- مايكل عادلعضو نشيط
الرسالة العامة (بالرجاء مخلصون) 9 البابا بندكتس
الأربعاء مايو 14, 2008 4:09 pm
بالرجاء مخلصونSpe Salvi ثانياً: العمل والألم كأماكن لتعلُّمِ الرجاء: 35- كلُّ عملٍ إنسانيٍّ جديٍّ وقويم هو رجاءٌ في طريقهِ للتحقيق. هو كذلك قبل كل شيءٍ لأننا بواسطتهِ نحاولُ تحقيقَ آمالنا الصغيرةَ منها والكبيرة: أداءَ هذا أو ذاكَ الواجب الهامَّ في مسيرةِ حياتنا؛ ومن خلالِ جهودنا نساهمُ في جَعْلِ العالمِ أكثرَ نوراً وإنسانيةً وهكذا تُفتَحُ لنا أبوابُ المستقبل. لكن جهودنا اليوميةَ في سبيلِ حياتنا ولأجلِ مستقبلِ الجماعةِ إما أن تسببَ لنا التعبَ أو تتحوَّلُ إلى تطرُّفٍ إن لمْ يُنرنا نورُ ذاك الرجاء الأعظم، ذاك الذي لا يمكن أن يحطّمه الفشلُ في الأمورِ الصغيرةِ أو الإخفاقُ في الأحداثِ التاريخية. إن كنّا لا نستطيعُ أن نرجو أكثرَ مما يمكن تحقيقه عملياً مرةً تلوَ الأخرى، أو أكثر مما نأملُ أن تقدّمه لنا السُلطاتُ السياسيةُ والإقتصادية، لتحوَّلَتْ حياتُنا عاجلاً إلى حياةٍ بلا رجاء. إنه لأمرٌ هامٌ أن نرجو: حتى لو كانتِ أمورُ حياتي أو شؤونُ اللحظةِ التاريخية التي أعيشها تبدو وكأنها لا تحملُ أيّ رجاء، لا يزالُ بإمكاني أن أرجو دائماً. وحده الرجاءُ – الضمانُ الأعظمُ من أن حياتي الشخصية والتاريخ بأكمله، بالرغم من كلِّ الفشلِ، يظلان محروسَينِ في قدرةِ المحبةِ الخالدة والتي بفضلها يكتسبانِ معنى وأهميةً – وحدهُ ذاكَ الرجاءُ قادرٌ أن يمنحَ في لحظاتِ الفشلِ الشجاعةَ للإستمرارِ في العمل. بالطبع، نحنُ لا نستطيعُ أن «نبنيَ» ملكوتَ الله بقوانا الذاتية – فما نستطيعُ أن نبنيه لا يتعدّى كونه ملكوت الإنسانِ المطبوعِ بمحدودية الطبيعة البشرية. إن ملكوتَ الله هو عطيةٌ، ولهذا فهو عظيمٌ وجميلٌ وجوابٌ للرجاء. نحن لا نستطيعُ - وهنا استخدمُ تعبيراً كلاسيكياً - أن «نستحقّ» السماء بأعمالنا. فهي دائماً أعظم مما نستحق، مثله مثل كوننا محبوبينَ أمراً لا يمكنُ «استحقاقه»، بل يبقى دائماً عطية. لكن بالرغم من وعينا لقيمة السماء اللامحدودة، يبقى صحيحاً أن الله لا ينظرُ إلى ما نعملُ نظرةً لا مبالية، وبالتالي فإن عملنا هو ذو أهمية بالنسبة لأحداث التاريخ. فنحنُ قادرون على أن نفتحَ ذواتِنا والعالمَ لحضورِ الله: لحضورِ الحقيقة، المحبة، الخير. هذا ما فعله القديسون كـ «مُعاونين لله» فساهموا في خلاصِ العالم (راجع 1 كو 3 / 9؛ 1 تسا 3 / 2). نحنُ قادرونَ على تطهيرِ أنفسنا والعالمَ من السمومِ والمُلوّثات القادرة على هدمِ الحاضرِ والمستقبل. نحنُ قادرونَ على اكتشافِ مصادرَ الطبيعةِ والحفاظِ عليها، وبالتالي قادرون على صنعِ ما هو صالحٌ مع الخليقةِ التي تسبقنا كعطيةٍ، وبشكلٍ يُطابقُ متطلّباتها الجوهرية وغاياتها. لهذه الحقيقةِ قيمتها ومعناها حتى عندما يبدو لنا بأننا نُخفِقُ أو أننا دونَ حيلةٍ أمامَ انتصارِ القوى المُعادية. هكذا ومن جهةٍ، يُصبحُ عملنا مصدرَ رجاءٍ لنا وللآخرين؛ من جهةٍ أخرى يستندُ هذا الرجاءُ العظيمُ على وعودِ الله التي تزوّدنا بالشجاعةِ وتوجّهُ عملنا في الأزمنةِ الصالحة والطالحة على السواء. 36- الألمُ أيضاً شأنه شأنَ العملِ هو جزءٌ من حياةِ الإنسان. من جهةٍ هو يتأتّى من محدوديّتنا، ومن جهةٍ أخرى من مجموعةِ الخطايا التي تكدَّسَتْ خلالَ التاريخ وما زالت تتكدَّسُ في الوقت الحاضر دون توقُّف. علينا بالطبع أن نعمل كل ما نستطيع كي نخفِّف من وطأةِ الألم: أن نمنعَ، على قدر ما نستطيع، آلامَ الأبرياءِ؛ أن نهدئ الأوجاع؛ أن نساعدَ الناسَ في اجتياز الآلام النفسية. هذه كلها واجباتٌ يُمليانها علينا العدلُ والمحبةُ كمَطلبانِ أساسيانِ من متطلّباتِ الحياة المسيحية وكل حياة تحملُ حقاً صفةَ الإنسانية. لقد تمكّنا من تحقيقِ تطورٍ كبير في صراعِنا ضدَّ الألمِ الجسديّ؛ بينما إزدادت في السنوات الأخيرة آلامُ الأبرياء والآلامُ النفسية. نعم، علينا أن نعمل كل ما في وسعنا لتجاوزِ الألم، لكنه ليس في مقدورنا أن نزيله نهائياً من على وجهِ الأرض – وهذا ببساطة لأننا لا نستطيعُ أن نلقيَ عنّا محدوديَّتنا ولأنه لا أحدَ منّا قادرٌ على إزالةِ قوّةِ الشرِّ والخطيئة التي كما نرى لا تزالُ مصدراً للألم. وحدهُ الله قادرٌ على فعلِ هذا: وحده الإلهُ الذي يدخلُ التاريخَ شخصيّاً ويتأنَّسُ ويتألمُ فيه. نحن نعرف أن هذا الإله موجودٌ ولهذا فإن القوَّةَ التي «ترفع خطيئةَ العالم» (يو 1 / 29) حاضرةٌ في العالم. بفضلِ الإيمان بوجودِ هذه القوّةِ، قد برزَ في التاريخِ الرجاءُ بشفاءِ هذا العالم. لكنهُ رجاءٌ وليس اتمامٌ بعدُ؛ رجاءٌ يمنحُنا الشجاعةَ لنكونَ مع الخيرِ حتى عندما يبدو وكأنه ليس مِن رجاء، ونحنُ نعي أن حضورَ قوةِ الخطيئةِ يبقى ظاهراً في أحداثِ التاريخِ حتى في المستقبلِ حضوراً رهيباً. 37- ولنعدْ الآن إلى موضوعنا. نحنُ قادرونَ على الحدِّ من الألمِ، قادرونَ على الصراعِ ضدّهُ، لكننا غيرُ قادرين على إزالته. فحيثُ يحاولُ البشرُ أن يتحاشوا أي ألمٍ، وأن يهربوا من كلِّ ما يمكن أن يدعى مُعاناةً، هناكَ حيثُ يُريدُ البشرُ أن يُوفّروا تعبَ وألمَ الحقيقة والمحبةِ والخيرِ، ينزلقونَ في حياةٍ فارغةٍ، حياةٍ ربما تخلو من الألمِ لكنها تمتلئُ أكثرَ وأكثر بشعورٍ مظلمٍ، حيثُ ليس للحياةِ معنى، حيث الشعورُ بالوحدة. ليس إبعادُ الألمِ والهروب من الأوجاعِ هو ما يشفي الإنسان، لكن ما يشفيه هو قدرتُهُ على قبول الشدّة والنضوجِ فيها، قدرته على إيجادٍ معنى عن طريق الإتحادِ بالمسيح، الذي تألّمَ بمحبةٍ لا محدودة. في هذا السياق أودُّ أن أستشهدَ ببعضِ الجُمَل الواردةِ في رسالةٍ كتبها الشهيدُ الفييتناميّ باولو لي باو ثين († 1857)، فيها يظهرُ بوضوحٍ تحوُّلَ الألمِ بفضلِ قوةِ الرجاءِ الآتي من الإيمان. «أنا باولو، السجين لأجل اسم المسيح، أريدُ أن أعلمَكم بالشدائد التي أعيشها كل يومٍ، كيما تضطرموا بمحبة الله وترفعوا لهُ معي تسابيحكم: للأبد رحمته (راجع مز 136 [135]). هذا السجنُ هو حقاً صورةٌ للجحيمِ الأبدية: فبالإضافةِ لكل أنواع العذابات الوحشية، كالقيود وسلاسل الحديد والسوط هناكَ الكراهية والإنتقامُ والإفتراء والكلمات البذيئة والإتهامات الكاذبة والشرور والحلفان بالزور واللعنات وأخيراً ضيقة وكآبة. اللهُ الذي حرَّرَ الفتية الثلاثة من الفرن المشتعل دائماً بقربي؛ وقد حررني أنا أيضاً من هذه الشدائد، محولاً إياها إلى عذوبةٍ: للأبدِ رحمته. في وسطِ هذه العذابات التي من شأنها أن تُثني وتُحطّم الآخرين، بنعمة الله أنا ممتلئٌ فرحاً وسعادةً، لأنني لستُ وحدي بل المسيحُ معي [...] كيف يمكنُ احتمالُ هذه المشاهد الرهيبة، عندما نرى كل يومٍ سلاطينَ، مسؤولين وحواشيهم يُجدّفونَ اسمكَ القدّوس، أيها الربُّ يا مَن تجلسُ على الكروبيم (راجع مز 80 [79] / 2) والسرافيم؟ ها هو صليبُكَ يُداسُ بأرجلِ الوثنيين! أين هو مجدُكَ؟ عندما أرى كل هذا أفضلُ في وهج محبتكَ أن تُقطَّعَ أوصالي وأن أموتَ شهادةً لحبِّكَ. أرني يا ربُّ قوَّتَكَ، أعنّي وخلّصني، كيما تظهرَ في ضعفي قوَّتَكَ وتتمجّد أمامَ الأمم [...] أخوتي الأحباء، افرحوا لدى سماعكم هذه الأمور وأنشدوا نشيدَ شكرٍ أبديٍّ لله، ينبوعَ كل صلاح، وباركوه معي: فللأبدِ رحمته. [...] أكتب لكم كل هذه الأمور كيما يتحدَ إيماني بإيمانِكم. وبينما تشتدُّ العاصفةُ، أُلقي بمرساتي نحو عرشِ الله: هو الرجاءُ الحيُّ في قلبي...» [28]. هذه رسالةٌ من «الجحيم». فيها يبدو بوضوحٍ شديد كلَّ إرهابِ معسكرِ الإعتقال، الذي ليسَ فيه عذاباتُ الطُغاةِ وحسب بل الشرُّ الصادرُ عن الضحايا نفسها الذين يتحوّلونَ بدورهم أداةً لوحشيّةِ المُضطهدين. هي رسالةٌ من الجحيم، لكن فيها تتحقق كلمة المزمور: «إن تسلَّقتُ السماءَ فأنتَ فيها، وإن نزلتُ إلى عالمِ الأمواتِ فأنتَ هناك [...] تأمرُ الظلامَ فينجلي [...] لديكَ لا يُظلِمُ الظلامُ، والليلُ يُضيءُ كالنهارِ. فالظلامُ عندَكَ كالنورِ» (مز 139 [138] / 8 – 12؛ راجع أيضاً مز 23 [22] / 4). لقد نزلَ المسيحُ إلى «الجحيمِ» وهكذا فهو قريبٌ ممَّن يُلقى فيهِ، محولاً من أجله الظلمةَ إلى نورٍ. يبقى الألمُ والعذاب أمراً رهيباً وغير محتملٍ تقريباً. مع ذلكَ قد أشرق نجمُ الرجاء –ومَرساةُ القلبِ تصلُ إلى عرشِ الله. فلا يصدرُ الشرُّ عن الإنسان بل ينتصرُ النورُ: الألمُ – مع بقائه ألماً – يتحوَّلُ إلى نشيدِ تسبيح. |
38- إنَّ مقياس الإنسانية يتحدَّدُ قبل كل شيء في إرتباطهِ بالألم والمتألِّم. هذا صحيح بالنسبة للفرد والمجتمع. فالمجمتع الذي لا ينجحُ في قبول المتألّمين ولا يُساهمُ بشفقته في تقاسم آلامهم ومشاركتهم بها في أعماقِ قلبه، هو مجتمع قاسي وغير إنسانيّ. لكن المجتمع لا يكونُ قادراً على قبول المتألمين ومساندتهم في آلامهم إن لَمْ يكن أفراده أنفسهم قادرين على ذلك، ومن جهة ثانية لا يستطيعُ الفردُ أن يقبل ألمَ الآخرين إن لَمْ يتمكَّن هو شخصياً مِن إيجاد معنى في الألم واعتباره مسيرةَ تطهيرٍ ونضجٍ، مسيرةَ رجاء. فقبولي الآخر المتألم يعني أن أتخذَ بشكلٍ من الأشكال ألمه على عاتقي، فيصبحَ ألمه ألمي أنا أيضاً. ولأنه يتحول هكذا إلى ألمٍ متقاسمٍ بوجودِ شخصٍ آخر، يغدو الألمُ مضيئاً بنورِ المحبة. إن الكلمة اللاتينية (con-solatio) والتي تعني «تعزية» تُعبِّرُ عن هذه الحقيقة بطريقةٍ رائعة إذ تتحدث عن الوجود مع الآخرين في وحدتهم بشكلٍ يجعلها تكف عن كونها وحدة.
لكنّ القدرة أيضاً على قبول الألم في سبيل الخير والحقيقة والعدل هو مقياسٌ أساسيٌّ من مقاييس الإنسانية، لأنه إن جعلتُ راحتي وسلامتي الشخصية أهمُّ مِن الحقيقة والعدل، يسودُ حينئذٍ سلطانُ الأقوى؛ فيعمُّ العنفُ والكذب. فعليَّ أن أعتبرَ الحقيقةَ والعدلَ أهمُّ من راحتي وسلامتي الجسدية، وإن لَم أفعل ذلك فتتحول حياتي كلها إلى كذبة.
وفي النهاية، إن قولي «نَعَمْ» للمحبة هو أيضاً سببُ ألمٍ، لأن المحبة تتطلب دائماً التخلّي عن ذاتي، وهو أمرٌ لا بدَّ أن أستسلمَ له حتى لو كلَّفني جراحاً. لا يمكن للحب أن يوجدَ دون هذه التضحية حتى لو كانت تؤلمني، لأنه بدونها يتحولُ إلى إنانيةٍ لا غير، وبهذا يُلغي نفسه فلا يعودُ حباً.
39- التألُّم مع الآخر ومن أجلِهِ؛ التألُّم في سبيلِ الحقيقة والعدلِ؛ التألُّم بسبب المحبة وكي نتحوَّلَ إلى أشخاصٍ يحبونَ فعلاً – هذه هي العناصر الأساسية للإنسانية، التي لو هجرناها نقضي على الإنسان نفسه. وهنا يبرزُ السؤالُ من جديد: هل نحنُ قادرونَ على ذلك؟ وهل الآخر هو هامٌّ لدرجةِ أن أتحوّل من أجلهِ إلى شخصٍ متألم؟ هل الحقيقةُ هي أمرٌ مهمٌّ بالنسبةِ لي لدرجةِ أن أتألم في سبيلها؟ هل ما يَعِدُ به الحبُّ هو عظيمٌ لدرجةِ أنه يُبرِّرُ تضحيتي بذاتي؟
كان فضلُ الإيمان المسيحيّ في تاريخ البشرية أنّهُ أثارَ في الإنسانِ بشكلٍ جديدٍ وبعمقٍ جديدٍ القدرةَ على التألُّمِ لأجلِ هذه الأمور الحاسمة تجاهَ إنسانيّته. لقد أظهر لنا الإيمانُ المسيحيّ أنَّ الحقيقةَ والعدلَ والمحبةَ ليست مجرَّد مثاليات بل واقع ذو أهمية عظيمة. لقد أظهر لنا أن الله – وهو الحقيقة والمحبة في شخص – قد أرادَ أن يتألّم لأجلنا ومعنا. لقد ابتكر القديس برناردو دي كيارافالي العبارة الرائعة: (Impassibilis est Deus, sed non incompassibilis) «لا يُمكن لله في ذاته أن يتألم لكن يمكنه أن يتألّم معنا»[29] . إن قيمةَ الإنسان لدى الله كبيرةٌ لدرجةِ أنه قد صار هو نفسه إنساناً ليتمكَّنَ من التألُّمِ مع الإنسان، بشكلٍ في غاية الواقعيّة، في لحمٍ ودمٍ، كما تشهدُ بذلك رواية آلام يسوع. منذ ذلكَ الحدث هناكَ مَن شاركنا كلَّ آلامنا البشريّة وهو الذي اختبرَ واحتملَ الألمَ معنا؛ مِن هذا الحدث تفيض التعزيةُ (con-solatio) على كلِّ ألمٍ، تعزية محبةِ اللهِ ومشاركتهُ لنا، وهكذا يُشرقُ نجمُ الرجاء. طبعاً، في آلامنا العديدة ومِحنَنا، نحنُ بحاجة دائمة أيضاً للآمال الصغيرة والكبيرة – أن يزورنا شخصٌ عزيز، أن نُشفى من جراحٍ داخلية وخارجية، لحلٍّ إيجابيٍّ لإحدى الأزمات، وهكذا. في المِحَن الصغيرة يمكنُ لهذه الآمالِ أن تكفينا. لكن في المِحَن الخطيرة، هناكَ حيثُ عليَّ أن أقرِّرَ أنا بنفسي تفضيلَ الحقيقةِ على راحتي، على مهنتي وأملاكي، هناكَ يغدو ضرورياً ضمانُ الرجاءِ الحقيقي والعظيم الذي تحدثنا عنه سابقاً. لهذا أيضاً نحنُ بحاجةٍ للشهودٍ وللشهداء الذينَ ضحّوا بأنفسهم كاملةً، كي يُرشدونا إلى الطريق يوماً بعد يوم. نحنُ بحاجةٍ إليهم كي نُفضِّلَ الخيرَ على الراحة، حتى في أصغر أمورِ حياتنا اليومية، عارفينَ أننا هكذا نعيشُ الحياةَ الحقيقية. لنردِّدها مرةً أخرى: إن القدرة على التألم في سبيل الحقيقة هي إحدى مقاييس الإنسانية. هذه القدرة على التألم تعتمد على نوع ومقدار الرجاء الذي نحمله في داخلنا وعلى أساسه نبني. لقد استطاع القديسون أن يسلكوا طريق إنسانيّتهم العظيم بنفس الطريقة التي سلكها يسوع قبلنا، لأنهم كانوا ممتلئين من الرجاء العظيم.
40- أودُ أن أضيفَ ملاحظةً صغيرةً لا أعتقدُ بأنها ليست ذات أهمية بالنسبة لأحداث زمننا الحاضر. هو أمرٌ كان يُشكِّلُ جزءاً مِن أحد أنماط التقوى المنتشرةِ قبل زمنٍ، وربما اليوم هي أقل ممارسةً، أقصدُ الفكرةَ القائمة على «تقدمةِ» الأتعاب الصغيرة اليومية التي تعترضنا دائماً كوخزاتٍ تضايقنا بدرجاتٍ متفاوتة، لكي تكتسبَ معنى. لقد وُجِدَت في هذه التقوى مبالغاتٌ وربما أيضاً أمورٌ بعيدة عن المنطق السليم، لكن علينا أن نسألَ أنفسنا إذا ما كان هناكَ عنصرٌ جوهريٌّ بإمكانه مساعدتنا. ما معنى «تقدمة»؟ أولئكَ الأشخاص كانوا مقتنعين بأنهم يضعونَ أتعابهم الصغيرة في نِطاقِ آلامِ [ح] المسيحِ الكبيرة، وبذلك يُصبحون بشكلٍ أو بآخر جزءاً من كنز آلامِ [ح] المسيح، التي البشرية هي في حاجةٍ إليه. بهذه الطريقة، حتى الإزعاجات الصغيرة اليومية يمكنها أن تكتسبَ معنى وتساهمَ في تدبيرِ الخيرِ والمحبة بينَ البشر. ربما علينا حقاً أن نسألَ أنفسنا إن كان بإمكان هذه التقوى أن تعودَ لتُشكِّلَ أفقاً ذا معنى بالنسبة لنا أيضاً.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى