسيرافيم يمجدونك صارخين قائلين: قدوس، القدوس، قدوس ربّ الصباؤوت، السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس[42].
الكاهن: قدوس، القدوس قدوس[43]، بالحقيقة أيها الرب إلهنا، الّذي جبلنا وخلقنا ووضعنا في فردوس النعيم[44]. وعندما خالفنا وصيتك بغواية الحيّة، سقطنا من الحياة الأبديّة وطردنا من فردوس النعيم[45].
فلم تتركنا عنك إلى أيضاً إلى الانقضاء، بل تعهدتنا دائماً بأنبيائك القديسين[46]، وفي آخر الأيام ظهرت لنا[47]، نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت[48]، بابنك الوحيد الجنس ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح[49]، هذا الّذي من الروح القدس ومن مريم العذراء[50].
الشعب: حقاً.
الكاهن: تجسد وصار وإنساناً[51] وعلمنا طريق الخلاص[52]، وأنعم علينا بالميلاد الّذي من فوق بواسطة الماء والروح[53]، وجعلنا له شعباً مجتمعاً[54]، وصيرنا أطهاراً بروحك القدوس[55]، هذا الّذي أحب خاصته الذين في العالم[56] وبذل ذاته فداءً عنا إلى الموت[57] الّذي تملك علينا، هذا الّذي كنا ممسَكين به مبعين من قبل خطايانا[58] نزل إلى الجحيم من قبل الصليب[59].
الشعب: حقاً نؤمن[60].
الكاهن: وقام من الأموات[61] في اليوم الثالث[62] وصعد إلى السموات[63] وجلس عن يمينك أيها الآب[64] ورسم يوماً للمجازاة، هذا الّذي فيه يأتي ليدين المسكونة بالعدل ويعطي كلّ واحد كأعماله[65].
الشعب: كرحمتك يا رب ولا كخطايانا[66].
الكاهن: ووضع لنا هذا السر العظيم الّذي للتقوى. لأنه فيما هو راسم أن يسلّم حياته للموت عن حياة العالم.
الشعب: نؤمن.
الكاهن: أخذ خبزاً على يديه الطاهرتين اللتين بلا عيب ولا دنس الطوباويتين المحييتين[67].
الشعب: نؤمن أن هذا هو بالحقيقة، أمين.
الكاهن: ونظر إلى السماء إليك يا الله أباه وسيد كلّ أحد، وشكر[68]، وباركه[69]، وقدسه[70].
الشعب: نؤمن ونعترف ونمجد.
الكاهن: وقسمه وأعطاه[71]
لخواصه التلاميذ القديسين والرسل الأطهار قائلاً: خذوا، كلوا منه كلكم،
لأن هذا هو جسدي الّذي يقسّم عنكم وعن كثيرين يعطى لمغفرة الخطايا. هذا
اصنعوه لذكري[72].
الشعب: هذا هو بالحقيقة، أمين.
الكاهن: وهكذا أيضاً الكأس بعد العشاء[73] مزجها من عصير الكرم وماء، وشكر، وباركها، وقدّسّها.
الشعب: وأيضاً نؤمن ونعترف ونمجد.
الكاهن:
وذاق وأعطاها أيضاً لتلاميذه القديسين ورسله الأطهار قائلاً: خذوا اشربوا
منه كلكم لأن هذا هو دمي الّذي للعهد الجديد الّذي يسفك عنكم[74] وعن كثرين لمغفرة الخطايا، هذا اصنعوه لذكري[75].
الشعب: وهذا هو أيضاً بالحقيقة، أمين.
الكاهن: لأن كلّ مرة تأكلون من هذا الخبز، وتشربون من هذه الكأس، تبشرون بموتي وتعترفون بقيامتي، وتذكروني إلى أن أجيء[76].
الشعب: حقاً حقاً حقاً، بموتك يارب نبشر وبقيامتك المقدسة وصعودك إلى السموات نعترف. نسبحك، نباركك، نشكرك يارب، ونتضرع إليك يا إلهنا.
الكاهن:
فيما نحن أيضاً نصنع ذكر آلامه المقدسة، وقيامته من الأموات وصعوده إلى
السموات وجلوسه عن يمينك أيها الآب، وظهوره الثاني الآتي من السموات المخوف
المملوء مجداً[77]، نقرب لك قرابينك[78] من الّذي لك، على كلّ حال ومن أجل كلّ حال وفي كلّ حال.
الشماس: اسجدوا لله بخوف ورعدة[79].
الشعب: نسبحك، نباركك[80]، نخدمك يارب، ونسجد لك[81].
الكاهن: نسألك أيها الرب نحن عبيدك الخطأة غير المستحقين[82]، نسجد لك بمسرة صلاحك، وليحل روحك القدوس علينا[83].
الشماس: ننصت، أمين.
الكاهن: وعلى هذه القرابين الموضوعة ويطهرها، وينقلها، ويظهرها قدساً لقديسيك. وهذا الخبز يجعله جسداً مقدساً له.
الشعب: نؤمن، أمين.
الكاهن: ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، يعطى لمغفرة الخطايا، وحياة أبديّة لمن يتناول منه[84].
وهذه الكأس أيضاً دماً كريماً للعهد الجديد الّذي له[85].
الشعب: وأيضاً نؤمن، أمين.
الكاهن: ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، يعطى لمغفرة الخطايا، وحياة أبديّة لمن يتناول منه[86].
الشعب: يارب ارحم، يارب ارحم، يارب ارحم.
ثانياً: اللاهوت الكتابي لصلاة الأنافورة:
- صلاة الصلح:
أكد
السيد المسيح انه لا فائدة للذبيحة المقدّمة إذا لم تنبع من موقف محبّة
وتسامح مع الآخرين “إذا كنت تقدم قربانك إلى المذبح وتذكرت هناك أن لأخيك
شيئاً عليك، فاترك قربانك عند المذبح هناك، واذهب أوّلاً وصالح أخيك، ثم
تعال وقدم قُربانك” (متى5: 23-24). ومن هذا المنطلق الكتابي المسيحي،
وضِعتْ صلاة الصلح قبل كلام التقديس، أي قبل تحوّل الخبز والخمر لجسد ودم
الرب. لتؤكد على:
يا الله العظيم الأبدي
- عظمة
الله وأبديته، متبعة في ذلك صلوات أنبياء العهد القديم التي غالباً ما
كانت تبدأ بهذا التأكيد، ونذكر على سبيل المثال صلاة إرميا النبي التي قال
فيها: “أيُّها الإلهُ العظيمُ الجبَّارُ، الربُّ القديرُ اسمُهُ. عظيمٌ
أنتَ في المشورة، وقديرٌ في العمل” (إرميا32/18ب-19).
الّذي جبل الإنسان على غير فساد
-
الإنسان خُلق على غير فساد، لأن الكتاب المقدس يذكر صراحة أن الإنسان خلق
على صورة الله ومثاله، “فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خَلَقَ
البشر، ذَكَراً وأُنثى خلقهما” (تكوين1: 26-27)[87]، كما يذكر الكتاب أن الله عندما نظر إلى كلّ ما صنعه “رأى أنّه حسنٌ جداً” (تكوين1: 31).
الموت الّذي دخل إلى العالم بحسد إبليس هدمته، بالظهور المحيّ الّذي لابنك الوحيد الجنس ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح.
-
هذا الخلق البديع والحسن جداً تشوّه بالخطيئة، التي تمّت بحسد إبليس، وهذه
العبارة مذكورة صراحة في سفر الحكمة “خلق الله الإنسان لحياة أبديّة،
وصنعه على صورته الخالدة، ولكن بسبب حسد إبليس دخل الموت إلى العالم”
(حكمة2: 23-24).
وملأت
الأرض من السلام الّذي من السموات،هذا الّذي أجناد الملائكة يمجدونك به
قائلين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة.
-
خطيئة الإنسان لا تعطل محبّة الله، هذه المحبّة التي بظهورها في شخص
الابن، يسوع المسيح، هَدمتْ تلك الهُوّة التي كانت بين الله والإنسان،
وملأت الأرض من السلام السمائي، الّذي يصفه القديس بولس بأنه سلام يفوق كلّ
وصف وكل إدراك، سلام أنشدت به الملائكة “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض
السلام والناس المسرة” (لوقا3: 14).
صلوا من أجل السلام الكامل والمحبّة والقبلة الطاهرة الرسوليّة.
وهنا
تأتي دعوّة الشماس للشعب للصلاة من أجل السلام الكامل والمحبّة والقبلة
الطاهرة الرسوليّة، لأن سلام الله الّذي أنشدت به الملائكة لا يفرض فرضاً،
بل يتطلب من كلّ مؤمن ومن كلّ المؤمنين الصلاة الحارة لكي يكون تقبيل الشعب
بعضه لبعض نابعاً من قلب وموقف صادق، وأن تكون القبلة طاهرة ورسوليّة
بعيدة كلّ البعد عن قبلة يهوذا التي أسلم بها المسيح (لوقا22: 47). والقديس
بولس يدعوا إلى القبلة الطاهرة بقوله: “سلِّموا على بعضٍ بقبلة مقدسة” (1
كورنثوس16: 20)[88].
بمسرتك
يا الله املأ قلوبنا من سلامك، وطهرنا من كلّ دنس ومن كلّ غش ومن كلّ رياء
ومن كلّ فعل خبيث ومن تذكار الشّرّ المُلبس الموت، واجعلنا مستحقين يا
سيدنا أن نقبل بعضنا بعضاً بقبلة مقدسة.
ثم
يكمل الكاهن صلاته بالدعاء لله أن يملئ القلوب من سلامه، ذلك السلام الّذي
يطهر من كلّ شّرّ، لأن لا اضطراب مع الإيمان “لا تضطرب قلوبكم انتم تؤمنون
بالآب فأمنوا بي” (يوحنا )، بل أن الإيمان الحقيقي هو دعوة للسلام وللفرح[89]. وهو دعاء بشفاعة المسيح، الّذي قال: “الحقَّ الحقَّ أقول لكم: كلّ ما تطلبونه من الآب باسمي تنالونه” (يوحنا16: 23).
لكي ننال بغير وقوع في الدينونة من موهبتك غير المائته السمائية بالمسيح يسوع ربنا
إن
الدينونة تقوم على العلاقة بالآخر، لأنه كما يقول القديس يوحنا: “من قال
إنه في النور وهو يكره أخاه، كان حتى الآن في الظلام. ومن أحبّ أخاه ثبت في
النور” (1 يوحنا1: 9-10)، وذلك لأن “إذا قال أحد: "أنا أحب الله" وهو يكره
أخاه كان كاذباً لأن الّذي لا يحب أخاه وهو يراه، لا يقدر أن يحب الله وهو
لا يراه. وصيّة المسيح لنا هي: منْ أحب الله أحب أخاه أيضاً” (1يوحنا4:
20-21) كما يوضح المسيح ذاته أن الدينونة تقوم على الاهتمام بالآخر لا سيما
الأكثر احتياجاً (راجع: متى25: 31-46).
قبلوا بعضكم بعضاً بقبلة مقدسة.
وهنا يدعوا الشماس الشعب إلى القبلة المقدسة، كعلامة على:
- المحبّة:
لأن المسيح قال: “أُعطيكم وصيّة جديدة: أحبوا بعضكم بعضاً. ومثلما أنا
أحببتكم أحبوا أنتم بعضكم بعضاً. فإذا أحببتم بعضكم بعضاً، يعرف الناس أنكم
تلاميذي” (يوحنا13: 34-35). ومن ثمَّ فالمحبة هي علامة وشهادة للإيمان
بالمسيح.
- حضور المسيح:
لقد وعد المسيح بأن يحضر إذا ما اجتمع باسمه اثنين (متى18: 20)، ومن ثمَّ
تعبر قبلة المحبة على أن الشعب مجتمع كأخوة، متحد باسم المسيح، الّذي هو
مجتمع لملاقاته. ويذكر سفر أعمال الرسل أن المؤمنين كانوا دائما يجتمعون
بهذه الروح، “وكانوا يواظبون كلهم على الصلاة بقلب واحد” (1: 14)، “وكان
المؤمنون كلهم متحدين... يلتقون كلّ يوم في الهيكل بقلب واحد، ويكسرون
الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بفرح وبساطة قلب، ويسبحون الله، وينالون
رضى الناس كلهم” (2: 43-47)، وهكذا دعا القديس بولس المؤمنين “اجتهدوا في
المحافظة على وحدة الروح برباط السلام، فأنتم جسد واحد وإيمان واحد”
(أفسس4: 4-5)[90].
- السلام:
أكد المسيح على أنه سيترك سلامه لتلاميذه، سلام لا يستطيع أحد أن ينزعه
منهم، “سلامي أنا أعطيكم، سلامي أنا أترك لكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم”
(يوحنا ).
- المصافحة:
هذه المصالحة التي تتم بفضل يسوع المسيح الّذي صنع صلحاً وسلاماً على
الأرض “الله صالحنا بموت ابنه ونحن أعداؤه، فكم بالأولى أن نخلص بحياته
ونحن متصالحون... والفضل لربنا يسوع المسيح الّذي به نلنا الآن المصالحة”
(رومية5: 10-11).
ومن
الجدير بالذكر أن القبلة، وهي علامة المحبّة، تأتي بعد قانون الإيمان،
وذلك حتى يقترن الإيمان بالمحبّة كما قال القديس بولس: “إن كان لي الإيمان
حتى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبّة فلست شيئاً” (1كورنثوس13: 2). فالمحبّة
أعظم من الإيمان والرجاء، وهي التي يجب أن تكون الغاية المنشودة (راجع:
1كورنثوس13: 13-14)[91].
بشفاعات والدة الإله القديسة مريم، يارب أنعم لنا بمغفرة خطايانا.
ليس
لنا إلاّ شفيع واحد هو المسيح، هكذا يؤكد كاتب رسالة العبرانيين
(عبرانيين9: 15، 12:24). إلاّ أن شفاعة العذراء مريم ليست إنقاصاً لشفاعة
المسيح بل اشتراكا فيها. وهذا ما يؤكده كتاب "ت.م.ك.ك" عندما يذكر أن
“الدور الأمومي الّذي تقوم به مريم تجاه الناس لا يضر شيئاً ولا ينقص البتة
من وساطة المسيح الوحيدة، بل يظهر، على خلاف ذلك، فعاليّتها. ذلك بأن كلّ
تأثير من مريم الطوباويّة (...) يصدر عن فيض استحقاقات المسيح، ويستند إلى
وساطته، التي هي بها يتعلّق في كلّ شيء، ومنها يستمدّ كلّ فعاليته. فما من
خليقة البتة يُمكن جعلها على مستوى الكلمة المتجسدة والفادي. ولكن كما أن
كهنوت المسيح يشترك فيه على وجوه مختلفة، الخدّام المكرسون والشعب المؤمن،
وكما أن جُودة الله الواحدة تفيض بوجوه مختلفة على المخلوقات، كذلك وساطة
الفادي الواحدة لا تنفي، بل تبعث في المخلوقات، على خلاف ذلك، تعاوناً
مختلفاً مرتبطاً بالمصدر الواحد”[92].
نسجد لك أيها المسيح مع أبيك الصالح والروح القدس لأنك أتيت وخلصتنا.
وتختم
صلاة طلب شفاعة العذراء مريم، بالسجود لله، كتأكيد أن السجود والعبادة
تليق فقط بالله الثالوث، هذا الإله الّذي ظهر في شخص الابن، هذا الابن
الّذي بتجسده تمّ خلاصنا.
رحمة السلام ذبيحة التسبيح.
إن
الله في المسيح يقبل ذبيحة السلام والحمد التي يقدمها الشعب “فلنقدم لله
بالمسيح ذبيحة الحمد في كلّ شيء، ثمرة شفاه تسبح باسمه... فمثل هذه الذبائح
ترضي الله” (عبرانيين13: 15-16).
ـ قداس القديس باسيليوس للآب:
الرب مع جميعكم.
في
المسيح، بطريقة خاصة، لم يعد الله بعيداً عنا بل صار واحداً منّا، صار
إنساناً يماثلنا في كلّ شيء ماخلا الخطيئة وحدها (عبرانيين4: 15، و1بطرس2:
22). والرب مع جميعكم هي تحيّة اعتاد عليها المسيحيون، واستخدمها القديس
بولس في رسائله “ورب السلام نفسه يمنحكم السلام في كلّ وقت وفي كلّ حال.
ليكن الربّ معكم جميعاً” (2تسالونيكي3: 16).
ومع روحك أيضاً.
فيجيب
الشعب على الكاهن "ومع روحك أيضاً" كعلامة على أن حضور الرب هو الّذي يوحد
الجميع، وحضور الجميع يجعل الرب حاضراً في وسطهم “إذا اجتمع واحد أو اثنين
باسمي أكون حاضر وسطهم” (متى18: 20). كما أنه علامة على مشاركة الشعب في
الصلاة “وأنتم أيضاً مساعدون بالصلاة من أجلنا” (2كورنثوس1: 11).
(انتقل لاسفل لمتابعة بقية الموضوع)
رد: الأنافورة الباسيليّة من منظور اللاهوت الكتابي
الإثنين سبتمبر 10, 2012 2:53 am
ارفعوا قلوبكم.
تعني
عبارة ارفعوا قلوبكم للرب كرسوا قلوبكم للرب، “كرسوا قلوبكم للرب ولا
تعاندوه بعد الآن” (10: 16). لأن الله يطلب أوّلاً القلب “يا بني أعطني
قلبك” (أمثال23: 26). ولأن الإنسان عندما يكرس ويقدم قلبه للرب[93]،
يقبل الرب هذه التقدمة ويعمل على تطهيرها وتقديسها محققاً بذلك وعده
“أعطيكم قلباً جديداً وروحاً جديداً في أحشائهم، وأنزع منهم قلب الحجر
وأعطيهم قلبا من لحم” (حزقيال11: 19، وايضاً 36: 26).
كما
تُعتبر هذه العبارة دعوة إلى الاهتمام بما هو فوق، بما هو لله “فإن كنتم
قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا
بما فوق لا بما على الأرض” (كولوسي3: 1-2). دعوة إلى أن “نقرب (الى الله)
بقلب صادق وإيمان كامل، وقلوبنا مطهرة من سؤ النيّة” (عبرانيين10: 22).
ولأن المسيح يؤكد أنه “حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك” (متى6: 21)؛ تأتي
عبارة "ارفعوا قلوبكم" كدعوة وكتساؤل عن إيمان الشعب. لا سيما وهي أحياناً
تقال بصيغة التساؤل: "أين هي قلوبكم؟".
هي عند الرب.
وهنا
يعلن الشعب إيمانه، مؤكداً أن قلبه هو مع الله، ومن ثمَّ كلّ حياته وكل
كنوزه. وبعبارة أخرى يُمكننا القول أن الكلام في ظاهره يدور حول القلب وفي
باطنه حول "الإيمان"، لأنه “بغير الإيمان يستحيل إرضاء الله” (عبرانيين11:
6).
فلنشكر الربّ.
إن ارتفاع القلب لله يعبر عنه بالشكر “أشكر الله أبا ربنا ويسوع المسيح” (كولوسي1/3). فالشعب
بعدما قَبَلَ بعضه بعضاً، كعلامة على محبته بعضه لبعض، وبعدما أعلن إيمانه
رافعاً قلبه لله، تأتي الدعوّة لأن يشكر الله على هذه النِعم، وهو بهذا
الشكر يقوم بالشيء ذاته الّذي قام به ودعا إليه بولس الرسول قائلاً: “يجب أن نشكر الله كلّ حين لأجلكم، أيُّها الأخوة. وهذا حقٌّ لأن إيمانكم ينمو كثيراً ومحبّة
بعضكم لبعض تزداد بينكم جميعاً” (1تسالونيكي1: 3)، وكذلك “أمّا نحن فيجب
علينا أن نشكر الله كلّ حين لأجلكم أيُّها الأخوة، يا أحباء الربّ، لأن
الله اختاركم منذ البدء ليخلصكم بالقداسة التي يمنحها الروح والإيمان
بالحق” (2تسالونيكي1: 13)[94].
مستحق وعادل، مستحق وعادل، لأنه بالحقيقة مستحق وعادل. أيها الكائن السيد الرب إله الحق الكائن قبل كلّ الدهور والمالك إلى الأبد
يؤكد
الشعب والكاهن أن الله مستحق وعادل لهذا الشكر، وذلك تشبها بالشيوخ
الأربعة والعشرون الذين “ركعوا أمام الجالس على العرش، وسجدوا للحيّ إلى
أبد الدّهور وألقوا أكاليلهم عند العرش وهم يقولون: يا ربنا وإلهنا، لك يحق
المجد والإكرام والقدرة لأنّك خلقت الأشياء كلها، وهي بمشيئتك كانت”
(رؤيا4: 11). مستحق وعادل هي اشتراك في التسبحة الكونيّة
التي يقول عنا سفر الرؤيا “كلّ خليقة في السماء والأرض وتحت الأرض وفي
البحر والكون كله تقول: “للجالس على العرش وللحمل الحمد والإكرام والمجد
والجبروت إلى أبد الدهور” (رؤيا5: 13)
الساكن في الأعالي، والناظر إلى المتواضعين.
إن
الله هو الساكن الأعالي، وكما تقول التسبحة: "الله نور وساكن في النور،
وتسبحه ملائكة النور". وهو رغم كونه العاليّ إلاّ أنه ينظر إلى المتواضعين،
ذلك لأن المتواضعين هم الذين يحيون علىالأرض وقلوبهم مع الله[95]،
ويقول الكتاب: “وهذا ما قاله العلي الرفيع، ساكن الخلود، القدوس اسمه:
"أسكن في الموضع المرتفع المقدس، كما أسكن مع المنسحق والمتواضع الروح،
فأُنعش أرواح المتواضعين وقلوب المنسحقين"” (أشعياء57: 15).
وقد
أنشدت مريم العذراء لهذا الإله الّذي يحبّ وينظر إلى المتواضعين فقالت:
“تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر إلىَّ أنا خادمته الوضيعة... بدد المتكبرين في قلوبهم... ورفع المتواضعين”
(لوقا1: 46-51). كما ذكر القديس يعقوب أن الله "يرد المتكبرين وينعم على
المتواضعين" (يعقوب4: 6)، ومن ثمَّ دعا المؤمنين قائلاً: "تواضعوا أمام
الرب يرفعكم"(4: 10).
الّذي خلق السماء والأرض وكل ما فيها.
إن
هذه العبارة هي الآية الاولى التي في الكتاب المقدس “في البدء خلق الله
السّماوات والأرض” (تكوين1:1) وفعل "الخلق" هو فعل لا يستخدم إلاّ مع الله
فقط. والخلق في الكتاب المقدس يعنى إخارج من العدم “يدعو غير الموجود إلى
والوجود” (رومية4: 17)، والخلق هو منح الحياة بطريقة مستمرة “به نحيَّ
ونتحرك ونوجد” (أعمال17: 28) أي أن الخلق هو إحياء مستمر ، فعل بصيغة
المضارع أكثر منه في صيغة الماضي، “الله الّذي يحيّ كلّ شيء” (1تيموثاوس6:
13)، وأيضاً “إنه الله خالق الكون وكل ما فيه... هو الّذي يعطي البشر كلهم
الحياة ونسمة الحياة وكل شيء” (أعمال17: 24)[96].
وتشير عبارة "وكل ما فيها"، إلى كون الله هو الخالق لكل الكون “خلق العالم
وكل ما فيه” (رؤيا10: 6) وبذات المعني يقول بولس “الله الحيّ الّذي خلق
السموات والأرض والبحر وكل ما فيها” (أعمال14: 15). كما أن الخالق لا يتغير
كما الخليقة، فهو لا يزول، “أنت يا ربّ أسست الأرض في البدء، بيدك صنعت
السموات، هي تزول وأنت تبقى، كلها كالثوب تبلى، تطويها طيّ الرداء فتتغير،
وأنت أنت لا تنتهي أيامك” (عبرانيين 1: 10-12).
أبو ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، هذا الّذي خلقتَ به كلّ شيء ما يرى وما لا يرى.
إن
الله الخالق، الّذي عرفه شعب العهد القديم، كشف الآن، في العهد الجديد، عن
نفسه كأب ليسوع المسيح، وكأب لكلّ البشر في يسوع المسيح، لأن المسيح هو
“بكر كلّ الخلائق” (كولوسي1: 15). ولأنه يشترك اشتراكاً وثيقاً مع الآب في
الخلق، فهو “الرب الواحد... الّذي به كان كلّ شيء وبه نحن قائمون”
(1كورنثوس8: 6)، وهو مبدأ أعمال الله (رؤيا3: 14)، والله به خلق العالم
(عبرانيين1: 2). وهو أيضاً “صورة الله الّذي لا يرى، وبكر الخلائق كلها[97]. به خلق الله كلّ شيء، في السماوات وفي الأرض ما يرى وما لا يرى... به وله وخلق كلّ شيء” (كولوسي1: 15-17).
وبناء
على ما سبق يمكننا القول بأن في المسيح يجد التعليم عن الخلق كماله، من
حيث كون المسيح هو النموذج والهدف والمقياس والغاية لكل الخلائق.
الجالس على كرسي مجده، والمسجود له من جميع القوات المقدسة.
إن
جلوس المسيح عن يمين الآب دليلٌ وعلامةٌ على المجد الّذي تكلل به الابن
بعد القيامة والصعود (لوقا24: 26). والحقيقة القائمة بين المجد وشخص المسيح
هي حقيقة أساسيّة، يكشفُها لنا العهدُ الجديد، لأن مجد الله يتجلى “على
وجه المسيح” (2كورنثوس1: 3)، ولأن المسيح هو “بهاء مجد الله وصورة جوهره،
يحفظ الكون بقوة كلمته. لما طهرنا من خطايانا جَلَسَ عن يمين إله المجد في
الأعالي” (عبرانيين1: 3). وهذا المجد يشع منه على جميع البشر (2كورنثوس3:
18)، لأنه هو “رب المجد” (1كورنثوس2: 8). ولأن به أصبح “لنا رئيس كهنة هذه
عظمته، جلس عن يمين عرش الجلال في السماوات” (عبرانيين8: 1)[98].
كما يؤكد العهد الجديد على أن هذا المجد كان دائماً للمسيح، فرغم أنه ناله بعد القيامة الصعود[99]،
إلاّ أنه كان معدّ له “قبل إنشاء العالم” (يوحنا17: 24). وذلك لأن مجد
المسيح مساوٍ للمجد الّذي "لله"، لدرجة أن بولس يوضح أن مجد سيناء
بالمقارنة به لم يكن مجداً (1كورنثوس3: 10).وقد رأى اسطفانوس وهو مشرف على
الموت “مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله” (أعمال7: 55). كما أُصيب شاول
بالعمى “لشدة ذلك النور الباهر” (أعمال22: 11).
أما
الجلوس عن يمين الآب فهذا تحقيق لكلام المسيح ذاته الّذي قال: “سترون بعد
اليوم ابن الإنسان جالساُ عن الله القدير وآتياً على السحاب” (متى26: 64)[100]،
وأيضاً “ هو منذ الآن جالس عن يمين قوة الله” (لوقا22: 69). ومن ثمَّ
يدعونا القديس بولس إلى طلب ما هو فوق “اطلبوا ما هو فوق، حيث المسيح جالس
عن يمن الله” (كولوسي3: 1). ولكونه جَلَسَ عن يمين الآب تخضع له كلّ القوات
“الذي صعد إلى السماء وهو عن يمين الله تخضع له الملائكة والقوات وأصحاب
السلطان” (1بطرس3: 22)[101].
أيها الجلوس قفوا.
وهنا تأتي دعوة الشماس للشعب للوقوف كعلامة على مشاركة الشعب في تسبيح الابن الجالس
عن يمين الله، مشاركة في التسبيح الّذي تسبحه به كلّ الكراسي والأرباب
والقوات. كما أن الوقوف علامة على الانتباه وحضور لذلك الإله الحاضر دوماً.
كما أن الإنسان لا يستطيع، وهو الضعيف، أن يجلس أمام العظمة الإلهية، نجد
الأمر بالوقوف ينطلق من الله ذاته الّذي يقول لموسى: “كن مستعداً في
الصباح، واصعد إلى جبل سيناء وقف أمامي” (خروج34: 2)، وكذلك أمر الرب لإيليا، عندما تراءى له في هيئة صوت هادئ خفيف: “قف على الجبل أمامي” (1ملوك19: 11)، وهكذا أمر الرب إرميا: “قف في دار هيكل الرب” (إرميا26: 2).
كما
أن الدعوة إلى الوقوف تحمل في باطنه دعوة للاستعداد للرسالة، فالمسيح
عندما ظهر لشاول قال له: “قم وقف على رجليك لأني ظهرت لك لأجعل منك خادماً
لي” (أعمال26: 16)، والرب الّذي ظهر لشاول يحضر بذاته حضوراً حقيقياً من
خلال الخبز والخمر في سر الإفخارستيا[102].
الّذي يقف أمامه الملائكة ورؤساء الملائكة، الرئاسات والسلطات والكراسي والأرباب والقوات.
إن
دعوة الشماس للشعب بالوقف هي دعوة لمشاركة كلّ القوات السمائية، الملائكة
ورؤساء الملائكة، والرئاسات والكراسي والأرباب والقوات، التي تقف أمام
المسيح “وكان جميع الملائكة محيطين بالعرش والشيوخ والكائنات الحيّة
الأربعة، فارتموا على وجوههم عند العرش ساجدين لله” (رؤيا11).
والملائكة
هم “أرواح مسخرة للخدمة، سيرسلون من أجل خير الّذين يرثون الخلاص”
(عبرانيين1: 14). وقد شغل عالم الملائكة مكاناً في فكر المسيح ذاته، أثناء
وجده على الأرض، فكان على علاقة حميمة معهم (راجع: متى4: 11، ولوقا22: 43)،
كما أنه أوضح أنهم سوف يواكبون يوم مجيئه (متى25: 31)، ويصعدون وينزلون
فوقه (يوحنا28: 10+)، وسيرسلهم ليجمعوا له المختارين (متى24: 31+). ورغم أن
المسيح أحط نفسه دونهم بالتجسد (عبرانيين2: 7)، فقد استحق مع ذلك أن
يسجدوا له بصفته ابن الله (عيرانيين1: 6-7، مزمور98: 7). ولا سيما وأن الله
منذ القيامة قد أجلسه فوق الملائكة (أفسس1: 20-21). وخلاصة القول أن عالم
الملائكة يخضع للمسيح الذين عرفوا سره (اتيموثاوس3: 16، و1 بطرس1: 12).
وإلى الشرق انظروا.
كما
دعا الشماس الشعب بالوقوف يدعوهم الآن للنظر نحو الشرق، وفي ذلك تذكرة
بالسماء وما فيها من ملائكة ورؤساء. وتذكرة بذات الدعوة التي قالها الرب
لأورشليم “تطلعي يا أُورشليم إلى المشرق، وانظري الفرح الآتي إليك من عند الله” (باروك4: 36)[103]،
أي أن الدعوة للنظر إلى المشرق هي دعوة لاستقبال الفرح الآتي من الله، وهل
من فرح أعظم وأسمى من حضور الله ذاته وسط شعبه، "عمانوئيل".
والجدير
بالذكر أيضاً أن أكثر صلوات شعب العهد القديم بدأت بدعوة الرب لأن يشرق
عليه، “الرب أشرق علينا” (مزمور50: 2) ونجد كاتب المزمور يتضرع لله أن يشرق
على الشعب “يا راعي إسرائيل أصغ... يا جالس على الكاروبيم أشرق” (مزمور80:
2)
أنت هو الّذي يقف حولك الشاروبيم الممتلئون أعيناً والسيرافيم ذوو الستة الأجنحة، يسبحون دائماً بغير سكوت، قائلين:
إن
تصوّر الرب وهو على العرش وحوله الأجناد السمائية تصور قديم، فميخا النبي
يقول: “رأيت الرب جالساً على عرشه وجميع ملائكة السماء وقوفٌ لديه، على
يمينه وشماله” (1ملوك22: 19)، والشيء نفسه يذكر دانيال عندما يصف رؤيته لله
وهو جال على العرش فيقول: “كان لباسه أبيض، وشعر رأسه كالصوف النقيّ،
وعرشه لهيب نار. وتخدمه أُلوف أُلوف، وتقف بين يديه ربوات ربوات” (دانيال7:
9)، وكذلك سفر الرؤيا “نظرت، فسمعت أصوات كثير من الملائكة وهم يحيطون
بالعرش وبالكائنات الحيّة الأربعة والشيوخ، وكان عددهم آلافاً مؤلفة”.
الشاروبيم يسجدون لك، والسيرافيم يمجدونك صارخين قائلين: قدوس، القدوس، قدوس ربّ الصباؤوت، السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس.
إن
هذه العبارة تذكرنا بدعوة أشعياء النبي، “رأيت السيد الرب جالساً على عرش
عالٍ رفيعٍ وأطراف ثوبه تملأ الهيكل. من فوقه السَّرافيم، قائمون ولكل واحد
ستةُ أجنحة، باثنين يستر وجهه وباثنين يستر رجليه وباثنين يطير. وكان
وأحدهم ينادي الآخر ويقول: قدوس قدوس قدوس الرب القدير. الأرض كلّها مملوءة
من مجده... فقلت ويلٌ لي! هلكت لأني رجل دنس الشفتين ومقيم بين شعب دنس
الشفاه. فالّذي رأته عيناي هو الملك القدير” (أشعياء6: 1-5)[104]،
وهذا يعني أن الإنسان عندما يقترب من قداسة الله يشعر بضعفه وعدم
استحقاقه. والشعب وقد وصل إلى قبيل الكلمات التقديس التي تفوه بها السيد
المسيح، يكرر كلمات أشعياء النبي، ليشترك، من ناحية، في هتاف الملائكة، ومن
ناحيّة أخرى، ليشعر بدعوة الله القدير له، هذا الإله الّذي يملئ مجدُه
الأرض والسماء.
رحمة السلام ذبيحة التسبيح
إن
الله قد خلصنا برحمته، “فلما ظهر حنان الله مخلصنا ومحبته للبشر، خلصنا،
لا لأيّ عمل صالح عملناه، بل لأنه شاء برحمته أن يخلصنا بغسل الميلاد
الثاني لحياة جديدة بالروح القدس” (تيطس3: 5-6)، وصالحنا بابنه يسوع
المسيح، “وهذا كله من الله الّذي صالحنا بالمسيح وعهد إلينا بخدمة
المصالحة، أي أن الله صالح العالم مع نفسه في المسيح” (2كورنثوس5: 18-19).
ومن هذا الإيمان تأتي صلاة الشعب وذبيحته كتحقيق لهذا الصلح، كعلامة لهذا
السلام، “فلنتقدم إلى الله بالمسيح ذبيحة الحمد في كلّ شيء، ثمرة شفاه تسبح
اسمه” (عبرانيين13: 15)[105].
ننصت
حضور الرب"عمانوئيل"، هو الحضور الّذي
سيحّل الخبز والخمر إلى جسد ودم الرب. حضور يجعل الشماس يدعو الشعب إلى
الصمت والإصغاء استعدادا له، وفق قول حبقوق النبي، “الرب في هيكله المقدس،
فاسكتوا أمام وجهه يا جميع أهل الأرض” (حبقوق2: 20)، وكذلك قول زكريا
النبي، “ليسكت كلّ البشر أمام وجه الرب” (زكريا3:13).
قدوس، قدوس، قدوس
إن
قول قدوس قدوس قدوس هو اشتراك في صلاة القوات السمائية، هذه الصلاة التي
لا تتوقف، ولا تتبدل،"والأربعة الحيوانات لكل واحد منها ستة أجنحة حولها
ومن داخل مملوءة عيونا ولا تزال نهارا وليلا قائلة قدوس قدوس قدوس الرب
الإله القادر على كل شيء الذي كان والكائن والذي يأتي"(رؤيا4: 8).
ومن هذه الصلاة يبدأ الكاهن في سرد أهم أحداث تاريخ العلاقة بين الله والإنسان، من خلق "وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض.ونفخ في انفه نسمة حياة.فصار آدم نفسا حيّة". ووصيّة
بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، "وغرس الرب الإله جنّة في عدن
شرقا.ووضع هناك آدم الذي جبله. وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية
للنظر وجيدة للأكل.وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر.
وأوصى الرب الإله آدم قائلا من جميع شجر الجنة تأكل أكلا. وأما شجرة معرفة
الخير والشر فلا تأكل منها.لأنك يوم تأكل منها موتا تموت". وسقوط،
“ورأت المرأة أن الشجرة طيبة للمأكل وشهيّة للعين، وأنها باعثة للفهم،
فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت زوجها أيضاً، وكان معها فأكل. فانفتحت أعينهما
فعرفا أنهما عريانان” (تكوين3: 6-7). وطرد من الحياة الأبدية، “فأخرج الرب الإله آدم من جنة عدن ليفلح الأرض التي أُخذ منها. فطرد آدم” (تكوين3: 23). وتفقد
دائم من قبل الله عن طريق الأنبياء والقديسين، ومن ظهور للابن في ملء
الزمان، "كلم الله آباءنا من قديم الزمان بلسان الانبياء مرات كثيرة
وبمختلف الوسائل، ولكنه في هذه الأيام الأخيرة كلمنا بابنه"(عبرانيين1: 1). ومن خلاص في شخص الابن، "لان الله لم يجعلنا للغضب بل لاقتناء الخلاص بربنا يسوع المسيح" (اتسالونيكي5: 9). الذي تجسد
من الروح القدس ومن ومريم العذراء "أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا.لما
كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس"(متى1:
18).
تجسد وصار وإنساناً
إن
عبارة "تجسد وصار وإنساناً"، هي من ناحيّة، عبارة كتابيّة، فالقديس يوحنا
الرسول يقول في إنجيله “والكلمة صار بشراً وعاش بيننا” (يوحنا1: 14)، ويؤكد
في رسالته أن المسيح هو ذاك الشخص الّذي عاش بينهم، “الذي كان منذ البدء،
الّذي سمعناه ورأيناه بعيوننا، الّذي تأملناه ولمسته أيدينا من كلمة
الحياة... الّذي رأيناه وسمعناه نبشركم به لتكونوا انتم أيضاً شركاءنا”
(1يوحنا1: 1-3). ومن ثمَّ فلإيمان بأن الله، في شخص المسيح، تجسد وصار
إنساناً، هو إيمان يرتكز على حقيقة ثابتة، حقيقة يؤكدها هؤلاء الذين خبروها
وعاشوها.
ومن
ناحية أخرى، هي عبارة، تعبر عن حب الله اللامتناهي، هذا الحب الّذي يتجلى
في شخص الابن، “هو في صورة الله، ما اعتبر مساواته لله غنيمة له، بل أخلى
ذاته واتخذ صورة العبد، صار شبيها بالبشر، وظهر في صورة إنسان” (فليبي 2:
6-7).
وعلّمنا طريق الخلاص
الخلاص
ثمرة لهذا التجسد، ولهذه المحبة. “خلاص من أعدائنا ومن جميع مبغضينا”
(لوقا1: 71)، خلاص بالمسيح إذ “لا خلاص إلاّ بيسوع، فما من اسم آخر تحت
السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص” (أعمال4: 12)[106]،
لأن المسيح هو “كلمة الله التي أرسلت للخلاص” (أعمال13: 26)، خلاص لجميع
الأمم “إن الله أرسل خلاصه إلى جميع الأمم” (أعمال28:28)، خلاص يؤمن به
القلب وينطق به اللسان لأن “الإيمان بالقلب يقود إلى البر، والشهادة
باللسان تقود إلى الخلاص” (رومية10:10)، خلاص قريب بل وحاضر “الآن وقت رضى
الله. وها هو الآن يوم خلاص” (2كرونثوس6: 2)، خلاص يدفعنا إلى الشكر الدائم
“علينا أن نحمد الله كلّ حين... لأن الله أختاركم منذ البدء ليخلصكم
بالقداسة التي يمنحها الروح وبالإيمان بالحق” (2تسالونيكي2: 13)، خلاص “فتش
عنه الأنبياء” (1بطرس1: 10).
وأنعم علينا بالميلاد الّذي من فوق بواسطة الماء والروح
"أجاب يسوع الحق الحق أقول لك ان كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر ان يدخل ملكوت الله" (يوحنا3: 5).
وجعلنا له شعباً مجتمعاً، وصيرنا أطهاراً بروحك القدوس
“أعطانا روحه القدوس" (1تسالونيكي4: 8).
هذا الّذي أحب خاصته الذين في العالم وبذل ذاته فداءً عنا إلى الموت الّذي تملك علينا
“أما
يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم ان ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم الى
الآب إذ كان قد احب خاصته الذين في العالم احبهم الى المنتهى" (يوحنا13: 1)[107].
هذا الّذي كنا ممسَكين به مبعين من قبل خطايانا نزل إلى الجحيم من قبل الصليب. وقام من الأموات في اليوم الثالث
"انه قد قام من الأموات". (متى28: 7)، "أنه دفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب" (1كورنثوس15: 4).
وصعد إلى السموات وجلس عن يمينك أيها الآب
مرقس16: 19 "ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله".
ورسم يوماً للمجازاة، هذا الّذي فيه يأتي ليدين المسكونة بالعدل ويعطي كلّ واحد كأعماله
"المسيح
هو الّذي مات ، بل بالحري قام أي، الّذي هو أيضاً عن يمين الله، الّذي هو
أيضاً يشفع فينا" (رومية8: 34). وكذلك "فان ابن الإنسان سوف يأتي في مجد
أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كلّ واحد حسب أعماله"(متى16: 27).
كرحمتك يا رب ولا كخطايانا.
إن
عبارة "كرحمتك يارب ولا كخطايانا" هي صلاة موازيّة لتلك الصلاة التي تضرع
بها رجالات الله في الكتاب المقدس: فصلى نحميا إلى الله قائلاً: "أيها الرب
إله السماوات الجبار العظيم الرهيب الّذي تحفظ العهد وترحم محبيك
والعاملين بوصاياك... اسمع يارب صلاتي وصلوات عبادك الذين يخافون اسمك
ووفقني اليوم لأجد رحمة عند الملك" (نحميا1: 4-11). وقال طوبيا النبي "أنت
عادل أيها الرب وكل طرقك وأعمال رحمة وحق. فاذكرني وانظري إليّ ولا تعاقبني
على جهلي وخطايايّ ولا على خطايا آبائي التي ارتكبوها أمامك"(طوبيا3: 2).
وصلى يشوع بن سيراخ فقال: "ما أعظم رحمة الرب وعفوه للذين يأتون تأبين"
(سيراخ17: 29) كما أوضح أن رحمة الرب تختلف جذريا عن رحمة الإنسان "رحمة
الإنسان لقريبه، أما رحمة الرب فلكل ذي جسد" (سيراخ 18: 13) وامتلأت
المزامير، وهي الصلوات التي كان يصليها شعب العهد القديم والجديد، بالآيات
التي تؤكد على رحمة الله، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: "كل سبل الرب
رحمة وحق لمن يحفظ عهده وفرائضه" (مزمور25: 10)، وأيضاً "الرب يحب العدل
والإنصاف، ومن رحمته تمتلئ الأرض" (مزمور33: 5)، "رحمة الرب في كلّ يوم"
(مزمور52: 3). "رحمة الرب من الأزل وإلى الأبد"(مزمور103: 17). كما
أن زكريا الشيخ، عندما أمتلئ من الروح القدس، صلى إلى الرب قائلاً: "لأن
الرب إلهنا رحيم رؤوف يتفقدنا بأحشاء رحمة" (لوقا1: 78)...والرحمة صفة صفات
الله "لأن الرب إلهكم حنان ورحيم"(2أخبار30: 9).
وانطلاقاً
من كل هذه الخلفيّة الكتابيّة يأتي طلب الرحمة من الله، طلب يملؤه الثقة
في رحمة الله، من ناحيّة، "فلنتقدم بثقة إلى عرش واهب النعمة لننال رحمة
ونجد نعمة تعيننا عند الحاجة" (عبرانيين4: 16)، والإحساس العميق بالضعف
والخطيئة، من ناحية أخرى، لا سيما وأن الإنسان أمام عرش الرب، أمام حضرة
الرب يكتشف كونه خاطئاً[108].
وتجد الإشارة هنا إلى ان هذه العبارة تأتي في هذا الموضع لـتأكد شيئين:
الأول "طلب رحمة الله، وغفرانه"، والثاني لتذكير المؤمنين بأن الله يطلب من
الإنسان رحمة لا ذبيحة (هوشع6:6، وأيضاً متى12: 7).
ووضع
لنا هذا السر العظيم الّذي للتقوى. لأنه فيما هو راسم أن يسلّم حياته
للموت عن حياة العالم. أخذ خبزاً على يديه الطاهرتين اللتين بلا عيب ولا
دنس الطوباويتين المحييتين.ونظر إلى السماء إليك يا الله أباه وسيد كلّ
أحد، وشكر، وباركه، وقدسه.وقسمه وأعطاه لخواصه التلاميذ القديسين والرسل
الأطهار قائلاً: خذوا، كلوا منه كلكم، لأن هذا هو جسدي الّذي يقسّم عنكم
وعن كثيرين يعطى لمغفرة الخطايا. هذا اصنعوه لذكري.وهكذا أيضاً الكأس بعد
العشاء مزجها من عصير الكرم وماء، وشكر، وباركها، وقدّسّها.وذاق وأعطاها
أيضاً لتلاميذه القديسين ورسله الأطهار قائلاً: خذوا اشربوا منه كلكم لأن
هذا هو دمي الّذي للعهد الجديد الّذي يسفك عنكم وعن كثرين لمغفرة الخطايا،
هذا اصنعوه لذكري.لأن كلّ مرة تأكلون من هذا الخبز، وتشربون من هذه الكأس،
تبشرون بموتي وتعترفون بقيامتي، وتذكروني إلى أن أجيء.
إن هذه الصلاة الإفخارستيا هي تجميع لأربع نصوص في العهد الجديد هذه النصوص هي:
1- متى26:
26-29 “وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع الخبز، وبارك وكسره وناول تلاميذه
قائلا:"خذوا كلوا ، هذا هو جسدي". وأخذ كأساً وشكر وناولهم وقال:"اشربوا
منها كلكم. هذا هو دمي، دم العهد الّذي يسفك من أجل أناس كثيرين. لغفران
الخطايا" أقول لكم: لا أشرب بعد اليوم من عصير الكرمة هذا، حتى يجيء يوم
فيه أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي.
2-
مرقس14: 25 “وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع خبزا وبارك وكسره وناولهم
وقال:"خذوا، هذا هو جسدي". واخذ كأساً وشكر وناولهم، فشربوا منها كلهم،
وقال لهم:"هذا هو دمي، دم العهد الّذي يسفك من أجل أناس كثيرين"”.
3-
لوقا 22: 15-23 “ولمّا جاء الوقت، جلس يسوع مع الرسل للطعام. فقال لهم:
"كم اشتهيت أن أتناول عشاء هذا الفصح معكم قبل أن أتألم. أقول لكم: لا
لأتناوله بعد اليوم حتى يتمّ في ملكوت الله". وأخذ يسوع كأسا وشكر
وقال:"خذوا هذه الكأس واقتسموها بينكم. أقول لكم: لا أشرب بعد اليوم من
عصير الكرمة حتى يجيء ملكوت الله". وأخذ خبزاً وشكر وكسره وناولهم وقال:
"هذا هو جسدي الّذي يبذل من أجلكم، أعملوا هذا لذكري". وكذلك الكأس أيضاً
بعد العشاء، فقال: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الّذي يسفك من أجلكم"”.
4-
1كورنثوس11: 2-27 “لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً: إن الرب يسوع في
الليلة التي اسلم فيها ذاته أخذ خبزا وكر فكسر وقال: "خذوا كلوا هذا هو
جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري". كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا،
قائلا: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري".
فإنكم كلما أكلتم من هذا الخبز وشربتم من هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى
أن يجيء”[109].
ويتضح
من هذه النصوص، أن الإفخارستيا تأسست أثناء تناول وجبة عشاء الفصح، لأن
الغذاء يستخدم في وحي الكتاب المقدس للتعبير عن عمل الله في إصال وإعطاء
الحياة لشعبه. فالمن والسلوَى الّذي أعطاه الرب في الصحراء للشعب لمدة
أربعين سنة[110]، والماء النابع من الصخرة[111]، هي حقائق رمزية تشير مقدماً إلى الهبة الحقيقية التي تنطلق من فم الله[112]، أي الكلمة الخبز الحقيقي النازل من السماء[113].
ففي الإفخارستيا تحققت كلّ هذه الرموز تحقيقا كاملاً. ففي المسيح تحققت
هذه الرموز، لأنه "خبز الحياة"، أولا بكلمته التي تفتح الحياة الأبدية لمن
يؤمنون[114]، ثم بجسده ودمه اللذين أُعطيا طعاما وشرابا للمؤمنين[115].
ويُمكننا
القول بأن العشاء الأخير يقوم على حدث الخروج، فالخبز هو "إتمام تناول
الفصح" (لوقا22: 15-16)، والخمر هو "الخمر الجديد" (مرقس14: 25+)، وكما
كانوا يحيون من جديد حدث الفصح في كلّ مرة يحتفلون به، كذلك طلب المسيح من
تلاميذه ان "اصنعوا هذا لذكري"، لا لمجرد التذكر وإنما لعيش وتأوين الحدث
في كلّ مرة يقومون بالاحتفال به. والخبز والخمر اللذان كانا يقدما قربانا
كعلامة اعتراف بالخالق، اكتسبا بعد حدث الخروج، مغزى جديداً، "فالخبز
الفطير الّذي يتناوله بنو إسرائيل كلّ سنة في عيد الفصح يذكرهم بخروجهم،
على عجل، من عبوديّة أرض مصر. وأمّا ذكرى المنّ في البريّة فهي تعيد إلى
أذهان بني إسرائيل دائماً أنهم يحيون من خبز كلام الله. هناك أخيراً الخبز
اليومي وهو ثمرة أرض الميعاد وعربون صدق الله في مواعيده. “كأس البركة”
(1كو10: 16) التي يختتم بها اليهود الوليمة الفصحيّة تضفي على فرح العيد
ونشوة الخمر، معنى أُخرويّاُ نابعاً من ذاك الترقب الماسيوي لأورشليم
الجديدة. لقد أضفى يسوع، بإقامته الإفخارستيا، معنى جديداً وحاسماً على
بركة الخبز والخمر"[116].
خلاصة
القول هو أن الإفخارستيا هي "علامة الحب"، فيسوع إذ أحب خاصته الذين في
العالم، أحبهم غاية الحب، وإذ عرف أن ساعته قد حانت ليمضي من هذا العالم
ويعود إلى أبيه، أسس سر الإفخارستيا تذكاراً لموته وقيامته. وقد اختار زمن
الفصح ليعطي جسده ودمه لتلاميذه، كما قد قال لهم في كفر ناحوم[117]. وليعطي للفصح اليهودي معناه ويصله إلى كماله وملئه.
وصلاة
النافورة التي نحن بصددها الآن هي قلب الاحتفال الإفخارستي وقمته. لأنها
الصلاة التي تعاد فيها كلمات المسيح ذاتها، والصلاة التي بها يتحوّل الخبز
والخمر إلى جسد الرب ودمه، والصلاة التي تجعل المؤمنين يحيون مجدداً ما قد
عاشه التلاميذ مع الرب أثناء العشاء الأخير. والصلاة التي من خلالها تتذكر
الكنيسة ذبيحة المحبة الإلهيّة، ذبيحة فصح المسيح، "ولأن الإفخارستيا هي
تذكار فصح المسيح فهي ذبيحة أيضاً. وهذا الطابع القرباني،
في الإفخارستيا، يظهر في كلمات التأسيس نفسها: “هذه الكأس هي العهد الجديد
بدمي الّذي يُراق لأجلكم” (لوقا22: 19-20). في الإفخارستيا يعطينا المسيح
هذا الجسد عينه الّذي بذله لأجلنا على الصليب، وهذا الدم عينه “الذي أراقه
من أجل جماعة الناس لمغفرة الخطايا” (متى26: 28). الإفخارستيا هي إذن ذبيحة
لأنها تمثّل ذبيحة الصليب (أي تجعلها ماثلة لدينا) ولأنها تذكارها، وتؤتينا ثمرها"[118].
حقاً حقاً حقاً، بموتك يارب نبشر وبقيامتك المقدسة وصعودك إلى السموات نعترف.
بما
أن ذبيحة الإفخارستيا هي تذكير بموت وقيامة وصعود يسوع المسيح، يأتي جواب
الشعب الحاضر، كتأكيد على إيمانه بذلك إيماناً ثابتاً، إيماناً مبشراً
بالقيامة والصعود، إيماناً مبشراً بأن يسوع الّذي مات انتصر على الموت
بقيامته، وبأنه صعد إلى السماوات (لوقا24: 50-51). إيماناً شبيها بإيمان
الرسل، الذين يقول عنهم الكتاب “وبقوّة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة
بقيامة الرب يسوع”. ويُمكننا القول أن التبشير بالقيامة هو حجر الزاوية لكل
بشارة، وقد أوضح بولس بما لا يدع مجالا للشك “أن لم يكن المسيح قد قام
فإيمان بل وبشارتنا باطلة” (1كورونثوس15: 17)، ذلك أن المسيحيّة هي ديانة
القيامة والصعود أكثر من كونها ديانة الصليب والألم كما يظن البعض.
نسبحك، نباركك، نشكرك يارب، ونتضرع إليك يا إلهنا.
إن
المؤمنين الذين عاشوا مجدداً كلمات يسوع المسيح ينشدون من كلّ قلوبهم
مباركين وشاكرين الرب على نِعَمه التي تفوق كلّ عقل وكل تصوّر. إن أفعال:
التسبيح والشكر والتضرع، هي رغم كونها أفعال متأصلة في العهد القديم، إلاّ
أنها اكتسبت مع المسيح معنى جديدا، من حيث أن عطية المسيح لذاته، في العهد
الجديد، أصبحت هي الباعث والدافع لهذه الأفعال، "إن حمد العهد الجديد
القائم على عطيّة المسيح، هو مسيحي أيضاً، بمعنى أنه يصعد إلى الله مع
المسيح وفي المسيح (راجع أفسس3: 21)، إنه حمد بنوي في أثر صلاة المسيح
ذاتها (راجع متى11: 25)، حمد موجه مباشرة إلى المسيح شخصيّاً (متى21: 9،
أعمال19: 17، عبرانيين13: 21، أعمال5: 9). وعلى كلّ فمن الحق أن نؤكد أنه
منذ الآن يكون الرب يسوع هو حمدنا"[119]، ومصدر كلّ تسبيح وشكر وتضرع، لا سيما في الإفخارستيا التي فيها نلتقي وجها لوجه معه.
فيما
نحن أيضاً نصنع ذكر آلامه المقدسة، وقيامته من الأموات وصعوده إلى السموات
وجلوسه عن يمينك أيها الآب وظهوره الثاني الآتي من السموات المخوف المملوء
مجداً، نقرب لك قرابينك من الّذي لك، على كلّ حال ومن أجل كلّ حال وفي كلّ
حال.
إن
الإفخارستيا هي تلك التقدمة الجديدة التي تكلم عنا سفر اللاويين "تقربون
تقدمة جديدة للرب"(اللاويين23: 16)، تلك التقدمة التامة والكاملة. وهي
ذبيحة البر التي يسر بها الله، "حينئذ تسر بذبائح البر، بالتقدمة التامة"
(مزمور51: 19)، لأنها التقدمة التي تنطلق من الله لتعود إليه محملة بإيمان من قدموها.
وهي أيضاً تقدمة كونيّة "لأنه من مشترك الشمس إلى مغاربها اسمي عظيم بين
الأمم وفي كلّ مكان يقرب لاسمي بخور وتقدمه طاهرة لأن اسمي عظيم بين الأمم
قال رب الجنود" (ملاخي1: 11). كما أنها تتميز بكونها من ثمرة الأرض (ومن
ثمَّ تعب الإنسان، وعطاء الله)، "تكون لهم تقدمة من تقدمة الأرض"(حزقيال48:
12). وأخيراً أنها مستمرة في كلّ حال، وذلك لأن عطاء الرب لذاته في شخص
الابن، وعطاء الابن لذاته في على الصليب، وانتصار الابن النهائي بالقيام،
هي أشياء حدثت وتحدث وسوف تحدث إلى انقضاء الدهر، في كلّ مرة يقوم فيها
المؤمنون بالاحتفال بالافخارستيا.
نسألك
أيها الرب نحن عبيدك الخطأة غير المستحقين، نسجد لك بمسرة صلاحك، وليحل
روحك القدوس علينا. وعلى هذه القرابين الموضوعة ويطهرها، وينقلها، ويظهرها
قدساً لقديسيك. وهذا الخبز يجعله جسداً مقدساً له.ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع
المسيح، يعطى لمغفرة الخطايا، وحياة أبديّة لمن يتناول منه.وهذه الكأس
أيضاً دماً كريماً للعهد الجديد الّذي له. ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع
المسيح، يعطى لمغفرة الخطايا، وحياة أبديّة لمن يتناول منه.
يعقوب4: 8 "اقتربوا من الله ليقترب منكم اغسلوا أيديكم، أيها الخاطئون، وطهروا قلبكم يا منقسم الرأي".
مزمور51: 14 "ردّ لي سروري بخلاصك، وارسل روحك القدوس فتسندني".
حكمة9: 17 "ومن أعاليك ترسل روحك المقدس".
إن
وعد المسيح بإرسال روحه القدوس قد تحقق يوم العنصرة، هذا اليوم الّذي
انتقل فيها التلاميذ من الخوف والانغلاق إلى الإيمان والتبشير، وذلك لأن
حلول الروح القدس هو حلول مصحوب بهبة القوة، "الروح القدس يحل عليكم ويهبكم
القوّة وتكونون لي شهوداً في أورشليم واليهوديّة كلها والسامريّة، إلى
أقاصي الأرض"(أعمال1: 8). وذبيحة الإفخارستيا هي تلك الذبيحة التي يحل فيها
الروح القدس على المؤمنين فيقوي إيمانهم، وعلى القرابين فيحولها إلى جسد
ودم الرب يسوع المسيح، فتصبح الإفخارستيا بالروح القدس قرباناً حقيقية
ومقبولة، "ليكون قربان الأمم مقبولا مقدسا بالروح القدس" (رومية15: 16).
و]مكننا القول بأن حلول الروح القدس على القرابين هو الّذي يجعل، القائمة
على شخص يسوع المؤسس لها، والمقدمة إلى الله الآب، مثل:
وليمة اتحادٍ أخويّة
"خذوا اقتسموا بينكم" (لوقا22: 17). يوضح إنجيل القديس مرقس أن المسيح
"عند المساء، وصل يسوع مع الاثني عشر" (14: 17) أي أن وليمة الإفخارستيا
تمتّ مع تلاميذه، هؤلاء المطّلِعون على أسراره، فقد "أعلمهم بكل ما سمعه من
الآب" (يوحنا15:15). وفي ذلك إشارة على أن الوليمة تتم في جوٍّ أخوي،
فالمناولة لا تقوم بأن "نأكل يسوع" فسب، بل أن "نأكله معاً". وبما أننا
نأكله معاً؛ نصبح عند أكله جماعة واحدة "كأس البركة أليست اتحاداً بدم المسيح؟ والخبز المكسور أليس اتحاداً بجسد
المسيح؟ بما أن الخبز واحد فنحن أيضاً جسد واحد لأننا جميعاً نشترك في هذا
الخبز الواحد" (1كورنثوس10: 16-17)، فعلى مائدة المسيح نتجمّع بفضل المسيح
لا بفضل وجودنا معاً. إن اتحاد أعضاء جسد المسيح هو الرغبة التي صلى
لأجلها المسيح، "ليكونوا بأجمعهم واحدا كما أنك أنت، بها الآب، فيّ وأنا
فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا حتى يؤمن العالم أنك أنت أرسلتني وأنك
أحببتهم مثلما أحببتني" (يوحنا17: 21-23)[120].
* وليمة اتحاد بالله:
أن ثمرة الاتحاد بالاخوّة، هي الاتحاد بالله، كما أن ثمرة الاتحاد بالله
هي الاتحاد بالأخوة، لأن الإنسان لا يستطيع أن يتحد بالله دون أن يتحد
بالاخوة "إذا قال أحد: أنا أحب الله ، وهو يكره أخاه كان كاذباً، لأن الّذي
لا يحب أخاه وهو يراه، لا يقدر أن يُحب الله وهو لا يراه، وصيّة المسيح
لنا هي من أحب الله أحب أخاه أيضاً" (1يوحنا4: 20-21). والكنيسة
تحيّ في كلّ مرة تقيم الإفخارستيا هذه اللحظات التي عاشها يسوع، أي أنها
تحيا من جديد سر محبّة الله العظيم، تحيا وتأوّن سر اتحاد الله بالبشر، سر
زواج الله بالبشر، سر تجسد وصلب وقيامة الابن الحقيقي يسوع المسيح الّذي
فيه تمّ هذا الاتحاد، هذا الاتحاد الّذي يعبر عن "محبة الله" التي تثمر
فينا حياة، "بهذا أُظهرت محبة الله فينا ان الله قد أرسل ابنه الوحيد الى
العالم لكي نحيا به".(يوحنا4: 9).
* وليمة محبة كاملة: "فإنكم كلما أكلتم من هذا الخبز وشربتم ومن هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء"(1كورنثوس11: 27)[121].
إن المسيح الّذي قال لتلاميذه “الأكبر فيكم فليكن الخادم...أنا بينكم كمن
يخدم” (لوقا 22: 24-27)، وكذلك “من أراد أن يكون فيكم الأوّل فليكن للجميع
خدما، لأن ابن الإنسان لم يأتي ليُخدم بل ليَخدم وليُعطي حياته فدية عن
كثرين” (مرقس10: 55)، قد حقق هو ذاته هذه الكلمات أولاً، فنجده يغسل أرجل
التلاميذ، ويقدم ذاته، جسده ودمه، كعلامة قصوى إذ "ليس حب أعظم من هذا ان
يبذل الإنسان ذاته من أجل أحبائه" (يوحنا15: 13).
وهنا
تجدر الإشارة إلى أن ذبيحة العهد القديم كانت مجرد ممارسة طقسية لا تقدر
على ان تقود للكمال، بعكس ذبيحة المسيح التي فيها وبها ومن خلالها نصل إلى
الكمال والخلاص الأبدي، “كان يتم تقديم قرابين وذبائح لا تقدر أن تجعل
الكاهن كامل الضَّمير. فهي أحكام تخص الجسد وتقتصر على المأكل والمشرب...
ولكن المسيح جاء رئيس كهنة للخيرات المستقبلية... فدخل قدس الأقداس لا بدم
التيوس والعجول، بل بدمه؛ فكسب لنا الخلاص الأبدي” (عبرانيين9: 9-12).
* وليمة نور وحياة:
إن محبّة الله التي رافقت الشعب اليهودي طيلة تاريخه، ظهرت عندما اكتمل
الزمان في شخص الابن الوحيد يسوع المسيح، "ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل
الله ابنه مولودا من امرأة مولودا تحت الناموس" (غلاطية4: 4)، وفي ذلك
تعبير جذري على أن في المسيح أصبحت الرموز حقيقة، وأضحت العلامات والآيات
واقعاً محسوساً، وانتقلنا من الظلمة إلى النور، "لان الله الذي قال ان يشرق
نور من ظلمة هو الذي اشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع
المسيح"(2كورنثوس4: 6). وبذات المعنى يؤكد القديس بطرس قائلاً: "وأما أنتم
فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، وأمة مقدسة، وشعب مختار لكي تخبروا بفضائل الّذي
دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. الذين قبلا لم تكونوا شعبا، وأما الآن
فأنتم شعب الله" (1بطرس2: 9-10).
* وليمة حضور حقيقي:
في الإفخارستيا يحضر المسيح حضورا حقيقيا، “إن الرب يسوع في الليلة التي
اسلم فيها ذاته أخذ خبزا وكر فكسر وقال: "خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور
لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري"...كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا، قائلا: "هذه
الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري"” (1كورنثوس11:
23-26). إن المسيح أكد بطريقة لا مجال فيها للشك، وبكلمات لا تقبل التأويل:
“أنا خبز الحياة. من يقبل إليّ فلن يجوع، ومن يؤمن بي فلن يعطش أبدا...
أنا خبز الحياة. من يأكل من هذا الخبز يحي إلى الأبد. والخبز الّذي سأعطيه
أنا هو جسدي ابذله ليحيا العالم... الحق الحق أقول لكم: إذا لم تأكلوا جسد
ابن الإنسان وتشربوا دمه، فلن تكون فيكم الحياة. من أكل جسدي وشرب دمي فله
الحياة الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لأن جسدي طعام حقّاً ودمي مشرب
حقا. من أكل جسدي وشرب دمي ثبت فيّ وتبتُ فيه. كما أن الآب الحي أرسلني
وأني أحيا بالآب، فكذلك الّذي يأكلني سيحيا بي” (يوحنا6: 35-57). ومن ثمَّ
فحضور المسيح في الخبز والخمر هو حضور حقيقي، حضور مستمرّ، حضور أساسي
للدخول للحياة الأبدية.
* وليمة تأوين وتحقيق: إن المسيحيين في كلّ مرة يحتفلون بالافخارستيا يحققون ويأونون ما قام به المسيح.
* وليمة ثالوثيّة:
تقوم على شكر الآب، الّذي خلق ولا يزال يخلق. وذكر الابن، الّذي خلصنا نحن
البشر بصليبه وقيامته وصعوده والذي لا زال يخلص. ودعوة الروح القدس الّذي
يقدس ويحوّل وينقيـ والذي يظل يفعل ذلك حتى منتهى الدهور.
(انتقل لاسفل لمتابعة الموضوع)
تعني
عبارة ارفعوا قلوبكم للرب كرسوا قلوبكم للرب، “كرسوا قلوبكم للرب ولا
تعاندوه بعد الآن” (10: 16). لأن الله يطلب أوّلاً القلب “يا بني أعطني
قلبك” (أمثال23: 26). ولأن الإنسان عندما يكرس ويقدم قلبه للرب[93]،
يقبل الرب هذه التقدمة ويعمل على تطهيرها وتقديسها محققاً بذلك وعده
“أعطيكم قلباً جديداً وروحاً جديداً في أحشائهم، وأنزع منهم قلب الحجر
وأعطيهم قلبا من لحم” (حزقيال11: 19، وايضاً 36: 26).
كما
تُعتبر هذه العبارة دعوة إلى الاهتمام بما هو فوق، بما هو لله “فإن كنتم
قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا
بما فوق لا بما على الأرض” (كولوسي3: 1-2). دعوة إلى أن “نقرب (الى الله)
بقلب صادق وإيمان كامل، وقلوبنا مطهرة من سؤ النيّة” (عبرانيين10: 22).
ولأن المسيح يؤكد أنه “حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك” (متى6: 21)؛ تأتي
عبارة "ارفعوا قلوبكم" كدعوة وكتساؤل عن إيمان الشعب. لا سيما وهي أحياناً
تقال بصيغة التساؤل: "أين هي قلوبكم؟".
هي عند الرب.
وهنا
يعلن الشعب إيمانه، مؤكداً أن قلبه هو مع الله، ومن ثمَّ كلّ حياته وكل
كنوزه. وبعبارة أخرى يُمكننا القول أن الكلام في ظاهره يدور حول القلب وفي
باطنه حول "الإيمان"، لأنه “بغير الإيمان يستحيل إرضاء الله” (عبرانيين11:
6).
فلنشكر الربّ.
إن ارتفاع القلب لله يعبر عنه بالشكر “أشكر الله أبا ربنا ويسوع المسيح” (كولوسي1/3). فالشعب
بعدما قَبَلَ بعضه بعضاً، كعلامة على محبته بعضه لبعض، وبعدما أعلن إيمانه
رافعاً قلبه لله، تأتي الدعوّة لأن يشكر الله على هذه النِعم، وهو بهذا
الشكر يقوم بالشيء ذاته الّذي قام به ودعا إليه بولس الرسول قائلاً: “يجب أن نشكر الله كلّ حين لأجلكم، أيُّها الأخوة. وهذا حقٌّ لأن إيمانكم ينمو كثيراً ومحبّة
بعضكم لبعض تزداد بينكم جميعاً” (1تسالونيكي1: 3)، وكذلك “أمّا نحن فيجب
علينا أن نشكر الله كلّ حين لأجلكم أيُّها الأخوة، يا أحباء الربّ، لأن
الله اختاركم منذ البدء ليخلصكم بالقداسة التي يمنحها الروح والإيمان
بالحق” (2تسالونيكي1: 13)[94].
مستحق وعادل، مستحق وعادل، لأنه بالحقيقة مستحق وعادل. أيها الكائن السيد الرب إله الحق الكائن قبل كلّ الدهور والمالك إلى الأبد
يؤكد
الشعب والكاهن أن الله مستحق وعادل لهذا الشكر، وذلك تشبها بالشيوخ
الأربعة والعشرون الذين “ركعوا أمام الجالس على العرش، وسجدوا للحيّ إلى
أبد الدّهور وألقوا أكاليلهم عند العرش وهم يقولون: يا ربنا وإلهنا، لك يحق
المجد والإكرام والقدرة لأنّك خلقت الأشياء كلها، وهي بمشيئتك كانت”
(رؤيا4: 11). مستحق وعادل هي اشتراك في التسبحة الكونيّة
التي يقول عنا سفر الرؤيا “كلّ خليقة في السماء والأرض وتحت الأرض وفي
البحر والكون كله تقول: “للجالس على العرش وللحمل الحمد والإكرام والمجد
والجبروت إلى أبد الدهور” (رؤيا5: 13)
الساكن في الأعالي، والناظر إلى المتواضعين.
إن
الله هو الساكن الأعالي، وكما تقول التسبحة: "الله نور وساكن في النور،
وتسبحه ملائكة النور". وهو رغم كونه العاليّ إلاّ أنه ينظر إلى المتواضعين،
ذلك لأن المتواضعين هم الذين يحيون علىالأرض وقلوبهم مع الله[95]،
ويقول الكتاب: “وهذا ما قاله العلي الرفيع، ساكن الخلود، القدوس اسمه:
"أسكن في الموضع المرتفع المقدس، كما أسكن مع المنسحق والمتواضع الروح،
فأُنعش أرواح المتواضعين وقلوب المنسحقين"” (أشعياء57: 15).
وقد
أنشدت مريم العذراء لهذا الإله الّذي يحبّ وينظر إلى المتواضعين فقالت:
“تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر إلىَّ أنا خادمته الوضيعة... بدد المتكبرين في قلوبهم... ورفع المتواضعين”
(لوقا1: 46-51). كما ذكر القديس يعقوب أن الله "يرد المتكبرين وينعم على
المتواضعين" (يعقوب4: 6)، ومن ثمَّ دعا المؤمنين قائلاً: "تواضعوا أمام
الرب يرفعكم"(4: 10).
الّذي خلق السماء والأرض وكل ما فيها.
إن
هذه العبارة هي الآية الاولى التي في الكتاب المقدس “في البدء خلق الله
السّماوات والأرض” (تكوين1:1) وفعل "الخلق" هو فعل لا يستخدم إلاّ مع الله
فقط. والخلق في الكتاب المقدس يعنى إخارج من العدم “يدعو غير الموجود إلى
والوجود” (رومية4: 17)، والخلق هو منح الحياة بطريقة مستمرة “به نحيَّ
ونتحرك ونوجد” (أعمال17: 28) أي أن الخلق هو إحياء مستمر ، فعل بصيغة
المضارع أكثر منه في صيغة الماضي، “الله الّذي يحيّ كلّ شيء” (1تيموثاوس6:
13)، وأيضاً “إنه الله خالق الكون وكل ما فيه... هو الّذي يعطي البشر كلهم
الحياة ونسمة الحياة وكل شيء” (أعمال17: 24)[96].
وتشير عبارة "وكل ما فيها"، إلى كون الله هو الخالق لكل الكون “خلق العالم
وكل ما فيه” (رؤيا10: 6) وبذات المعني يقول بولس “الله الحيّ الّذي خلق
السموات والأرض والبحر وكل ما فيها” (أعمال14: 15). كما أن الخالق لا يتغير
كما الخليقة، فهو لا يزول، “أنت يا ربّ أسست الأرض في البدء، بيدك صنعت
السموات، هي تزول وأنت تبقى، كلها كالثوب تبلى، تطويها طيّ الرداء فتتغير،
وأنت أنت لا تنتهي أيامك” (عبرانيين 1: 10-12).
أبو ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، هذا الّذي خلقتَ به كلّ شيء ما يرى وما لا يرى.
إن
الله الخالق، الّذي عرفه شعب العهد القديم، كشف الآن، في العهد الجديد، عن
نفسه كأب ليسوع المسيح، وكأب لكلّ البشر في يسوع المسيح، لأن المسيح هو
“بكر كلّ الخلائق” (كولوسي1: 15). ولأنه يشترك اشتراكاً وثيقاً مع الآب في
الخلق، فهو “الرب الواحد... الّذي به كان كلّ شيء وبه نحن قائمون”
(1كورنثوس8: 6)، وهو مبدأ أعمال الله (رؤيا3: 14)، والله به خلق العالم
(عبرانيين1: 2). وهو أيضاً “صورة الله الّذي لا يرى، وبكر الخلائق كلها[97]. به خلق الله كلّ شيء، في السماوات وفي الأرض ما يرى وما لا يرى... به وله وخلق كلّ شيء” (كولوسي1: 15-17).
وبناء
على ما سبق يمكننا القول بأن في المسيح يجد التعليم عن الخلق كماله، من
حيث كون المسيح هو النموذج والهدف والمقياس والغاية لكل الخلائق.
الجالس على كرسي مجده، والمسجود له من جميع القوات المقدسة.
إن
جلوس المسيح عن يمين الآب دليلٌ وعلامةٌ على المجد الّذي تكلل به الابن
بعد القيامة والصعود (لوقا24: 26). والحقيقة القائمة بين المجد وشخص المسيح
هي حقيقة أساسيّة، يكشفُها لنا العهدُ الجديد، لأن مجد الله يتجلى “على
وجه المسيح” (2كورنثوس1: 3)، ولأن المسيح هو “بهاء مجد الله وصورة جوهره،
يحفظ الكون بقوة كلمته. لما طهرنا من خطايانا جَلَسَ عن يمين إله المجد في
الأعالي” (عبرانيين1: 3). وهذا المجد يشع منه على جميع البشر (2كورنثوس3:
18)، لأنه هو “رب المجد” (1كورنثوس2: 8). ولأن به أصبح “لنا رئيس كهنة هذه
عظمته، جلس عن يمين عرش الجلال في السماوات” (عبرانيين8: 1)[98].
كما يؤكد العهد الجديد على أن هذا المجد كان دائماً للمسيح، فرغم أنه ناله بعد القيامة الصعود[99]،
إلاّ أنه كان معدّ له “قبل إنشاء العالم” (يوحنا17: 24). وذلك لأن مجد
المسيح مساوٍ للمجد الّذي "لله"، لدرجة أن بولس يوضح أن مجد سيناء
بالمقارنة به لم يكن مجداً (1كورنثوس3: 10).وقد رأى اسطفانوس وهو مشرف على
الموت “مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله” (أعمال7: 55). كما أُصيب شاول
بالعمى “لشدة ذلك النور الباهر” (أعمال22: 11).
أما
الجلوس عن يمين الآب فهذا تحقيق لكلام المسيح ذاته الّذي قال: “سترون بعد
اليوم ابن الإنسان جالساُ عن الله القدير وآتياً على السحاب” (متى26: 64)[100]،
وأيضاً “ هو منذ الآن جالس عن يمين قوة الله” (لوقا22: 69). ومن ثمَّ
يدعونا القديس بولس إلى طلب ما هو فوق “اطلبوا ما هو فوق، حيث المسيح جالس
عن يمن الله” (كولوسي3: 1). ولكونه جَلَسَ عن يمين الآب تخضع له كلّ القوات
“الذي صعد إلى السماء وهو عن يمين الله تخضع له الملائكة والقوات وأصحاب
السلطان” (1بطرس3: 22)[101].
أيها الجلوس قفوا.
وهنا تأتي دعوة الشماس للشعب للوقوف كعلامة على مشاركة الشعب في تسبيح الابن الجالس
عن يمين الله، مشاركة في التسبيح الّذي تسبحه به كلّ الكراسي والأرباب
والقوات. كما أن الوقوف علامة على الانتباه وحضور لذلك الإله الحاضر دوماً.
كما أن الإنسان لا يستطيع، وهو الضعيف، أن يجلس أمام العظمة الإلهية، نجد
الأمر بالوقوف ينطلق من الله ذاته الّذي يقول لموسى: “كن مستعداً في
الصباح، واصعد إلى جبل سيناء وقف أمامي” (خروج34: 2)، وكذلك أمر الرب لإيليا، عندما تراءى له في هيئة صوت هادئ خفيف: “قف على الجبل أمامي” (1ملوك19: 11)، وهكذا أمر الرب إرميا: “قف في دار هيكل الرب” (إرميا26: 2).
كما
أن الدعوة إلى الوقوف تحمل في باطنه دعوة للاستعداد للرسالة، فالمسيح
عندما ظهر لشاول قال له: “قم وقف على رجليك لأني ظهرت لك لأجعل منك خادماً
لي” (أعمال26: 16)، والرب الّذي ظهر لشاول يحضر بذاته حضوراً حقيقياً من
خلال الخبز والخمر في سر الإفخارستيا[102].
الّذي يقف أمامه الملائكة ورؤساء الملائكة، الرئاسات والسلطات والكراسي والأرباب والقوات.
إن
دعوة الشماس للشعب بالوقف هي دعوة لمشاركة كلّ القوات السمائية، الملائكة
ورؤساء الملائكة، والرئاسات والكراسي والأرباب والقوات، التي تقف أمام
المسيح “وكان جميع الملائكة محيطين بالعرش والشيوخ والكائنات الحيّة
الأربعة، فارتموا على وجوههم عند العرش ساجدين لله” (رؤيا11).
والملائكة
هم “أرواح مسخرة للخدمة، سيرسلون من أجل خير الّذين يرثون الخلاص”
(عبرانيين1: 14). وقد شغل عالم الملائكة مكاناً في فكر المسيح ذاته، أثناء
وجده على الأرض، فكان على علاقة حميمة معهم (راجع: متى4: 11، ولوقا22: 43)،
كما أنه أوضح أنهم سوف يواكبون يوم مجيئه (متى25: 31)، ويصعدون وينزلون
فوقه (يوحنا28: 10+)، وسيرسلهم ليجمعوا له المختارين (متى24: 31+). ورغم أن
المسيح أحط نفسه دونهم بالتجسد (عبرانيين2: 7)، فقد استحق مع ذلك أن
يسجدوا له بصفته ابن الله (عيرانيين1: 6-7، مزمور98: 7). ولا سيما وأن الله
منذ القيامة قد أجلسه فوق الملائكة (أفسس1: 20-21). وخلاصة القول أن عالم
الملائكة يخضع للمسيح الذين عرفوا سره (اتيموثاوس3: 16، و1 بطرس1: 12).
وإلى الشرق انظروا.
كما
دعا الشماس الشعب بالوقوف يدعوهم الآن للنظر نحو الشرق، وفي ذلك تذكرة
بالسماء وما فيها من ملائكة ورؤساء. وتذكرة بذات الدعوة التي قالها الرب
لأورشليم “تطلعي يا أُورشليم إلى المشرق، وانظري الفرح الآتي إليك من عند الله” (باروك4: 36)[103]،
أي أن الدعوة للنظر إلى المشرق هي دعوة لاستقبال الفرح الآتي من الله، وهل
من فرح أعظم وأسمى من حضور الله ذاته وسط شعبه، "عمانوئيل".
والجدير
بالذكر أيضاً أن أكثر صلوات شعب العهد القديم بدأت بدعوة الرب لأن يشرق
عليه، “الرب أشرق علينا” (مزمور50: 2) ونجد كاتب المزمور يتضرع لله أن يشرق
على الشعب “يا راعي إسرائيل أصغ... يا جالس على الكاروبيم أشرق” (مزمور80:
2)
أنت هو الّذي يقف حولك الشاروبيم الممتلئون أعيناً والسيرافيم ذوو الستة الأجنحة، يسبحون دائماً بغير سكوت، قائلين:
إن
تصوّر الرب وهو على العرش وحوله الأجناد السمائية تصور قديم، فميخا النبي
يقول: “رأيت الرب جالساً على عرشه وجميع ملائكة السماء وقوفٌ لديه، على
يمينه وشماله” (1ملوك22: 19)، والشيء نفسه يذكر دانيال عندما يصف رؤيته لله
وهو جال على العرش فيقول: “كان لباسه أبيض، وشعر رأسه كالصوف النقيّ،
وعرشه لهيب نار. وتخدمه أُلوف أُلوف، وتقف بين يديه ربوات ربوات” (دانيال7:
9)، وكذلك سفر الرؤيا “نظرت، فسمعت أصوات كثير من الملائكة وهم يحيطون
بالعرش وبالكائنات الحيّة الأربعة والشيوخ، وكان عددهم آلافاً مؤلفة”.
الشاروبيم يسجدون لك، والسيرافيم يمجدونك صارخين قائلين: قدوس، القدوس، قدوس ربّ الصباؤوت، السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس.
إن
هذه العبارة تذكرنا بدعوة أشعياء النبي، “رأيت السيد الرب جالساً على عرش
عالٍ رفيعٍ وأطراف ثوبه تملأ الهيكل. من فوقه السَّرافيم، قائمون ولكل واحد
ستةُ أجنحة، باثنين يستر وجهه وباثنين يستر رجليه وباثنين يطير. وكان
وأحدهم ينادي الآخر ويقول: قدوس قدوس قدوس الرب القدير. الأرض كلّها مملوءة
من مجده... فقلت ويلٌ لي! هلكت لأني رجل دنس الشفتين ومقيم بين شعب دنس
الشفاه. فالّذي رأته عيناي هو الملك القدير” (أشعياء6: 1-5)[104]،
وهذا يعني أن الإنسان عندما يقترب من قداسة الله يشعر بضعفه وعدم
استحقاقه. والشعب وقد وصل إلى قبيل الكلمات التقديس التي تفوه بها السيد
المسيح، يكرر كلمات أشعياء النبي، ليشترك، من ناحية، في هتاف الملائكة، ومن
ناحيّة أخرى، ليشعر بدعوة الله القدير له، هذا الإله الّذي يملئ مجدُه
الأرض والسماء.
رحمة السلام ذبيحة التسبيح
إن
الله قد خلصنا برحمته، “فلما ظهر حنان الله مخلصنا ومحبته للبشر، خلصنا،
لا لأيّ عمل صالح عملناه، بل لأنه شاء برحمته أن يخلصنا بغسل الميلاد
الثاني لحياة جديدة بالروح القدس” (تيطس3: 5-6)، وصالحنا بابنه يسوع
المسيح، “وهذا كله من الله الّذي صالحنا بالمسيح وعهد إلينا بخدمة
المصالحة، أي أن الله صالح العالم مع نفسه في المسيح” (2كورنثوس5: 18-19).
ومن هذا الإيمان تأتي صلاة الشعب وذبيحته كتحقيق لهذا الصلح، كعلامة لهذا
السلام، “فلنتقدم إلى الله بالمسيح ذبيحة الحمد في كلّ شيء، ثمرة شفاه تسبح
اسمه” (عبرانيين13: 15)[105].
ننصت
حضور الرب"عمانوئيل"، هو الحضور الّذي
سيحّل الخبز والخمر إلى جسد ودم الرب. حضور يجعل الشماس يدعو الشعب إلى
الصمت والإصغاء استعدادا له، وفق قول حبقوق النبي، “الرب في هيكله المقدس،
فاسكتوا أمام وجهه يا جميع أهل الأرض” (حبقوق2: 20)، وكذلك قول زكريا
النبي، “ليسكت كلّ البشر أمام وجه الرب” (زكريا3:13).
قدوس، قدوس، قدوس
إن
قول قدوس قدوس قدوس هو اشتراك في صلاة القوات السمائية، هذه الصلاة التي
لا تتوقف، ولا تتبدل،"والأربعة الحيوانات لكل واحد منها ستة أجنحة حولها
ومن داخل مملوءة عيونا ولا تزال نهارا وليلا قائلة قدوس قدوس قدوس الرب
الإله القادر على كل شيء الذي كان والكائن والذي يأتي"(رؤيا4: 8).
ومن هذه الصلاة يبدأ الكاهن في سرد أهم أحداث تاريخ العلاقة بين الله والإنسان، من خلق "وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض.ونفخ في انفه نسمة حياة.فصار آدم نفسا حيّة". ووصيّة
بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، "وغرس الرب الإله جنّة في عدن
شرقا.ووضع هناك آدم الذي جبله. وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية
للنظر وجيدة للأكل.وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر.
وأوصى الرب الإله آدم قائلا من جميع شجر الجنة تأكل أكلا. وأما شجرة معرفة
الخير والشر فلا تأكل منها.لأنك يوم تأكل منها موتا تموت". وسقوط،
“ورأت المرأة أن الشجرة طيبة للمأكل وشهيّة للعين، وأنها باعثة للفهم،
فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت زوجها أيضاً، وكان معها فأكل. فانفتحت أعينهما
فعرفا أنهما عريانان” (تكوين3: 6-7). وطرد من الحياة الأبدية، “فأخرج الرب الإله آدم من جنة عدن ليفلح الأرض التي أُخذ منها. فطرد آدم” (تكوين3: 23). وتفقد
دائم من قبل الله عن طريق الأنبياء والقديسين، ومن ظهور للابن في ملء
الزمان، "كلم الله آباءنا من قديم الزمان بلسان الانبياء مرات كثيرة
وبمختلف الوسائل، ولكنه في هذه الأيام الأخيرة كلمنا بابنه"(عبرانيين1: 1). ومن خلاص في شخص الابن، "لان الله لم يجعلنا للغضب بل لاقتناء الخلاص بربنا يسوع المسيح" (اتسالونيكي5: 9). الذي تجسد
من الروح القدس ومن ومريم العذراء "أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا.لما
كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس"(متى1:
18).
تجسد وصار وإنساناً
إن
عبارة "تجسد وصار وإنساناً"، هي من ناحيّة، عبارة كتابيّة، فالقديس يوحنا
الرسول يقول في إنجيله “والكلمة صار بشراً وعاش بيننا” (يوحنا1: 14)، ويؤكد
في رسالته أن المسيح هو ذاك الشخص الّذي عاش بينهم، “الذي كان منذ البدء،
الّذي سمعناه ورأيناه بعيوننا، الّذي تأملناه ولمسته أيدينا من كلمة
الحياة... الّذي رأيناه وسمعناه نبشركم به لتكونوا انتم أيضاً شركاءنا”
(1يوحنا1: 1-3). ومن ثمَّ فلإيمان بأن الله، في شخص المسيح، تجسد وصار
إنساناً، هو إيمان يرتكز على حقيقة ثابتة، حقيقة يؤكدها هؤلاء الذين خبروها
وعاشوها.
ومن
ناحية أخرى، هي عبارة، تعبر عن حب الله اللامتناهي، هذا الحب الّذي يتجلى
في شخص الابن، “هو في صورة الله، ما اعتبر مساواته لله غنيمة له، بل أخلى
ذاته واتخذ صورة العبد، صار شبيها بالبشر، وظهر في صورة إنسان” (فليبي 2:
6-7).
وعلّمنا طريق الخلاص
الخلاص
ثمرة لهذا التجسد، ولهذه المحبة. “خلاص من أعدائنا ومن جميع مبغضينا”
(لوقا1: 71)، خلاص بالمسيح إذ “لا خلاص إلاّ بيسوع، فما من اسم آخر تحت
السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص” (أعمال4: 12)[106]،
لأن المسيح هو “كلمة الله التي أرسلت للخلاص” (أعمال13: 26)، خلاص لجميع
الأمم “إن الله أرسل خلاصه إلى جميع الأمم” (أعمال28:28)، خلاص يؤمن به
القلب وينطق به اللسان لأن “الإيمان بالقلب يقود إلى البر، والشهادة
باللسان تقود إلى الخلاص” (رومية10:10)، خلاص قريب بل وحاضر “الآن وقت رضى
الله. وها هو الآن يوم خلاص” (2كرونثوس6: 2)، خلاص يدفعنا إلى الشكر الدائم
“علينا أن نحمد الله كلّ حين... لأن الله أختاركم منذ البدء ليخلصكم
بالقداسة التي يمنحها الروح وبالإيمان بالحق” (2تسالونيكي2: 13)، خلاص “فتش
عنه الأنبياء” (1بطرس1: 10).
وأنعم علينا بالميلاد الّذي من فوق بواسطة الماء والروح
"أجاب يسوع الحق الحق أقول لك ان كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر ان يدخل ملكوت الله" (يوحنا3: 5).
وجعلنا له شعباً مجتمعاً، وصيرنا أطهاراً بروحك القدوس
“أعطانا روحه القدوس" (1تسالونيكي4: 8).
هذا الّذي أحب خاصته الذين في العالم وبذل ذاته فداءً عنا إلى الموت الّذي تملك علينا
“أما
يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم ان ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم الى
الآب إذ كان قد احب خاصته الذين في العالم احبهم الى المنتهى" (يوحنا13: 1)[107].
هذا الّذي كنا ممسَكين به مبعين من قبل خطايانا نزل إلى الجحيم من قبل الصليب. وقام من الأموات في اليوم الثالث
"انه قد قام من الأموات". (متى28: 7)، "أنه دفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب" (1كورنثوس15: 4).
وصعد إلى السموات وجلس عن يمينك أيها الآب
مرقس16: 19 "ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله".
ورسم يوماً للمجازاة، هذا الّذي فيه يأتي ليدين المسكونة بالعدل ويعطي كلّ واحد كأعماله
"المسيح
هو الّذي مات ، بل بالحري قام أي، الّذي هو أيضاً عن يمين الله، الّذي هو
أيضاً يشفع فينا" (رومية8: 34). وكذلك "فان ابن الإنسان سوف يأتي في مجد
أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كلّ واحد حسب أعماله"(متى16: 27).
كرحمتك يا رب ولا كخطايانا.
إن
عبارة "كرحمتك يارب ولا كخطايانا" هي صلاة موازيّة لتلك الصلاة التي تضرع
بها رجالات الله في الكتاب المقدس: فصلى نحميا إلى الله قائلاً: "أيها الرب
إله السماوات الجبار العظيم الرهيب الّذي تحفظ العهد وترحم محبيك
والعاملين بوصاياك... اسمع يارب صلاتي وصلوات عبادك الذين يخافون اسمك
ووفقني اليوم لأجد رحمة عند الملك" (نحميا1: 4-11). وقال طوبيا النبي "أنت
عادل أيها الرب وكل طرقك وأعمال رحمة وحق. فاذكرني وانظري إليّ ولا تعاقبني
على جهلي وخطايايّ ولا على خطايا آبائي التي ارتكبوها أمامك"(طوبيا3: 2).
وصلى يشوع بن سيراخ فقال: "ما أعظم رحمة الرب وعفوه للذين يأتون تأبين"
(سيراخ17: 29) كما أوضح أن رحمة الرب تختلف جذريا عن رحمة الإنسان "رحمة
الإنسان لقريبه، أما رحمة الرب فلكل ذي جسد" (سيراخ 18: 13) وامتلأت
المزامير، وهي الصلوات التي كان يصليها شعب العهد القديم والجديد، بالآيات
التي تؤكد على رحمة الله، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: "كل سبل الرب
رحمة وحق لمن يحفظ عهده وفرائضه" (مزمور25: 10)، وأيضاً "الرب يحب العدل
والإنصاف، ومن رحمته تمتلئ الأرض" (مزمور33: 5)، "رحمة الرب في كلّ يوم"
(مزمور52: 3). "رحمة الرب من الأزل وإلى الأبد"(مزمور103: 17). كما
أن زكريا الشيخ، عندما أمتلئ من الروح القدس، صلى إلى الرب قائلاً: "لأن
الرب إلهنا رحيم رؤوف يتفقدنا بأحشاء رحمة" (لوقا1: 78)...والرحمة صفة صفات
الله "لأن الرب إلهكم حنان ورحيم"(2أخبار30: 9).
وانطلاقاً
من كل هذه الخلفيّة الكتابيّة يأتي طلب الرحمة من الله، طلب يملؤه الثقة
في رحمة الله، من ناحيّة، "فلنتقدم بثقة إلى عرش واهب النعمة لننال رحمة
ونجد نعمة تعيننا عند الحاجة" (عبرانيين4: 16)، والإحساس العميق بالضعف
والخطيئة، من ناحية أخرى، لا سيما وأن الإنسان أمام عرش الرب، أمام حضرة
الرب يكتشف كونه خاطئاً[108].
وتجد الإشارة هنا إلى ان هذه العبارة تأتي في هذا الموضع لـتأكد شيئين:
الأول "طلب رحمة الله، وغفرانه"، والثاني لتذكير المؤمنين بأن الله يطلب من
الإنسان رحمة لا ذبيحة (هوشع6:6، وأيضاً متى12: 7).
ووضع
لنا هذا السر العظيم الّذي للتقوى. لأنه فيما هو راسم أن يسلّم حياته
للموت عن حياة العالم. أخذ خبزاً على يديه الطاهرتين اللتين بلا عيب ولا
دنس الطوباويتين المحييتين.ونظر إلى السماء إليك يا الله أباه وسيد كلّ
أحد، وشكر، وباركه، وقدسه.وقسمه وأعطاه لخواصه التلاميذ القديسين والرسل
الأطهار قائلاً: خذوا، كلوا منه كلكم، لأن هذا هو جسدي الّذي يقسّم عنكم
وعن كثيرين يعطى لمغفرة الخطايا. هذا اصنعوه لذكري.وهكذا أيضاً الكأس بعد
العشاء مزجها من عصير الكرم وماء، وشكر، وباركها، وقدّسّها.وذاق وأعطاها
أيضاً لتلاميذه القديسين ورسله الأطهار قائلاً: خذوا اشربوا منه كلكم لأن
هذا هو دمي الّذي للعهد الجديد الّذي يسفك عنكم وعن كثرين لمغفرة الخطايا،
هذا اصنعوه لذكري.لأن كلّ مرة تأكلون من هذا الخبز، وتشربون من هذه الكأس،
تبشرون بموتي وتعترفون بقيامتي، وتذكروني إلى أن أجيء.
إن هذه الصلاة الإفخارستيا هي تجميع لأربع نصوص في العهد الجديد هذه النصوص هي:
1- متى26:
26-29 “وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع الخبز، وبارك وكسره وناول تلاميذه
قائلا:"خذوا كلوا ، هذا هو جسدي". وأخذ كأساً وشكر وناولهم وقال:"اشربوا
منها كلكم. هذا هو دمي، دم العهد الّذي يسفك من أجل أناس كثيرين. لغفران
الخطايا" أقول لكم: لا أشرب بعد اليوم من عصير الكرمة هذا، حتى يجيء يوم
فيه أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي.
2-
مرقس14: 25 “وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع خبزا وبارك وكسره وناولهم
وقال:"خذوا، هذا هو جسدي". واخذ كأساً وشكر وناولهم، فشربوا منها كلهم،
وقال لهم:"هذا هو دمي، دم العهد الّذي يسفك من أجل أناس كثيرين"”.
3-
لوقا 22: 15-23 “ولمّا جاء الوقت، جلس يسوع مع الرسل للطعام. فقال لهم:
"كم اشتهيت أن أتناول عشاء هذا الفصح معكم قبل أن أتألم. أقول لكم: لا
لأتناوله بعد اليوم حتى يتمّ في ملكوت الله". وأخذ يسوع كأسا وشكر
وقال:"خذوا هذه الكأس واقتسموها بينكم. أقول لكم: لا أشرب بعد اليوم من
عصير الكرمة حتى يجيء ملكوت الله". وأخذ خبزاً وشكر وكسره وناولهم وقال:
"هذا هو جسدي الّذي يبذل من أجلكم، أعملوا هذا لذكري". وكذلك الكأس أيضاً
بعد العشاء، فقال: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الّذي يسفك من أجلكم"”.
4-
1كورنثوس11: 2-27 “لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً: إن الرب يسوع في
الليلة التي اسلم فيها ذاته أخذ خبزا وكر فكسر وقال: "خذوا كلوا هذا هو
جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري". كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا،
قائلا: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري".
فإنكم كلما أكلتم من هذا الخبز وشربتم من هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى
أن يجيء”[109].
ويتضح
من هذه النصوص، أن الإفخارستيا تأسست أثناء تناول وجبة عشاء الفصح، لأن
الغذاء يستخدم في وحي الكتاب المقدس للتعبير عن عمل الله في إصال وإعطاء
الحياة لشعبه. فالمن والسلوَى الّذي أعطاه الرب في الصحراء للشعب لمدة
أربعين سنة[110]، والماء النابع من الصخرة[111]، هي حقائق رمزية تشير مقدماً إلى الهبة الحقيقية التي تنطلق من فم الله[112]، أي الكلمة الخبز الحقيقي النازل من السماء[113].
ففي الإفخارستيا تحققت كلّ هذه الرموز تحقيقا كاملاً. ففي المسيح تحققت
هذه الرموز، لأنه "خبز الحياة"، أولا بكلمته التي تفتح الحياة الأبدية لمن
يؤمنون[114]، ثم بجسده ودمه اللذين أُعطيا طعاما وشرابا للمؤمنين[115].
ويُمكننا
القول بأن العشاء الأخير يقوم على حدث الخروج، فالخبز هو "إتمام تناول
الفصح" (لوقا22: 15-16)، والخمر هو "الخمر الجديد" (مرقس14: 25+)، وكما
كانوا يحيون من جديد حدث الفصح في كلّ مرة يحتفلون به، كذلك طلب المسيح من
تلاميذه ان "اصنعوا هذا لذكري"، لا لمجرد التذكر وإنما لعيش وتأوين الحدث
في كلّ مرة يقومون بالاحتفال به. والخبز والخمر اللذان كانا يقدما قربانا
كعلامة اعتراف بالخالق، اكتسبا بعد حدث الخروج، مغزى جديداً، "فالخبز
الفطير الّذي يتناوله بنو إسرائيل كلّ سنة في عيد الفصح يذكرهم بخروجهم،
على عجل، من عبوديّة أرض مصر. وأمّا ذكرى المنّ في البريّة فهي تعيد إلى
أذهان بني إسرائيل دائماً أنهم يحيون من خبز كلام الله. هناك أخيراً الخبز
اليومي وهو ثمرة أرض الميعاد وعربون صدق الله في مواعيده. “كأس البركة”
(1كو10: 16) التي يختتم بها اليهود الوليمة الفصحيّة تضفي على فرح العيد
ونشوة الخمر، معنى أُخرويّاُ نابعاً من ذاك الترقب الماسيوي لأورشليم
الجديدة. لقد أضفى يسوع، بإقامته الإفخارستيا، معنى جديداً وحاسماً على
بركة الخبز والخمر"[116].
خلاصة
القول هو أن الإفخارستيا هي "علامة الحب"، فيسوع إذ أحب خاصته الذين في
العالم، أحبهم غاية الحب، وإذ عرف أن ساعته قد حانت ليمضي من هذا العالم
ويعود إلى أبيه، أسس سر الإفخارستيا تذكاراً لموته وقيامته. وقد اختار زمن
الفصح ليعطي جسده ودمه لتلاميذه، كما قد قال لهم في كفر ناحوم[117]. وليعطي للفصح اليهودي معناه ويصله إلى كماله وملئه.
وصلاة
النافورة التي نحن بصددها الآن هي قلب الاحتفال الإفخارستي وقمته. لأنها
الصلاة التي تعاد فيها كلمات المسيح ذاتها، والصلاة التي بها يتحوّل الخبز
والخمر إلى جسد الرب ودمه، والصلاة التي تجعل المؤمنين يحيون مجدداً ما قد
عاشه التلاميذ مع الرب أثناء العشاء الأخير. والصلاة التي من خلالها تتذكر
الكنيسة ذبيحة المحبة الإلهيّة، ذبيحة فصح المسيح، "ولأن الإفخارستيا هي
تذكار فصح المسيح فهي ذبيحة أيضاً. وهذا الطابع القرباني،
في الإفخارستيا، يظهر في كلمات التأسيس نفسها: “هذه الكأس هي العهد الجديد
بدمي الّذي يُراق لأجلكم” (لوقا22: 19-20). في الإفخارستيا يعطينا المسيح
هذا الجسد عينه الّذي بذله لأجلنا على الصليب، وهذا الدم عينه “الذي أراقه
من أجل جماعة الناس لمغفرة الخطايا” (متى26: 28). الإفخارستيا هي إذن ذبيحة
لأنها تمثّل ذبيحة الصليب (أي تجعلها ماثلة لدينا) ولأنها تذكارها، وتؤتينا ثمرها"[118].
حقاً حقاً حقاً، بموتك يارب نبشر وبقيامتك المقدسة وصعودك إلى السموات نعترف.
بما
أن ذبيحة الإفخارستيا هي تذكير بموت وقيامة وصعود يسوع المسيح، يأتي جواب
الشعب الحاضر، كتأكيد على إيمانه بذلك إيماناً ثابتاً، إيماناً مبشراً
بالقيامة والصعود، إيماناً مبشراً بأن يسوع الّذي مات انتصر على الموت
بقيامته، وبأنه صعد إلى السماوات (لوقا24: 50-51). إيماناً شبيها بإيمان
الرسل، الذين يقول عنهم الكتاب “وبقوّة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة
بقيامة الرب يسوع”. ويُمكننا القول أن التبشير بالقيامة هو حجر الزاوية لكل
بشارة، وقد أوضح بولس بما لا يدع مجالا للشك “أن لم يكن المسيح قد قام
فإيمان بل وبشارتنا باطلة” (1كورونثوس15: 17)، ذلك أن المسيحيّة هي ديانة
القيامة والصعود أكثر من كونها ديانة الصليب والألم كما يظن البعض.
نسبحك، نباركك، نشكرك يارب، ونتضرع إليك يا إلهنا.
إن
المؤمنين الذين عاشوا مجدداً كلمات يسوع المسيح ينشدون من كلّ قلوبهم
مباركين وشاكرين الرب على نِعَمه التي تفوق كلّ عقل وكل تصوّر. إن أفعال:
التسبيح والشكر والتضرع، هي رغم كونها أفعال متأصلة في العهد القديم، إلاّ
أنها اكتسبت مع المسيح معنى جديدا، من حيث أن عطية المسيح لذاته، في العهد
الجديد، أصبحت هي الباعث والدافع لهذه الأفعال، "إن حمد العهد الجديد
القائم على عطيّة المسيح، هو مسيحي أيضاً، بمعنى أنه يصعد إلى الله مع
المسيح وفي المسيح (راجع أفسس3: 21)، إنه حمد بنوي في أثر صلاة المسيح
ذاتها (راجع متى11: 25)، حمد موجه مباشرة إلى المسيح شخصيّاً (متى21: 9،
أعمال19: 17، عبرانيين13: 21، أعمال5: 9). وعلى كلّ فمن الحق أن نؤكد أنه
منذ الآن يكون الرب يسوع هو حمدنا"[119]، ومصدر كلّ تسبيح وشكر وتضرع، لا سيما في الإفخارستيا التي فيها نلتقي وجها لوجه معه.
فيما
نحن أيضاً نصنع ذكر آلامه المقدسة، وقيامته من الأموات وصعوده إلى السموات
وجلوسه عن يمينك أيها الآب وظهوره الثاني الآتي من السموات المخوف المملوء
مجداً، نقرب لك قرابينك من الّذي لك، على كلّ حال ومن أجل كلّ حال وفي كلّ
حال.
إن
الإفخارستيا هي تلك التقدمة الجديدة التي تكلم عنا سفر اللاويين "تقربون
تقدمة جديدة للرب"(اللاويين23: 16)، تلك التقدمة التامة والكاملة. وهي
ذبيحة البر التي يسر بها الله، "حينئذ تسر بذبائح البر، بالتقدمة التامة"
(مزمور51: 19)، لأنها التقدمة التي تنطلق من الله لتعود إليه محملة بإيمان من قدموها.
وهي أيضاً تقدمة كونيّة "لأنه من مشترك الشمس إلى مغاربها اسمي عظيم بين
الأمم وفي كلّ مكان يقرب لاسمي بخور وتقدمه طاهرة لأن اسمي عظيم بين الأمم
قال رب الجنود" (ملاخي1: 11). كما أنها تتميز بكونها من ثمرة الأرض (ومن
ثمَّ تعب الإنسان، وعطاء الله)، "تكون لهم تقدمة من تقدمة الأرض"(حزقيال48:
12). وأخيراً أنها مستمرة في كلّ حال، وذلك لأن عطاء الرب لذاته في شخص
الابن، وعطاء الابن لذاته في على الصليب، وانتصار الابن النهائي بالقيام،
هي أشياء حدثت وتحدث وسوف تحدث إلى انقضاء الدهر، في كلّ مرة يقوم فيها
المؤمنون بالاحتفال بالافخارستيا.
نسألك
أيها الرب نحن عبيدك الخطأة غير المستحقين، نسجد لك بمسرة صلاحك، وليحل
روحك القدوس علينا. وعلى هذه القرابين الموضوعة ويطهرها، وينقلها، ويظهرها
قدساً لقديسيك. وهذا الخبز يجعله جسداً مقدساً له.ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع
المسيح، يعطى لمغفرة الخطايا، وحياة أبديّة لمن يتناول منه.وهذه الكأس
أيضاً دماً كريماً للعهد الجديد الّذي له. ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع
المسيح، يعطى لمغفرة الخطايا، وحياة أبديّة لمن يتناول منه.
يعقوب4: 8 "اقتربوا من الله ليقترب منكم اغسلوا أيديكم، أيها الخاطئون، وطهروا قلبكم يا منقسم الرأي".
مزمور51: 14 "ردّ لي سروري بخلاصك، وارسل روحك القدوس فتسندني".
حكمة9: 17 "ومن أعاليك ترسل روحك المقدس".
إن
وعد المسيح بإرسال روحه القدوس قد تحقق يوم العنصرة، هذا اليوم الّذي
انتقل فيها التلاميذ من الخوف والانغلاق إلى الإيمان والتبشير، وذلك لأن
حلول الروح القدس هو حلول مصحوب بهبة القوة، "الروح القدس يحل عليكم ويهبكم
القوّة وتكونون لي شهوداً في أورشليم واليهوديّة كلها والسامريّة، إلى
أقاصي الأرض"(أعمال1: 8). وذبيحة الإفخارستيا هي تلك الذبيحة التي يحل فيها
الروح القدس على المؤمنين فيقوي إيمانهم، وعلى القرابين فيحولها إلى جسد
ودم الرب يسوع المسيح، فتصبح الإفخارستيا بالروح القدس قرباناً حقيقية
ومقبولة، "ليكون قربان الأمم مقبولا مقدسا بالروح القدس" (رومية15: 16).
و]مكننا القول بأن حلول الروح القدس على القرابين هو الّذي يجعل، القائمة
على شخص يسوع المؤسس لها، والمقدمة إلى الله الآب، مثل:
وليمة اتحادٍ أخويّة
"خذوا اقتسموا بينكم" (لوقا22: 17). يوضح إنجيل القديس مرقس أن المسيح
"عند المساء، وصل يسوع مع الاثني عشر" (14: 17) أي أن وليمة الإفخارستيا
تمتّ مع تلاميذه، هؤلاء المطّلِعون على أسراره، فقد "أعلمهم بكل ما سمعه من
الآب" (يوحنا15:15). وفي ذلك إشارة على أن الوليمة تتم في جوٍّ أخوي،
فالمناولة لا تقوم بأن "نأكل يسوع" فسب، بل أن "نأكله معاً". وبما أننا
نأكله معاً؛ نصبح عند أكله جماعة واحدة "كأس البركة أليست اتحاداً بدم المسيح؟ والخبز المكسور أليس اتحاداً بجسد
المسيح؟ بما أن الخبز واحد فنحن أيضاً جسد واحد لأننا جميعاً نشترك في هذا
الخبز الواحد" (1كورنثوس10: 16-17)، فعلى مائدة المسيح نتجمّع بفضل المسيح
لا بفضل وجودنا معاً. إن اتحاد أعضاء جسد المسيح هو الرغبة التي صلى
لأجلها المسيح، "ليكونوا بأجمعهم واحدا كما أنك أنت، بها الآب، فيّ وأنا
فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا حتى يؤمن العالم أنك أنت أرسلتني وأنك
أحببتهم مثلما أحببتني" (يوحنا17: 21-23)[120].
* وليمة اتحاد بالله:
أن ثمرة الاتحاد بالاخوّة، هي الاتحاد بالله، كما أن ثمرة الاتحاد بالله
هي الاتحاد بالأخوة، لأن الإنسان لا يستطيع أن يتحد بالله دون أن يتحد
بالاخوة "إذا قال أحد: أنا أحب الله ، وهو يكره أخاه كان كاذباً، لأن الّذي
لا يحب أخاه وهو يراه، لا يقدر أن يُحب الله وهو لا يراه، وصيّة المسيح
لنا هي من أحب الله أحب أخاه أيضاً" (1يوحنا4: 20-21). والكنيسة
تحيّ في كلّ مرة تقيم الإفخارستيا هذه اللحظات التي عاشها يسوع، أي أنها
تحيا من جديد سر محبّة الله العظيم، تحيا وتأوّن سر اتحاد الله بالبشر، سر
زواج الله بالبشر، سر تجسد وصلب وقيامة الابن الحقيقي يسوع المسيح الّذي
فيه تمّ هذا الاتحاد، هذا الاتحاد الّذي يعبر عن "محبة الله" التي تثمر
فينا حياة، "بهذا أُظهرت محبة الله فينا ان الله قد أرسل ابنه الوحيد الى
العالم لكي نحيا به".(يوحنا4: 9).
* وليمة محبة كاملة: "فإنكم كلما أكلتم من هذا الخبز وشربتم ومن هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء"(1كورنثوس11: 27)[121].
إن المسيح الّذي قال لتلاميذه “الأكبر فيكم فليكن الخادم...أنا بينكم كمن
يخدم” (لوقا 22: 24-27)، وكذلك “من أراد أن يكون فيكم الأوّل فليكن للجميع
خدما، لأن ابن الإنسان لم يأتي ليُخدم بل ليَخدم وليُعطي حياته فدية عن
كثرين” (مرقس10: 55)، قد حقق هو ذاته هذه الكلمات أولاً، فنجده يغسل أرجل
التلاميذ، ويقدم ذاته، جسده ودمه، كعلامة قصوى إذ "ليس حب أعظم من هذا ان
يبذل الإنسان ذاته من أجل أحبائه" (يوحنا15: 13).
وهنا
تجدر الإشارة إلى أن ذبيحة العهد القديم كانت مجرد ممارسة طقسية لا تقدر
على ان تقود للكمال، بعكس ذبيحة المسيح التي فيها وبها ومن خلالها نصل إلى
الكمال والخلاص الأبدي، “كان يتم تقديم قرابين وذبائح لا تقدر أن تجعل
الكاهن كامل الضَّمير. فهي أحكام تخص الجسد وتقتصر على المأكل والمشرب...
ولكن المسيح جاء رئيس كهنة للخيرات المستقبلية... فدخل قدس الأقداس لا بدم
التيوس والعجول، بل بدمه؛ فكسب لنا الخلاص الأبدي” (عبرانيين9: 9-12).
* وليمة نور وحياة:
إن محبّة الله التي رافقت الشعب اليهودي طيلة تاريخه، ظهرت عندما اكتمل
الزمان في شخص الابن الوحيد يسوع المسيح، "ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل
الله ابنه مولودا من امرأة مولودا تحت الناموس" (غلاطية4: 4)، وفي ذلك
تعبير جذري على أن في المسيح أصبحت الرموز حقيقة، وأضحت العلامات والآيات
واقعاً محسوساً، وانتقلنا من الظلمة إلى النور، "لان الله الذي قال ان يشرق
نور من ظلمة هو الذي اشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع
المسيح"(2كورنثوس4: 6). وبذات المعنى يؤكد القديس بطرس قائلاً: "وأما أنتم
فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، وأمة مقدسة، وشعب مختار لكي تخبروا بفضائل الّذي
دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. الذين قبلا لم تكونوا شعبا، وأما الآن
فأنتم شعب الله" (1بطرس2: 9-10).
* وليمة حضور حقيقي:
في الإفخارستيا يحضر المسيح حضورا حقيقيا، “إن الرب يسوع في الليلة التي
اسلم فيها ذاته أخذ خبزا وكر فكسر وقال: "خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور
لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري"...كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا، قائلا: "هذه
الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري"” (1كورنثوس11:
23-26). إن المسيح أكد بطريقة لا مجال فيها للشك، وبكلمات لا تقبل التأويل:
“أنا خبز الحياة. من يقبل إليّ فلن يجوع، ومن يؤمن بي فلن يعطش أبدا...
أنا خبز الحياة. من يأكل من هذا الخبز يحي إلى الأبد. والخبز الّذي سأعطيه
أنا هو جسدي ابذله ليحيا العالم... الحق الحق أقول لكم: إذا لم تأكلوا جسد
ابن الإنسان وتشربوا دمه، فلن تكون فيكم الحياة. من أكل جسدي وشرب دمي فله
الحياة الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لأن جسدي طعام حقّاً ودمي مشرب
حقا. من أكل جسدي وشرب دمي ثبت فيّ وتبتُ فيه. كما أن الآب الحي أرسلني
وأني أحيا بالآب، فكذلك الّذي يأكلني سيحيا بي” (يوحنا6: 35-57). ومن ثمَّ
فحضور المسيح في الخبز والخمر هو حضور حقيقي، حضور مستمرّ، حضور أساسي
للدخول للحياة الأبدية.
* وليمة تأوين وتحقيق: إن المسيحيين في كلّ مرة يحتفلون بالافخارستيا يحققون ويأونون ما قام به المسيح.
* وليمة ثالوثيّة:
تقوم على شكر الآب، الّذي خلق ولا يزال يخلق. وذكر الابن، الّذي خلصنا نحن
البشر بصليبه وقيامته وصعوده والذي لا زال يخلص. ودعوة الروح القدس الّذي
يقدس ويحوّل وينقيـ والذي يظل يفعل ذلك حتى منتهى الدهور.
(انتقل لاسفل لمتابعة الموضوع)
رد: الأنافورة الباسيليّة من منظور اللاهوت الكتابي
الإثنين سبتمبر 10, 2012 3:00 am
|
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] |
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى