رموز العقيدة المسيحية فى أدبنا الحديث
الأربعاء يونيو 09, 2010 12:16 pm
رموز العقيدة المسيحية فى أدبنا الحديث
بقلم نسيم مجلي
قليلة هى الأعمال الإبداعية التى تستوحى رموز العقيدة المسيحية فى أدبنا الحديث، رغم الثراء الباذخ للتراث القبطى فى جوانبه التاريخية والشعبية.ولعل أشهر هذه الإبداعات الحديثة يتمثل فى أربعة أعمال هى: رواية "قرية ظالمة" للدكتور محمد كامل حسين 1953، ومسرحية " الراهب " للدكتور لويس عوض 1961 ،ثم مسرحية "القضية " التى كتبت إبان حرب أكتوبر1973 وصدرت عن الهيئة العامة للكتاب 1978 من تأليف كاتب هذه الدراسة، بالاضافة الى رواية " الحارس " للدكتور ناجى فوزى التى صدرت سنة 2007.
*1- قرية ظالمة :
و"قرية ظالمة" هـي الرواية الوحيـدة التي كتبـها جراح العظام الشهير الدكتـور محمد كـامل حسين والتى فازت بجائزة الدولة سنة 1957 مناصفة مع نجيب محفوظ ، كما كتب بضعة قصص قصيرة أخرى مثل" الإسخريوطى"، بالإضافة الى عدة كتب هامة في الأدب والفلسفة لـكن "قرية ظالمة" استحوذت علي اهتمام الناس حتى صار يعرف بأنه صاحب "قرية ظالمة"
تعدي الاهتمام بهذه القصة حدود الوطن، فترجمت لأكثر من لغة أجنبية، بل إن الترجمة الإنجليزية تتصدرها مقدمة طويلة كتبها المترجم مستر كينيث كراج، لكن المؤسف أن الاهتمام في مصر لم يتحول إلى دراسة أو تقييم لهذه القصة. ، ولا أعرف أحدا كتب عنها في حينها سوي الأستاذ يوسف الشاروني في كتابه "دراسات في أدبنا العربي" و د. سهير القلماوي وأخيرا في عام 1977 كتب الأستاذ فتحي رضوان بضعة مقالات عن القصة ومؤلفها ونشرها بمجلة "الثقافة" .
"وقرية ظالمة" تمثل محاولة جادة لدراسة أزمة الضمير المعاصر واكتشاف أسبابها الروحية والتاريخية، وهذه الأزمة تبدو واضحة في قدرة المجتمعات الحديثة علي ارتكاب جرائم القتل والعدوان ضد الأفراد والجماعات باسم المصلحة القومية أو الوطنية أو تحت شعار الدين
وفي سبيل الكشف عن جذور هذه الأزمة وتوضيح أبعادها الحقيقية يعود بنا المؤلف قرابة ألفي عام إلى الوراء، ليحلل لنا أحداث ذلك اليوم المشهود "حين أجمع بنو إسرائيل أمرهم أن يطلبوا إلى الرومان صلب المسيح ليقضوا علي دعوته، وما كانت دعوته إلا أن يحتكم الناس إلى ضمائرهم في كل ما يفعلونه وما يفكرون فيه فلما عزموا أن يصلبوه لم يكن عزمهم إلا أن يقتلوا الضمير الإنساني ويطفئوا نوره، وهم يحسبون أن عقلهم ودينهم يأمران بما يعلو أوامر الضمير وفي هذا الذي أرادوه تتمثل نكبة الإنسانية الكبرى".(قرية ظالمة ص 2)
لقد كان اليهود أهل دين، وكان الرومان أهل مدنية وقانون، ولم يحل ذلك كله دون ارتكابهم للجريمة لأنهم تصوروا أن الدين والنظام يعلوان علي أوامر الضمير، ومن هنا كانت خطيئتهم ومأساتهم ومأساة الإنسانية عموما حتى الآن. وكما يقول المؤلف "فالناس أبدا معاصرون لذلك اليوم المشهود وهم أبدا معرضون لما وقع فيه أهل أورشليم حينذاك من إثم وضلال، وسيظلون كذلك حتى يجمعوا أمرهم أن لا يتخطوا حدود الضمير."
ومن هنا يتبين لنا أن المؤلف قد اختار واقعة صلب المسيح ليستكشف من خلالها أزمة الضمير الإنساني المعاصر ثم يقدم لنا رؤيته للخلاص. فنحن في مدينة أورشليم وفي تلك الساعة الحاسمة من يوم الجمعة الحزينة حيث يشيع جو القلق والاضطراب والكآبة والترقب.
ولا نكاد نمضي في قراءة القصة حتى نلتقي بعديد من الشخصيات التي شاركت في تلك الأحداث أو التي شهدتها.. والجميع في أزمة تأخذ بخناقهم. فرجل الاتهام الذي جمع بالأمس كل قدراته البلاغية ليقنع شيوخ إسرائيل وكهنتها أن المسيح خطر عليهم أصبح يساوره القلق في صدق ما قال.
وفي طريقه إلى دار الندوة يلتقي بذلك التاجر اليهودي، الذي يحاول بالمال وبالذكاء أن يقنع الحداد بصنع المسامير التي تدق في يدي المسيح ورجليه. إن الحداد يخشى الاشتراك في هذه الجريمة، ولكن التاجر يقول: "إن أكبر الجرائم إذا وزعت علي عدد من الناس أصبح من المستحيل أن يعاقب الله أحدا من مرتكبيها.." ولا يكاد رجل الاتهام يسمع قول هذا الشيطان حتى يرتعد، "أيكون هو أيضا ممن يشاركون في الخطيئة الكبرى مجزأة حتى لا يدري أحد ــ ولو كان إله بني إسرائيل نفسه ــ علي من يكون العقاب.." ويرهقه التفكير فيعرج إلى دار صديق له يسأله " أنحن علي صواب في اتهام هذا الرجل وصلبه، أم علي خطأ؟".
ويرد صديقه " احتكم إلى ضميرك وحده، فهو الذي يهديك."
وما جري لممثل الاتهام يحدث مثله للمفتي، فلا يكاد الأعضاء يجتمعون في دار الندوة حتى يتراجع عن فتواه " إني لن أفتي بعد اليوم " انهم أساءوا فهم فتواي ويريدون أن يقتلوا بها رجلا لا أري ضميري يرضي عن قتله."
ويحاول أحدهم أن يحذره. لقد آمن الناس بأن صلبه واجب، ولن يعدلوا عن رأيهم، وليس من السياسة أو مصلحة المجتمع أن يتراجع أحد عن هذا الموقف، ويرد المفتي بأنه لا يهتم بأمر العامة أو بأمور السياسة.
أما حيرة " قيافا " فتنبع من عدم إيمانه بالقوة وإعجابه بالحلول الأخلاقية التي يقدمها المسيح، وفي الوقت ذاته هناك حرصه علي سلامة المجتمع وحمايته من الانقسام، وهذا يتطلب صلبه ومن ثم بات ليلته مهموما وسار في الصباح إلى دار الندوة محزونا، لابد أن يري ماذا يفعل؟ كيف يبرئ المسيح من الباطل الذي اتهموه به إرضاء لضميره، أو كيف يوافق علي صلبه حماية للمجتمع الذي يجلس هو علي قمته كرئيس لشيوخ وكهنة إسرائيل..
كذلك يتراجع معظم الشيوخ عن قرار صلب المسيح إلا رجال المال والتجارة الذين يصرون علي صلبه، ويرون فى دعوته للإخاء والمساواة وسيلة لتجميع العبيد والفقراء استعدادا لثورة ضد المجتمع. وحين يعجز منطقهم، يهددون الشيوخ والكهنة بالجماهير قائلين " إن الشعب هائج ولن تهدأ ثائرته حتى يصلب هذا الرجل."
وأحداث القصة لا تستغرق أكثر من ثلاث ساعات، وهو زمن المأساة اليونانية. ومن حديث الأشخاص تتكشف لنا أبعاد الأزمة، فقد اصدروا بالأمس قرارا إجماعيا بصلب المسيح، واليوم قد وجدوا أنفسهم في قبضة هذا القرار لا يستطيعون عنه رجوعا، أمام حشود الرعاع والغوغاء التي أقنعوها بالأمس بخطر النبي الجديد.
لقد عادوا إلى بيوتهم بعد إصدار القرار.. ولم يكد كل منهم ينفرد بنفسه، حتى يشعر بصحوة ضميره، وبدأ يري الأمر على نحو جديد.كيف يتراجع أو كيف يبرر لنفسه أو للآخرين. لقد وضعهم بيلاطس البنطي في مأزق.إذ سلموه المسح بالأمس ليصلبه. لكنه لا يجد علة لذلك ويريد أن يطلق سراحه حسب عادته في عيد الفصح..
لقد قدم لهم بيلاطس فرصة ذهبية للرجوع عن الخطأ. وكان علي رؤساء الكهنة وقادة الشعب أن يغتنموا هذه الفرصة حتى يتخلصوا من تبكيت الضمير الذي يعتصرهم فرداً فرداً، وهنا نلاحظ براعة المؤلف في تقديم الأحداث وترتيبها حتى تصل الى النهاية الثابتة دينيا وتاريخيا وكأنها تجري بقوة التطور الحتمي نحو النهاية.
فلا يكاد يستقر رأي الشيوخ والقادة علي الرجوع عن قرار الأمس حتى يفاجئهم تطور الأحداث. فقد حاصر الرعاع دار الندوة ثم اقتحموا المجلس وراحوا يتهمون الشيوخ والقادة بالخيانة ويهددون بصلبهم مع المسيح. وهنا تنكشف مأساة العجز عند ذوي الرأي ورجال الدين. لقد أقنعوهم بالأمس أن المسيح فتنة تهدد أمن المجتمع وسلامته، فكيف يقنعوهم اليوم بعكس ذلك..
إنها مأساة الفرد ومأساة الجماعة في آن واحد. فالحقيقة تثقل كاهل العقلاء فردا فرداً. ولكن من يقوي علي مواجهة الجماهير الثائرة.. من؟
لا شك أن المؤلف قد اختار أسلوبا ملائما تماما لموضوعه. فرواية الأحداث أو سردها عن طريق أشخاص مختلفين في الأفكار والمواقف من شأنه أن ينير الزوايا المختلفة للقضية المثارة, كما أنه أكثر الأساليب قدرة على مخاطبة العقل والوجدان في وقت واحد.
فنحن لا نرى حادثة الصلب مع أنها المحور الرئيسي للقصة. وإنما نسمع عنها من خلال الحوار المحتدم بين الفيلسوف المادي الذي يرفض التسليم بما لا يقبله العقل والحكيم المجوسي الذي رأى نجم المسيح عند مولده وآمن به منذ ذلك الحين. وهو يرى أن حدوث الظلام واشتداده كانا بسبب الصلب إذ يقول " إني أعلم من أحداث هذا اليوم ما لا تعلمون. إن الله رافع السيد المسيح إليه. وهو نور الله في الأرض, فلما أبى أهل أورشليم إلا أن يطفئوه, أظلمت عليهم الدنيا.. وهذا الظلام آية من عند الله تدل على انه حرمهم نور الإيمان وهدى الضمير." وهكذا تنتهي وقائع الصلب.
إن واقعة الصلب تمثل حادثا شديد التعقيد يحفل بالمعاني الدينية والأخلاقية والفلسفية وقد حصر المؤلف جهده في دراسة هذا الحادث من جوانبه الإنسانية.
ولعل صعوبة فهم هذه الجوانب, حال دون عرض مشهد الصلب أمامنا في القصة مع أنه المحور الرئيسي فيها, واكتفى المؤلف بتقديمه عن طريق رواة هم شهود عيان لما وقع في تلك الساعات. ولا شك أنه أسلوب موفق أتاح لنا رؤية هذه الحقيقة من عدة جوانب.
فقد اختار المؤلف حيلة ذكية ترمز إليه هي واقعة إعدام الجندي الروماني. وكان هذا الجندي قد التقى بمريم المجدلية بعد توبتها على يد السيد المسيح, فعرف عن طريقها معنى الحب المسيحي فرفض أن يشترك مع زملائه في محاصرة إحدى القرى ومهاجمتها بل نبه أهل القرية للغزو الوشيك , فحاكمه الرومان بتهمة الخيانة ونفذوا الحكم بان ربطوه في أربعة خيول تعدو في اتجاهات مختلفة.
وهذه القصة الفرعية التي تظهر وحشية الرومان تخدم هدفا آخر للمؤلف بالنسبة للحادث الرئيسي فهي تجسيد لمعنى الفداء من جانب الجندي الذي ضحى بنفسه بدلا عن أهل القرية.. فان كانت واقعة صلب المسيح تجسد جريمة اليهود وهم أهل دين, فجريمة تمزيق هذا الجندي تجسد وحشية الرومان وهم أهل مدنية وقانون. وهنا يتضح لنا "عجز الدين والقانون عن إنقاذ الإنسان من ثورته المأساوية ضد حقيقة الضمير ما لم يكن الدين والقانون مرتبطين بالحقيقة ارتباط العبد بالسيد ".. كما يقول كينيث كراج الذى ترجم هذه القصة الى الإنجليزية.
وفي مقدمة الترجمة الإنجليزية يعلق مستر كينيث كراج علي أزمة أورشليم فيشير إلى أن صيحة الجماهير لبيلاطس التي وردت في الإنجيل " خذ هذا الرجل " تحولت من الفرد إلى المجموع فأصبحت تعني " خذ هؤلاء الرجال". "أصبح الرجل أزمة المجموع وأصبح المغزى الأخلاقي للمشهد حكما بواسطة الإنسانية وعلي الإنسانية".
ويمضي كينيث كراج في كلامه فيقول إن سحر هذا الكتاب أنه يتخذ هذا الموضوع محورا له يستكشفه بحساسية مرهفة ويقدمه وربما لأول مرة عن طريق مفكر ينتمي للعقيدة الإسلامية. فالفكر الإسلامي يميل إلى رفض فكرة صلب المسيح. والمسيحيون يحاولون منذ قرون إثبات الصلب عن طريق الأسانيد التاريخية كتدعيم للعقيدة الدينية التي تؤمن بالصلب كطريق للفداء. وكان من نتيجة هذا الجدال، أن غمض علي الجميع تقريبا المغزى الإنساني لهذا الحادث. وهذا ما يبرزه الدكتور محمد كامل حسين من خلال هذه القصة. فهو يقدم تحليلا دقيقا لإرادة اليهود علي صلب المسيح.
وهو يفعل هذا دون أن يتعدى الحدود التي رسمها القرآن. فاقرآن لا ينكر الصلب فقد وقف المفسرون عند المعنى الظاهر لآية " ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم "، دون أن يعملواعقولهم فى فهم هذه القاعدة التى حددها القرآن ورتب فيها ثلاثة مراحل لحياة المسيح وهى حسب الترتيب التالى الميلاد ثم الوفاة وبعدها الرفع أى القيامة، وهو واضحة فى الآيات القرآنية التالية :
1-" وسلام عليه يوم ولد ويوم " يموت " ويوم يبعث حيا " (مريم 19-15)
2- " والسلام على يوم ولدت ويوم " أموت " ويوم أبعث حيا " (مريم 19-13 )
3- " إذ قال الله ياعيسى إنى "متوفيك " ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين
اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . " ( آل عمران 3-5)
4- " وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب " ( سورة المائدة 5:117)
ومؤلف "قرية ظالمة "، يستكشف الأحداث من جديد في ضوء النص القرآني ويقرر أن واقعة الصلب قد حدثت علي المستوي الإنساني.. غير أنه لا يخبرنا من هو الذي صلب حقا؟ فهو طبقا للنص القرآني ليس المسيح وإنما شبيه له. وقد تحمل هذا الشبيه عبء عملية الصلب التاريخية. فحوكم وأدين خطأ علي أنه المسيح. وهنا يطرح كينيث كراج سؤالا هاما : متي وكيف تمت عملية الاستبدال؟ لكن القصة لم تعط أي إجابة لمثل هذا السؤال.
وجدير بنا ونحن نعرض لهذه القصة أن نستعرض معا الآراء التي ترفض الإيمان بوقوع الصلب ونحلل أبعادها لنعرف إلى أي حد وصل المؤلف في مناقشة هذه القضية الهامة .ولعل أهم هذه الأقوال ما جاء في القرآن الكريم " وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه – ما لهم به علم إلا اتباع الظن, وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً" ومعني هذه الآية يتفق تماماً مع ما قال به بعض الهراطقة في القرن الثاني الميلادي من أن المسيح لم يصلب وإنما صلب شخص " يشبهه"
فالقول " شبه لهم " مسند الى من ؟ فإذا جعلته مسندا إلى المسيح فهو مشبه به وليس مشبه .وإن أسندته الى المقتول فالمقتول لم يأت له ذكر. كذلك فإن عدالة الله سبحانه وتعالى لاتقبل بوضع انسان برىء ليتحمل الصلب والعذاب بدلا من المسيح . ولو شاء الله أن يخلص المسيح من الموت على الصليب لخلصه بمعجزة واضحة مقنعة وهو القادر على كل شىء ليس فى حاجة للتخفى أو الغش أو إخراج إحدى تمثيليات الأقنعة .
ففي القرن الرابع الميلادي قدم الراهب آريوس رأياً ً لا يعدو أن يكون اجتهاداً فلسفياً في تفسير آيات الإنجيل إذ يقول آريوس أن الله لم يتعذب في المسيح, وان المسيح الذي صلب وتعذب كان بشراً من لحم ودم والجسد مجرد ظل، مجرد مظهر. أما جوهر المسيح فهو روح الله وكلمته والجوهر لا يصلب ولا يتعذب، إنهم ما صلبوه إلا في الظاهر فقط. أما المسيح الكلمة فقد رفع إلى السماء والمسيح البشر قد صلب علي الأرض، ولكن العامة تتوهم أن روح الله تعذبت في جسد المسيح, إن المسيح صعد إلى السماء روحاً وجسداً !
وقد رفضت كنيستنا الأرثوذكسية كلام آريوس واعتبرته بدعة مذمومة لأنه يفصل بين اللاهوت والنا سوت, أي بين الطبيعة الإلهية والطبيعة الجسدية للمسيح, بينما تقول تعاليم هذه الكنيسة المستمدة من الإنجيل أن المسيح قد صلب وقبر وفي اليوم الثالث قام من الأموات وصعد إلى السماء. وأن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة أو طرفة عين.
هذه الأقوال علي ما بينها من خلاف تتفق جميعاً في حدوث واقعة الصلب. فاليهود يعترفون بها في الآية الكريمة "وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي بن مريم رسول الله.""فهم يعترفون هنا أنهم قتلوه وهم يعلمون أنه رسول الله., والجريمة تبقي تبعتها علي اليهود والرومان لأن تدبيرهم للصلب وتنفيذه علي هذا النحو يعطي الدليل الكافي علي أنهم رفضوا المسيح وتعاليمه الداعية إلى الحب والسلام.
و "قرية ظالمة" تقدم الوقائع السابقة للصلب كما هي بالضبط في المفهوم المسيحي. فإذا تركنا السؤال جانباً عما إذا كان الصلب قد وقع للمسيح وركزنا علي الحدث كشيء كان مقصوداً به المسيح , فان المغزى الإنساني للقرار الذي اتخذه معاصروه ضده ومن أجل صلبه يبقي كما هو لا تشوبه شائبة. وهذا ما يذهب إليه مستر كينيث كراج ثم يضيف "إن الشيء المهم هو إن قلة قليلة قبل "كامل حسين" هي التي قامت بمبادرات إسلامية لدراسة التاريخ المسيحي من جانبه الإنساني "
وعلي الجانب الإنساني يري الدكتور كامل حسين أن وقائع الصلب تمت فاليهود وبيلاطس البنطي كانوا يعلمون أنهم يصلبون المسيح , لا شبيهاً له , ولو عرفوا بالشبيه لتراجعوا عن فعلتهم. فحقيقة الصلب بوقائعها علي هذا النحو " تشكل مواجهة أخلاقية تنعكس عليها مشاكل الموقف الإنساني بحيث تتيح لنا دراسة الأزمة الإنسانية الشاملة "
فمدينة أورشليم التي يطلق عليها المؤلف اسم "قرية ظالمة" هي نموذج للعالم كله. وقيافا وبيلاطس ومن معهما ليسا ممثلين لليهود والرومان فقط بل ممثلين للإنسانية كلها , حين تخاذلا أمام الرعاع وسلما المسيح للصلب ورغم أن القصة تكشف لنا عن أسلوب اليهود في توزيع تبعة الجرائم الكبرى إلا أنها لا تدين اليهود كشعب أو جنس . فهي لا تدين مجتمعاً بذاته كمجتمع بل بفعله . وهي إدانة لكل من ينحرف عن جادة الصواب أو يتنكب لأوامر الضمير الذي هو قبس من نور الله . فالمؤلف يري أن الجرائم الكبرى تقع تحت دعاوى الوطنية والقومية وحماية الدين أو الصالح العام . وهذه الشعارات تمثل أوثان العصر الحديث . لهذا نراه يحرض الأفراد علي التمرد عليها إذا تصادمت مع نواهي الضمير.
ان الموسوية ركزت علي العدل حين قالت سن بسن وعين بعين , أما المسيحية فقد ركزت علي الحب والتسامح " فقد لا ينفع الناس ان تهديهم تفصيلا إلى الخير , بل قد يكون انجح لو علمناهم الإيمان والحب وكبح الشهوة وتركنا لعقولهم ان تنظم أمورهم في حدود مالا يحرمه الضمير "0
ومن هنا تأتي دعوته الملحة لفصل الدين عن النظم الاجتماعية لأن الدين ثابت والنظم الاجتماعية متغيرة بالضرورة , وهما أمران لا يجب ان يتعلق أحدهما بالآخر . وواضح ان رؤية المؤلف للخلاص تقوم أساساً علي الحرية الفردية المطلقة حتى يتسنى للضمير الفردى, ان يمارس دوره المؤثر . لهذا يدعو إلى وقوف الأفراد في وجه الجماعة إذا تعارضت دعوة الجماعة مع ضمير الفرد. وهي دعوة تغرق في المثالية وتحسن الثقة بالضمير الفردي ولا تقول شيئاً عن الجرائم الكبرى التي تدفع إليها الشعوب بإملاء ضمير الفرد وحده وقناعاته , حين يتحول الفرد إلى ديكتاتور يسخر الجماعة لأغراضه.
*2 - المسيح يصلب من جديد
فإذا كانت " قرية ظالمة " تعطى مثالا لرواية استلهم مؤلفها حادثة الصلب ، فإن مسرحية " المسيح يصلب فى فلسطين " التى نشرت باسم " القضية " سنة 1978 ، ترتكز أساسا على حادثة الصلب وتربط بين صلب المسسيح وبين العدوان على شعب فلسطين وغيره من الشعوب العربية، لتنفى حق اليهود فى الحصول على التبرئة من دم المسيح على أساس أن الجريمة ما تزال مستمرة، وشرط التبرئة والغفران هو الكف عن العدوان بكل أشكاله.
فالمسرحية تتناول وثيقة التبرئة التى أصدرها الفاتيكان سنة1965 .وكان غرض اليهود من هذه التبرئة هو التخلص من النصوص التى تتردد فى كنائس الغرب وتصب اللعنة على اليهود لأنهم قتلوا المسيح, ، وقد عارضت الكنيسة المصرية هذه الوثيقة , ووقفت الصحافة المصرية – فى عهد عبد الناصر – ضد هذه التبرئة لأن مقاصدها سياسية واضحة والمسرحية تضع الجريمة الجديدة- جريمة اغتصاب فلسطين – أمام طلب التبرئة لكشف هذا التناقض وكما يقول (الراوى) فى المسرحية : -
" الجريمة المستمرة هى موضوع القضية والمحاكمة ما انتهتش لكن العدالة جاية" فالنص, كما يقول المخرج سمير العصفورى , يكشف بذور التآمر اليهودى ضد أنبياء الله, كما يكشف جذور الإرهاب الصهيونى ومظاهره فى العدوان على شعوب الأمة العربية, وهو رؤية مسيحية ورؤية وطنية ورؤية قومية فى آن واحد ( من تقرير سمير العصفورى لهيئة المسرح بتاريخ 10 أكتوبر 1973,) فالنص أقرب إلى المسرحية الوثائقية حيث يكشف الجزء الأول كيف نجح المخطط الصهيونى, فى الضغط على الكرادلة بالعزف على نغمة تعذيب اليهود واحراقهم فى عهد هتلر،
فالصهيونى (وايزمان) مندوب جمعية الصداقة اليهودية – يدخل على كبير الكرادلة, ويطلب منه تأييد الوثيقة التى تقول إن يهود اليوم ليسوا مسئولين عن صلب المسيح .
ك . الكرادلة : لا أعتقد أنه بوسعى أو بوسع أى إنسان أن يتعرض لما جاء فى الكتب المقدسة .. فهذه الأمور تتعلق بأساس العقيدة المسيحية .. ولا يستطيع عاقل أن يفكر فيها.
وايزمان: إن مطلبنا لا يستهدف المساس بالعقيدة .. ولكنه يستلهم روح المحبة والتسامح النابعة من العقيدة المسيحية.
ك الكرادلة: روح المحبة والتسامح لا تعنى تحريف الكتب المقدسة . وأمام المعارضة الشديدة يبدأ وايزمان بالتهديد فيشير إلى موقف البابا السابق المساند لهتلر ويهدد بكشف المستور من تلك الوثائق وهو ما نراه فى الحوار التالى :وايزمان: نحن أحوج ما نكون لمعونتكم .. وما حل بنا على يد هتلر ليس ببعيد..
ك الكرادلة : لم يكن اليهود وحدهم ضحايا المذابح الهتلرية .. بل راح فيها المسيحيون والشيوعيون أيضاً بالملايين.
ويدور الجزء الثانى من النص فى القاهرة فى أوائل السبعينات, ويقرر فيه المؤلف التحقق من قضية صلب المسيح من خلال فنتازيا –أو محاكمة خيالية لقيافا رئيس كهنة وشيوخ بنى إسرائيل الذين اصدروا الأمر بصلب المسيح, وكذلك بيلاطس البنطى حاكم أورشليم , ويهوذا االاسخريوطى تلميذ المسيح الذى وشى به,. وقبل أن تبدأ إجراءات المحاكمة يبشرنا الكورس بكشف الزور والضلال وإفشال هذه المحاولة فيقول :
لكن اللعبة لن تنجح
لن تطفئ نور الحرية
وشعوب العالم تتحفز
سنقاوم أبدا ونناضل
ونرد العدوان الاحمق
وتجرى وقائع المحاكمة لقيافا رئيس كهنة إسرائيل وبيلاطس البنطى الوالى الرومانى حيث يتبادل كل منهما تبعة جريمة الصلب على الآخر المدعى : من المسئول إذن عن هذه الجريمة ؟
قيافا : المسئول هو بيلاطس البنطى
المدعى : ألم تكن شريكا له فى الجريمة ؟
قيافا : لم اشترك معه أبداً فى أى شئ
بيلاطس : أنا برئ من هذه التهمة : كما أنه لم يكن من عادتى القتل وسفك دماء الأبرياء
قيافا : ( بحركة مسرحية ) يالك من وغد جرئ.. اسمعوا يا سادة: يقول إنه لم يكن من عادته القتل وسفك الدماء .إذن من الذى أقام حمامات الدم وذبح الجليليين ثم مزج دماءهم بدماء الخراف ؟
بيلاطس : لم تكن دماء بريئة يا قيافا وأنت تعرف الفرق طبعاً ... فالقضاء على فتنة الجليليين ومؤامرتهم الخسيسة كان ضرورة ملحة من ضرورات الأمن تمليها الظروف لحماية الإمبراطورية ونظامها .
قيافا : فلماذا لا يكون قتل المسيح ضرورة من ضرورات الأمن أيضاٌ؟
بيلاطس: هذه مغالطة طبعاً .. فالأمر يختلف تمام الاختلاف إذ لم يكن المسيح خطراً على الأمن كما تعرف بل كان خطره الحقيقى على مصالحكم الطبقية (ينظر اليه بغضب ) لكن كيف يتحول مجرم مثلك إلى مدع يوزع الاتهامات ؟
المدعى : هذه حيلة صهيونية حاذقة تستهدف صرف أنظار الجماهير عن موضوع المحاكمة الحقيقى.
بيلاطس : إن قتلة المسيح الحقيقيين يا سادة هم مجلس الكهنة والشيوخ وعلى رأسهم قيافا هذا . فهو الذى تقدم الكهنة والشيوخ وطالب بصلب المسيح وقال" دمه علينا وعلى أولادنا من بعدنا"
قيافا : نعم ؟؟ أحبطنا مؤامراته فلم يكن خافياٌ على بيلاطس أن المسيح قد جمع حوله عدداً كبيراً من الفقراء والعبيد الذين لا يملكون شيئاً و لا يخافون على شئء ، ثم بدأ يضللهم بكلماته الرنانة عن الخلاص والحرية والحياة الأفضل.
المدعى: وكيف أحبطت مؤامرته ؟
بيلاطس: بصلب المسيح طبعا!
قيافا: كان المجتمع يتعرض لانقسام خطير وكان لابد أن يموت واحد من أجل الجميع .
وأثناء الاستراحة تتسلل إلى قاعة المحكمة ( ماريانا رابين ) وهى فتاة غاية فى الفتنة والجمال وعندما تستأنف المحاكمة تعلن أنها جاءت لتدلى برأيها فى هذه القضية وعندما يعترض بعض أعضاء المحكمة على دخولها تقرر أنها دخلت وأصبح الأمر واقعا وعلى الجميع أن يواجهوا الأمر الواقع . وأمام رفض المحكمة تعتذر وتقول أن المحاكمة يعاد فيها الحكم لحساب التاريخ والإنسانية وأنها واحدة من الإنسانية المقصودة ، فهى تمثل جمعية الصداقة اليهودية وجاءت تقدم وجهة نظرها فى القضية ، وترتفع حرارة النقاش بين ماريانا وبين عضو المحكمة وهو مستشار الفكر الدينى فيطالبها بأن تقدم تصورها باختصار ( فترد قائلة ) أليس هدف المحاكمة هو إثبات أن قيافا ومجلس الكهنة والشيوخ هم المسئولون عن جريمة قتل المسيح؟ وتجيب "نحن نقر بهذا و لا شئ أكثر من هذا "، فيرد القاضى لكن مسؤولية الجريمة متوارثة فى الأولاد ويكون جوابها أن أجيالا كثيرة قد تحملت وذر هذه الجريمة، واستفدت اللعنة أغراضها منذ زمن بعيد فيرد القاضى:" إن الأحكام الإلهية لا تستنفذ أغراضها فى زمن معين أو فى جيل معين" وتصعد ماريانا مواجهتها للمحكمة :
ماريانا : فى بعض الأحيان تقع فى الحيرة الكبيرة فلا نكاد نفهمكم أيها المسيحيون .
المستشار : كيف ؟ ان فهمنا لا يحتاج إلى مجهود.
ماريانا : بل يحتاج إلى أعصاب باردة قوية . فكيف يقول المسيح "أحبوا أعداءكم" وتعادوننا " باركوا لأعنيكم فتلعنوننا،" بل فى بعض الأحيان ترفضون حتى الصفح عنا.
المستشار : هذه مغالطة . فنحن نملك الصفح عن أعدائنا الشخصيين . لكن فى هذه المسألة لا نملك الصفح عن أحد.
ماريانا : إذن فهذه لعنة أبدية ؟ ألا يقبل الله الخطاة ؟
لونجهام : يقبلهم حين يتوبون .
ماريانا : لكن الصفح هو بداية التوبة.
لونجهام : العكس هو الصحيح . فالصفح مشروط بالتوبة، أى التوبة أولا
ماريانا : من وضع هذا الشرط ؟
لونجهام : وضعه السيد المسيح ، وكان يوجه كلامه لكم
( فى هذه اللحظة يأتى صوت من بعيد يقول " هوذا بيتكم يترك لكم خراباً لا يبقى فيه حجر على حجر حتى تقولوا مبارك الآتى باسم الرب ")
ماريانا : ما معنى هذا الكلام؟
لونجهام: معناه أنه لن يقوم لكم كيان مستقر حتى تعترفوا بان المسيح جاء من قبل الرب وتؤمنوا به.
ماريانا : نؤمن بالمسيح ؟
المستشار: هذا شرط الخلاص حتى تنتهى عزلتكم وتصبحون أخوة لكل الشعوب
ماريانا : وينتهى الشعب المختار
المستشار:و تنتهى أسطورة التفوق البربرية
ماريانا : وتنقضى دولة إسرائيل
لونجهام : بل تنقضى الأطماع التوسعية
ماريانا : وتتلاشى الأمة اليهودية
لونجهام : لا, بل تتلاشى عقدة العداء السامية
ماريانا : ونذوب فى عامة الشعب
لونجهام : وينتهى الاضطهاد والحروب
ماريانا : (تتثاءب مثل شهر ذاد ) ويضيع كل ما بنيناه بالقوة والسلاح
المستشار: كل من ياخذ بالسيف – بالسيف يهلك .
ماريانا : لا .. لا لن نؤمن بما تؤمنون .. سنقاوم ونحارب ونبنى إسرائيل الكبرى
وعند إصدار الحكم يشعر بعض أعضاء المحكمة بالحيرة إزاء موقف بيلاطس ، هل هو مذنب حقيقى أم هو حقا برئ .. وهنا يرد المدعى قائلا:
لا . لا . فبيلاطس هذا أيضا جرمه مثل الباقين
فهو أصل للبلايا. مجرم كالمجرمين
هو بلفور وهو جونسون . هو ايدن أو موليه. هو أيضا مثل نيكسون ينبغى القبض عليه
وحين تنتهى هيئة المحكمة من مشاهدة وقائع العدوان الاسرائيلى على فلسطين ومصر وغيرهما تصدر قرار الإدانة على قيافا وعلى بيلاطس البنطى ممثل الاستعمار فى كل زمان ثم تدعو أصحاب القضية لمواجهة هذه القوى فى ميادين النضال ( كى يستردوا أرضهم ويصنعوا عصر السلام )
" وعند نهاية كلام الكورس تنزل على شاشة خلفية صورة استسلام الجنود الإسرائيليين عند بور توفيق على القنال سنة 1973 ( وهو تاريخ كتابة المسرحية ) مع صوت موسيقى ( خللى السلاح صاحى ) " وهكذا تأتى معركة أكتوبر بمثابة الرد الحقيقى على عربدة إسرائيل ولكنها رد القادر على العفو عند المقدرة . وهى لحظة فخر تثبت أننا شعب عريق متحضر لا تحركه غرائز الحقد و لا رغبة الانتقام، ولكننا نحارب معركة عادلة من أجل السلام وإعلاء القيم الإنسانية النبيلة.
يرى د. مرسى سعد الدين ( فى حلقة مع النقاد بالبرنامج الثانى ) أن موضوع هذه المسرحية من الأعمال القليلة التى تعالج موضوعاً عالميا أثار الرأى العام فى العالم كله ، واختلفت الآراء حوله ، وكان د . كامل حسين أول من تناول هذا الموضوع فى رواية " قرية ظالمة " – لكن مسرحية " القضية " تعمد من خلال هذا الموضوع إلى تناول قضية العرب المركزية وصراعنا مع الصهيونية بأسلوب يخاطب العقل والوجدان ويصلح لمخاطبة الرأى العام العالمى .. لقد تفادى المؤلف الوقوع فى الدعاية بسبب المعالجة الإنسانية النزيهة _ إنها عمل جرئ ومثير وهام وكان يجب أن يجد طريقه إلى المسرح ، وأن قضايانا الفكرية و المصيرية الهامة تحتاج لأعمال أدبية من هذا النوع – لأنها تحسن مخاطبة الآخرين بعيداً عن أبواق الدعاية و الأعلام .
أما د نهاد صليحة ،فقد أسهبت ( فى نفس الحلقة) فى مناقشة أسلوب الصياغة الفنية واستخدام عنصر الفنتازيا فى مشهد المحاكمة وقالت :_ إن المسرحية فيها جرعة فكاهية كبيرة ، ويبدو قيافا رئيس كهنة إسرائيل فى زمن المسيح – شخصية كوميدية رائعة – رغم أنه شخصية نمطية – لكنه شخصية متكاملة وإنسان له وجهة نظر نتيجة للسمامحة الدرامية ، وقد أدانه المؤلف عن طريق كلامه الذى يقوله . إنه شخصية محبوبة ، إنه شيطان خفيف الظل . والمحاكمة فيها خيال وفيها إبداع حقيقى ، واللغة الخاصة تسهم فى خلق الفكاهة – إلا أن الخلط فى أساليب الصياغة المسرحية هو المشكل بالنسبة لهذه المسرحية " .
.. وقد ناقش الدكتور عبد المنعم تليمة هذه المسرحية فى ندوة أدبية بأتيليه القاهرة فقال :- " ذكرتنى هذه المسرحية بأسئلة غريبة تقال عن أدب نسائى . ويكاد السؤال أن يرد عن أدب قبطى يمكن أن يبرز من بين ظهرانينا من الأقباط من يعالج باستنارة رفيعة هذه المورثات من منظور مسيحى فى إطار الوطنية المصرية وقومية العرب. وبنفس التوقع يمكن أن يبرز من بيننا مسلمون يعالجون أدق المورثات الدينية فى هذا الإطار العقلانى المستنير. إذن المؤلف يستدعى صلب المسيح ويدير عليه الأمر فى صلب الفلسطينيين الآن فى هذا الزمن الردئ ، وهو يقيم موازاة بين هذه الموروثات التى تعايشها الجماهير وتحياها وبين قضية القضايا لهذه الجماهير - فيصبح الأمر واحداٌ ، فالقضية هى هى .. قضية الوثيقة على هذا المحور الروحى التاريخى ، هذا الحدث الكبير فى تاريخ البشرية وهذا الصراع الصهيونى كان يمكن ، وهو بالفعل أقام الأمر على هذه الموازة ، وأن يكشف ما يمكن أن يكون إنسانيا فى الأمرين جميعاٌ ، فى أمر دور اليهود فى الصلب ودور الصهيونية فى تدمير فلسطين ، واستطاع أن يقرن بين إسرائيل والحضارة الغربية .
واضح أن ( نسيم ) قارئ ممتاز لأمثال ( بريخت وبيتر فايس ) فالأصل فى هذا المسرح يعتمد موهبة عالية لأنه يعتمد على الحياة اليومية وأشهد أن ( نسيم ) فى كثير جداً من المواضع قد أفلح فى أن يكون مهتدياُ بهذين الرائدين الكبيرين ، واستطاع بالفعل – عن طريق الحوادث الكبرى فى التاريخ –، أن يقيم موازاة بين خروج اليهود من مصر وخروج العرب من فلسطين ، واستطاع أن يوازى فى داخل هذه الجماعة التاريخية الواحدة للمجموعة العربية بين الموروثين المسيحى والإسلامى ، وأن يجعل هذين الموروثين يتجسدان فى شخوص حية تجرى فى عروقها الدماء الحارة البشرية . هذه الموازاة بين الخروجين وبين الموروثين موازة ناجحة جداً. وهى سر نجاحه وتفوقه لأنه وضع فى ذهنه _ مقتنعاً وواعيا – أن ثمة موروثين فى داخل الجماعة القومية الواحدة ، لكنه مسرحيا ً لا يمكن الإعلان – إذن فلابد من تجسيدهما فى شخوص بعينها ، وقد تحقق ذلك فعلاً – فنجد السيدة المسيحية (مارى) أمام تستنجد بالبطل ( منصور ) الخارج من المسجد .. هذه الدماء الإنسانية الحارة فى داخل الجماعة هى بالفعل – الحداثة والوطن – بمعناه الحديث الذى تذوب فيه وتتمازج وتتفاعل موروثاته القديمة والوسيطة والحديثة ، وتصبح هدفاً للجماعة فى تاريخها الحديث ، وقد وقفت عند هذين الموروثين لأرى فيهما ماسكاً ينتظم العمل الفنى من أوله إلى أخره ، وهذا توفيق فنى يحمد له .
ويعقب الاستاذ عبد الغنى داوود (فى بحث لم ينشر) على ذلك بقوله:" وقد حرصت على تسجيل كلمة ( د. تليمة ) كاملة – وهو الناقد الموضوعى كى يضع أيدينا بشكل خلاق على خطاب هذا النص ، وخاصة فيما يتعلق بالموروثين المسيحى والإسلامى .. لكنه لم يقترب من بناء هذا النص الذى اختلطت فيه المناهج وإن بدا تقريرياً تاريخياً فى بعض الأحيان . وقد التزم المؤلف بالمضامين الدينية القبطية فى هذا النص – عن عمد – منعاً لأى حساسيات دينية وطائفية .. لأن من حق الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر أن تدلى بدلوها فى هذه القضية .. مناصرة لقضايا الحرية والعدالة والمساواة ، والذى لا شك فيه أن وقائع المحاكمة بالذات توافق نصوص الإنجيل ، وقد أضاف المؤلف الكثير من التفاصيل خاصة فيما يتعلق بالتواطؤ الذى تم بين ( قيافا ) و ( بيلاطس البنطى ) كنوع من التصالح ضد عدو مشترك ، رغم مابين مصلحة اليهود والمحتل الرومانى من تناقض فى مجتمع الاستغلال ، ومن ثم يقررون قتله على خشبة الصليب لأنه كما قال ( قيافا ) – فى نهاية المحاكمة – كان يهدد بتدمير المجتمع ، وكان لابد أن يموت واحد من أجل الجميع . فالمجتمع اليهودى باعتماده على التعصب العنصرى والاستغلال الطبقى لم ينتج سوى العنف والارهاب لكن تظل مسرحية " القضية " نصا جديرا بالاهتمام لاتساع أفقه الانسانى ، وتحويله الموضوع الدينى إلى قضية سياسية وإنسانية أنية وملحة تؤرق الضمائر الحية".
أما مسرحية "الراهب " للدكتور لويس عوض فهى تراجيديا تاريخية تتناول الثورة الاستقلالية التى قامت فى الإسكندرية عام296 ميلادية بزعامة الوالى الرومانى لوشيوس دومتيوس دومتيالنوس ، وكان بطلها الراهب المصرى أبا نوقر وهى دراما كبيرة تغطى رقعة كبيرة من الأحداث وانتهنت نهاية مأساوية ، وهذه تمثل حلقة هامة فى عصر الشهداء . وتحتاج الى دراسة وافية مستقلة.
بقلم نسيم مجلي
قليلة هى الأعمال الإبداعية التى تستوحى رموز العقيدة المسيحية فى أدبنا الحديث، رغم الثراء الباذخ للتراث القبطى فى جوانبه التاريخية والشعبية.ولعل أشهر هذه الإبداعات الحديثة يتمثل فى أربعة أعمال هى: رواية "قرية ظالمة" للدكتور محمد كامل حسين 1953، ومسرحية " الراهب " للدكتور لويس عوض 1961 ،ثم مسرحية "القضية " التى كتبت إبان حرب أكتوبر1973 وصدرت عن الهيئة العامة للكتاب 1978 من تأليف كاتب هذه الدراسة، بالاضافة الى رواية " الحارس " للدكتور ناجى فوزى التى صدرت سنة 2007.
*1- قرية ظالمة :
و"قرية ظالمة" هـي الرواية الوحيـدة التي كتبـها جراح العظام الشهير الدكتـور محمد كـامل حسين والتى فازت بجائزة الدولة سنة 1957 مناصفة مع نجيب محفوظ ، كما كتب بضعة قصص قصيرة أخرى مثل" الإسخريوطى"، بالإضافة الى عدة كتب هامة في الأدب والفلسفة لـكن "قرية ظالمة" استحوذت علي اهتمام الناس حتى صار يعرف بأنه صاحب "قرية ظالمة"
تعدي الاهتمام بهذه القصة حدود الوطن، فترجمت لأكثر من لغة أجنبية، بل إن الترجمة الإنجليزية تتصدرها مقدمة طويلة كتبها المترجم مستر كينيث كراج، لكن المؤسف أن الاهتمام في مصر لم يتحول إلى دراسة أو تقييم لهذه القصة. ، ولا أعرف أحدا كتب عنها في حينها سوي الأستاذ يوسف الشاروني في كتابه "دراسات في أدبنا العربي" و د. سهير القلماوي وأخيرا في عام 1977 كتب الأستاذ فتحي رضوان بضعة مقالات عن القصة ومؤلفها ونشرها بمجلة "الثقافة" .
"وقرية ظالمة" تمثل محاولة جادة لدراسة أزمة الضمير المعاصر واكتشاف أسبابها الروحية والتاريخية، وهذه الأزمة تبدو واضحة في قدرة المجتمعات الحديثة علي ارتكاب جرائم القتل والعدوان ضد الأفراد والجماعات باسم المصلحة القومية أو الوطنية أو تحت شعار الدين
وفي سبيل الكشف عن جذور هذه الأزمة وتوضيح أبعادها الحقيقية يعود بنا المؤلف قرابة ألفي عام إلى الوراء، ليحلل لنا أحداث ذلك اليوم المشهود "حين أجمع بنو إسرائيل أمرهم أن يطلبوا إلى الرومان صلب المسيح ليقضوا علي دعوته، وما كانت دعوته إلا أن يحتكم الناس إلى ضمائرهم في كل ما يفعلونه وما يفكرون فيه فلما عزموا أن يصلبوه لم يكن عزمهم إلا أن يقتلوا الضمير الإنساني ويطفئوا نوره، وهم يحسبون أن عقلهم ودينهم يأمران بما يعلو أوامر الضمير وفي هذا الذي أرادوه تتمثل نكبة الإنسانية الكبرى".(قرية ظالمة ص 2)
لقد كان اليهود أهل دين، وكان الرومان أهل مدنية وقانون، ولم يحل ذلك كله دون ارتكابهم للجريمة لأنهم تصوروا أن الدين والنظام يعلوان علي أوامر الضمير، ومن هنا كانت خطيئتهم ومأساتهم ومأساة الإنسانية عموما حتى الآن. وكما يقول المؤلف "فالناس أبدا معاصرون لذلك اليوم المشهود وهم أبدا معرضون لما وقع فيه أهل أورشليم حينذاك من إثم وضلال، وسيظلون كذلك حتى يجمعوا أمرهم أن لا يتخطوا حدود الضمير."
ومن هنا يتبين لنا أن المؤلف قد اختار واقعة صلب المسيح ليستكشف من خلالها أزمة الضمير الإنساني المعاصر ثم يقدم لنا رؤيته للخلاص. فنحن في مدينة أورشليم وفي تلك الساعة الحاسمة من يوم الجمعة الحزينة حيث يشيع جو القلق والاضطراب والكآبة والترقب.
ولا نكاد نمضي في قراءة القصة حتى نلتقي بعديد من الشخصيات التي شاركت في تلك الأحداث أو التي شهدتها.. والجميع في أزمة تأخذ بخناقهم. فرجل الاتهام الذي جمع بالأمس كل قدراته البلاغية ليقنع شيوخ إسرائيل وكهنتها أن المسيح خطر عليهم أصبح يساوره القلق في صدق ما قال.
وفي طريقه إلى دار الندوة يلتقي بذلك التاجر اليهودي، الذي يحاول بالمال وبالذكاء أن يقنع الحداد بصنع المسامير التي تدق في يدي المسيح ورجليه. إن الحداد يخشى الاشتراك في هذه الجريمة، ولكن التاجر يقول: "إن أكبر الجرائم إذا وزعت علي عدد من الناس أصبح من المستحيل أن يعاقب الله أحدا من مرتكبيها.." ولا يكاد رجل الاتهام يسمع قول هذا الشيطان حتى يرتعد، "أيكون هو أيضا ممن يشاركون في الخطيئة الكبرى مجزأة حتى لا يدري أحد ــ ولو كان إله بني إسرائيل نفسه ــ علي من يكون العقاب.." ويرهقه التفكير فيعرج إلى دار صديق له يسأله " أنحن علي صواب في اتهام هذا الرجل وصلبه، أم علي خطأ؟".
ويرد صديقه " احتكم إلى ضميرك وحده، فهو الذي يهديك."
وما جري لممثل الاتهام يحدث مثله للمفتي، فلا يكاد الأعضاء يجتمعون في دار الندوة حتى يتراجع عن فتواه " إني لن أفتي بعد اليوم " انهم أساءوا فهم فتواي ويريدون أن يقتلوا بها رجلا لا أري ضميري يرضي عن قتله."
ويحاول أحدهم أن يحذره. لقد آمن الناس بأن صلبه واجب، ولن يعدلوا عن رأيهم، وليس من السياسة أو مصلحة المجتمع أن يتراجع أحد عن هذا الموقف، ويرد المفتي بأنه لا يهتم بأمر العامة أو بأمور السياسة.
أما حيرة " قيافا " فتنبع من عدم إيمانه بالقوة وإعجابه بالحلول الأخلاقية التي يقدمها المسيح، وفي الوقت ذاته هناك حرصه علي سلامة المجتمع وحمايته من الانقسام، وهذا يتطلب صلبه ومن ثم بات ليلته مهموما وسار في الصباح إلى دار الندوة محزونا، لابد أن يري ماذا يفعل؟ كيف يبرئ المسيح من الباطل الذي اتهموه به إرضاء لضميره، أو كيف يوافق علي صلبه حماية للمجتمع الذي يجلس هو علي قمته كرئيس لشيوخ وكهنة إسرائيل..
كذلك يتراجع معظم الشيوخ عن قرار صلب المسيح إلا رجال المال والتجارة الذين يصرون علي صلبه، ويرون فى دعوته للإخاء والمساواة وسيلة لتجميع العبيد والفقراء استعدادا لثورة ضد المجتمع. وحين يعجز منطقهم، يهددون الشيوخ والكهنة بالجماهير قائلين " إن الشعب هائج ولن تهدأ ثائرته حتى يصلب هذا الرجل."
وأحداث القصة لا تستغرق أكثر من ثلاث ساعات، وهو زمن المأساة اليونانية. ومن حديث الأشخاص تتكشف لنا أبعاد الأزمة، فقد اصدروا بالأمس قرارا إجماعيا بصلب المسيح، واليوم قد وجدوا أنفسهم في قبضة هذا القرار لا يستطيعون عنه رجوعا، أمام حشود الرعاع والغوغاء التي أقنعوها بالأمس بخطر النبي الجديد.
لقد عادوا إلى بيوتهم بعد إصدار القرار.. ولم يكد كل منهم ينفرد بنفسه، حتى يشعر بصحوة ضميره، وبدأ يري الأمر على نحو جديد.كيف يتراجع أو كيف يبرر لنفسه أو للآخرين. لقد وضعهم بيلاطس البنطي في مأزق.إذ سلموه المسح بالأمس ليصلبه. لكنه لا يجد علة لذلك ويريد أن يطلق سراحه حسب عادته في عيد الفصح..
لقد قدم لهم بيلاطس فرصة ذهبية للرجوع عن الخطأ. وكان علي رؤساء الكهنة وقادة الشعب أن يغتنموا هذه الفرصة حتى يتخلصوا من تبكيت الضمير الذي يعتصرهم فرداً فرداً، وهنا نلاحظ براعة المؤلف في تقديم الأحداث وترتيبها حتى تصل الى النهاية الثابتة دينيا وتاريخيا وكأنها تجري بقوة التطور الحتمي نحو النهاية.
فلا يكاد يستقر رأي الشيوخ والقادة علي الرجوع عن قرار الأمس حتى يفاجئهم تطور الأحداث. فقد حاصر الرعاع دار الندوة ثم اقتحموا المجلس وراحوا يتهمون الشيوخ والقادة بالخيانة ويهددون بصلبهم مع المسيح. وهنا تنكشف مأساة العجز عند ذوي الرأي ورجال الدين. لقد أقنعوهم بالأمس أن المسيح فتنة تهدد أمن المجتمع وسلامته، فكيف يقنعوهم اليوم بعكس ذلك..
إنها مأساة الفرد ومأساة الجماعة في آن واحد. فالحقيقة تثقل كاهل العقلاء فردا فرداً. ولكن من يقوي علي مواجهة الجماهير الثائرة.. من؟
لا شك أن المؤلف قد اختار أسلوبا ملائما تماما لموضوعه. فرواية الأحداث أو سردها عن طريق أشخاص مختلفين في الأفكار والمواقف من شأنه أن ينير الزوايا المختلفة للقضية المثارة, كما أنه أكثر الأساليب قدرة على مخاطبة العقل والوجدان في وقت واحد.
فنحن لا نرى حادثة الصلب مع أنها المحور الرئيسي للقصة. وإنما نسمع عنها من خلال الحوار المحتدم بين الفيلسوف المادي الذي يرفض التسليم بما لا يقبله العقل والحكيم المجوسي الذي رأى نجم المسيح عند مولده وآمن به منذ ذلك الحين. وهو يرى أن حدوث الظلام واشتداده كانا بسبب الصلب إذ يقول " إني أعلم من أحداث هذا اليوم ما لا تعلمون. إن الله رافع السيد المسيح إليه. وهو نور الله في الأرض, فلما أبى أهل أورشليم إلا أن يطفئوه, أظلمت عليهم الدنيا.. وهذا الظلام آية من عند الله تدل على انه حرمهم نور الإيمان وهدى الضمير." وهكذا تنتهي وقائع الصلب.
إن واقعة الصلب تمثل حادثا شديد التعقيد يحفل بالمعاني الدينية والأخلاقية والفلسفية وقد حصر المؤلف جهده في دراسة هذا الحادث من جوانبه الإنسانية.
ولعل صعوبة فهم هذه الجوانب, حال دون عرض مشهد الصلب أمامنا في القصة مع أنه المحور الرئيسي فيها, واكتفى المؤلف بتقديمه عن طريق رواة هم شهود عيان لما وقع في تلك الساعات. ولا شك أنه أسلوب موفق أتاح لنا رؤية هذه الحقيقة من عدة جوانب.
فقد اختار المؤلف حيلة ذكية ترمز إليه هي واقعة إعدام الجندي الروماني. وكان هذا الجندي قد التقى بمريم المجدلية بعد توبتها على يد السيد المسيح, فعرف عن طريقها معنى الحب المسيحي فرفض أن يشترك مع زملائه في محاصرة إحدى القرى ومهاجمتها بل نبه أهل القرية للغزو الوشيك , فحاكمه الرومان بتهمة الخيانة ونفذوا الحكم بان ربطوه في أربعة خيول تعدو في اتجاهات مختلفة.
وهذه القصة الفرعية التي تظهر وحشية الرومان تخدم هدفا آخر للمؤلف بالنسبة للحادث الرئيسي فهي تجسيد لمعنى الفداء من جانب الجندي الذي ضحى بنفسه بدلا عن أهل القرية.. فان كانت واقعة صلب المسيح تجسد جريمة اليهود وهم أهل دين, فجريمة تمزيق هذا الجندي تجسد وحشية الرومان وهم أهل مدنية وقانون. وهنا يتضح لنا "عجز الدين والقانون عن إنقاذ الإنسان من ثورته المأساوية ضد حقيقة الضمير ما لم يكن الدين والقانون مرتبطين بالحقيقة ارتباط العبد بالسيد ".. كما يقول كينيث كراج الذى ترجم هذه القصة الى الإنجليزية.
وفي مقدمة الترجمة الإنجليزية يعلق مستر كينيث كراج علي أزمة أورشليم فيشير إلى أن صيحة الجماهير لبيلاطس التي وردت في الإنجيل " خذ هذا الرجل " تحولت من الفرد إلى المجموع فأصبحت تعني " خذ هؤلاء الرجال". "أصبح الرجل أزمة المجموع وأصبح المغزى الأخلاقي للمشهد حكما بواسطة الإنسانية وعلي الإنسانية".
ويمضي كينيث كراج في كلامه فيقول إن سحر هذا الكتاب أنه يتخذ هذا الموضوع محورا له يستكشفه بحساسية مرهفة ويقدمه وربما لأول مرة عن طريق مفكر ينتمي للعقيدة الإسلامية. فالفكر الإسلامي يميل إلى رفض فكرة صلب المسيح. والمسيحيون يحاولون منذ قرون إثبات الصلب عن طريق الأسانيد التاريخية كتدعيم للعقيدة الدينية التي تؤمن بالصلب كطريق للفداء. وكان من نتيجة هذا الجدال، أن غمض علي الجميع تقريبا المغزى الإنساني لهذا الحادث. وهذا ما يبرزه الدكتور محمد كامل حسين من خلال هذه القصة. فهو يقدم تحليلا دقيقا لإرادة اليهود علي صلب المسيح.
وهو يفعل هذا دون أن يتعدى الحدود التي رسمها القرآن. فاقرآن لا ينكر الصلب فقد وقف المفسرون عند المعنى الظاهر لآية " ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم "، دون أن يعملواعقولهم فى فهم هذه القاعدة التى حددها القرآن ورتب فيها ثلاثة مراحل لحياة المسيح وهى حسب الترتيب التالى الميلاد ثم الوفاة وبعدها الرفع أى القيامة، وهو واضحة فى الآيات القرآنية التالية :
1-" وسلام عليه يوم ولد ويوم " يموت " ويوم يبعث حيا " (مريم 19-15)
2- " والسلام على يوم ولدت ويوم " أموت " ويوم أبعث حيا " (مريم 19-13 )
3- " إذ قال الله ياعيسى إنى "متوفيك " ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين
اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . " ( آل عمران 3-5)
4- " وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب " ( سورة المائدة 5:117)
ومؤلف "قرية ظالمة "، يستكشف الأحداث من جديد في ضوء النص القرآني ويقرر أن واقعة الصلب قد حدثت علي المستوي الإنساني.. غير أنه لا يخبرنا من هو الذي صلب حقا؟ فهو طبقا للنص القرآني ليس المسيح وإنما شبيه له. وقد تحمل هذا الشبيه عبء عملية الصلب التاريخية. فحوكم وأدين خطأ علي أنه المسيح. وهنا يطرح كينيث كراج سؤالا هاما : متي وكيف تمت عملية الاستبدال؟ لكن القصة لم تعط أي إجابة لمثل هذا السؤال.
وجدير بنا ونحن نعرض لهذه القصة أن نستعرض معا الآراء التي ترفض الإيمان بوقوع الصلب ونحلل أبعادها لنعرف إلى أي حد وصل المؤلف في مناقشة هذه القضية الهامة .ولعل أهم هذه الأقوال ما جاء في القرآن الكريم " وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه – ما لهم به علم إلا اتباع الظن, وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً" ومعني هذه الآية يتفق تماماً مع ما قال به بعض الهراطقة في القرن الثاني الميلادي من أن المسيح لم يصلب وإنما صلب شخص " يشبهه"
فالقول " شبه لهم " مسند الى من ؟ فإذا جعلته مسندا إلى المسيح فهو مشبه به وليس مشبه .وإن أسندته الى المقتول فالمقتول لم يأت له ذكر. كذلك فإن عدالة الله سبحانه وتعالى لاتقبل بوضع انسان برىء ليتحمل الصلب والعذاب بدلا من المسيح . ولو شاء الله أن يخلص المسيح من الموت على الصليب لخلصه بمعجزة واضحة مقنعة وهو القادر على كل شىء ليس فى حاجة للتخفى أو الغش أو إخراج إحدى تمثيليات الأقنعة .
ففي القرن الرابع الميلادي قدم الراهب آريوس رأياً ً لا يعدو أن يكون اجتهاداً فلسفياً في تفسير آيات الإنجيل إذ يقول آريوس أن الله لم يتعذب في المسيح, وان المسيح الذي صلب وتعذب كان بشراً من لحم ودم والجسد مجرد ظل، مجرد مظهر. أما جوهر المسيح فهو روح الله وكلمته والجوهر لا يصلب ولا يتعذب، إنهم ما صلبوه إلا في الظاهر فقط. أما المسيح الكلمة فقد رفع إلى السماء والمسيح البشر قد صلب علي الأرض، ولكن العامة تتوهم أن روح الله تعذبت في جسد المسيح, إن المسيح صعد إلى السماء روحاً وجسداً !
وقد رفضت كنيستنا الأرثوذكسية كلام آريوس واعتبرته بدعة مذمومة لأنه يفصل بين اللاهوت والنا سوت, أي بين الطبيعة الإلهية والطبيعة الجسدية للمسيح, بينما تقول تعاليم هذه الكنيسة المستمدة من الإنجيل أن المسيح قد صلب وقبر وفي اليوم الثالث قام من الأموات وصعد إلى السماء. وأن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة أو طرفة عين.
هذه الأقوال علي ما بينها من خلاف تتفق جميعاً في حدوث واقعة الصلب. فاليهود يعترفون بها في الآية الكريمة "وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي بن مريم رسول الله.""فهم يعترفون هنا أنهم قتلوه وهم يعلمون أنه رسول الله., والجريمة تبقي تبعتها علي اليهود والرومان لأن تدبيرهم للصلب وتنفيذه علي هذا النحو يعطي الدليل الكافي علي أنهم رفضوا المسيح وتعاليمه الداعية إلى الحب والسلام.
و "قرية ظالمة" تقدم الوقائع السابقة للصلب كما هي بالضبط في المفهوم المسيحي. فإذا تركنا السؤال جانباً عما إذا كان الصلب قد وقع للمسيح وركزنا علي الحدث كشيء كان مقصوداً به المسيح , فان المغزى الإنساني للقرار الذي اتخذه معاصروه ضده ومن أجل صلبه يبقي كما هو لا تشوبه شائبة. وهذا ما يذهب إليه مستر كينيث كراج ثم يضيف "إن الشيء المهم هو إن قلة قليلة قبل "كامل حسين" هي التي قامت بمبادرات إسلامية لدراسة التاريخ المسيحي من جانبه الإنساني "
وعلي الجانب الإنساني يري الدكتور كامل حسين أن وقائع الصلب تمت فاليهود وبيلاطس البنطي كانوا يعلمون أنهم يصلبون المسيح , لا شبيهاً له , ولو عرفوا بالشبيه لتراجعوا عن فعلتهم. فحقيقة الصلب بوقائعها علي هذا النحو " تشكل مواجهة أخلاقية تنعكس عليها مشاكل الموقف الإنساني بحيث تتيح لنا دراسة الأزمة الإنسانية الشاملة "
فمدينة أورشليم التي يطلق عليها المؤلف اسم "قرية ظالمة" هي نموذج للعالم كله. وقيافا وبيلاطس ومن معهما ليسا ممثلين لليهود والرومان فقط بل ممثلين للإنسانية كلها , حين تخاذلا أمام الرعاع وسلما المسيح للصلب ورغم أن القصة تكشف لنا عن أسلوب اليهود في توزيع تبعة الجرائم الكبرى إلا أنها لا تدين اليهود كشعب أو جنس . فهي لا تدين مجتمعاً بذاته كمجتمع بل بفعله . وهي إدانة لكل من ينحرف عن جادة الصواب أو يتنكب لأوامر الضمير الذي هو قبس من نور الله . فالمؤلف يري أن الجرائم الكبرى تقع تحت دعاوى الوطنية والقومية وحماية الدين أو الصالح العام . وهذه الشعارات تمثل أوثان العصر الحديث . لهذا نراه يحرض الأفراد علي التمرد عليها إذا تصادمت مع نواهي الضمير.
ان الموسوية ركزت علي العدل حين قالت سن بسن وعين بعين , أما المسيحية فقد ركزت علي الحب والتسامح " فقد لا ينفع الناس ان تهديهم تفصيلا إلى الخير , بل قد يكون انجح لو علمناهم الإيمان والحب وكبح الشهوة وتركنا لعقولهم ان تنظم أمورهم في حدود مالا يحرمه الضمير "0
ومن هنا تأتي دعوته الملحة لفصل الدين عن النظم الاجتماعية لأن الدين ثابت والنظم الاجتماعية متغيرة بالضرورة , وهما أمران لا يجب ان يتعلق أحدهما بالآخر . وواضح ان رؤية المؤلف للخلاص تقوم أساساً علي الحرية الفردية المطلقة حتى يتسنى للضمير الفردى, ان يمارس دوره المؤثر . لهذا يدعو إلى وقوف الأفراد في وجه الجماعة إذا تعارضت دعوة الجماعة مع ضمير الفرد. وهي دعوة تغرق في المثالية وتحسن الثقة بالضمير الفردي ولا تقول شيئاً عن الجرائم الكبرى التي تدفع إليها الشعوب بإملاء ضمير الفرد وحده وقناعاته , حين يتحول الفرد إلى ديكتاتور يسخر الجماعة لأغراضه.
*2 - المسيح يصلب من جديد
فإذا كانت " قرية ظالمة " تعطى مثالا لرواية استلهم مؤلفها حادثة الصلب ، فإن مسرحية " المسيح يصلب فى فلسطين " التى نشرت باسم " القضية " سنة 1978 ، ترتكز أساسا على حادثة الصلب وتربط بين صلب المسسيح وبين العدوان على شعب فلسطين وغيره من الشعوب العربية، لتنفى حق اليهود فى الحصول على التبرئة من دم المسيح على أساس أن الجريمة ما تزال مستمرة، وشرط التبرئة والغفران هو الكف عن العدوان بكل أشكاله.
فالمسرحية تتناول وثيقة التبرئة التى أصدرها الفاتيكان سنة1965 .وكان غرض اليهود من هذه التبرئة هو التخلص من النصوص التى تتردد فى كنائس الغرب وتصب اللعنة على اليهود لأنهم قتلوا المسيح, ، وقد عارضت الكنيسة المصرية هذه الوثيقة , ووقفت الصحافة المصرية – فى عهد عبد الناصر – ضد هذه التبرئة لأن مقاصدها سياسية واضحة والمسرحية تضع الجريمة الجديدة- جريمة اغتصاب فلسطين – أمام طلب التبرئة لكشف هذا التناقض وكما يقول (الراوى) فى المسرحية : -
" الجريمة المستمرة هى موضوع القضية والمحاكمة ما انتهتش لكن العدالة جاية" فالنص, كما يقول المخرج سمير العصفورى , يكشف بذور التآمر اليهودى ضد أنبياء الله, كما يكشف جذور الإرهاب الصهيونى ومظاهره فى العدوان على شعوب الأمة العربية, وهو رؤية مسيحية ورؤية وطنية ورؤية قومية فى آن واحد ( من تقرير سمير العصفورى لهيئة المسرح بتاريخ 10 أكتوبر 1973,) فالنص أقرب إلى المسرحية الوثائقية حيث يكشف الجزء الأول كيف نجح المخطط الصهيونى, فى الضغط على الكرادلة بالعزف على نغمة تعذيب اليهود واحراقهم فى عهد هتلر،
فالصهيونى (وايزمان) مندوب جمعية الصداقة اليهودية – يدخل على كبير الكرادلة, ويطلب منه تأييد الوثيقة التى تقول إن يهود اليوم ليسوا مسئولين عن صلب المسيح .
ك . الكرادلة : لا أعتقد أنه بوسعى أو بوسع أى إنسان أن يتعرض لما جاء فى الكتب المقدسة .. فهذه الأمور تتعلق بأساس العقيدة المسيحية .. ولا يستطيع عاقل أن يفكر فيها.
وايزمان: إن مطلبنا لا يستهدف المساس بالعقيدة .. ولكنه يستلهم روح المحبة والتسامح النابعة من العقيدة المسيحية.
ك الكرادلة: روح المحبة والتسامح لا تعنى تحريف الكتب المقدسة . وأمام المعارضة الشديدة يبدأ وايزمان بالتهديد فيشير إلى موقف البابا السابق المساند لهتلر ويهدد بكشف المستور من تلك الوثائق وهو ما نراه فى الحوار التالى :وايزمان: نحن أحوج ما نكون لمعونتكم .. وما حل بنا على يد هتلر ليس ببعيد..
ك الكرادلة : لم يكن اليهود وحدهم ضحايا المذابح الهتلرية .. بل راح فيها المسيحيون والشيوعيون أيضاً بالملايين.
ويدور الجزء الثانى من النص فى القاهرة فى أوائل السبعينات, ويقرر فيه المؤلف التحقق من قضية صلب المسيح من خلال فنتازيا –أو محاكمة خيالية لقيافا رئيس كهنة وشيوخ بنى إسرائيل الذين اصدروا الأمر بصلب المسيح, وكذلك بيلاطس البنطى حاكم أورشليم , ويهوذا االاسخريوطى تلميذ المسيح الذى وشى به,. وقبل أن تبدأ إجراءات المحاكمة يبشرنا الكورس بكشف الزور والضلال وإفشال هذه المحاولة فيقول :
لكن اللعبة لن تنجح
لن تطفئ نور الحرية
وشعوب العالم تتحفز
سنقاوم أبدا ونناضل
ونرد العدوان الاحمق
وتجرى وقائع المحاكمة لقيافا رئيس كهنة إسرائيل وبيلاطس البنطى الوالى الرومانى حيث يتبادل كل منهما تبعة جريمة الصلب على الآخر المدعى : من المسئول إذن عن هذه الجريمة ؟
قيافا : المسئول هو بيلاطس البنطى
المدعى : ألم تكن شريكا له فى الجريمة ؟
قيافا : لم اشترك معه أبداً فى أى شئ
بيلاطس : أنا برئ من هذه التهمة : كما أنه لم يكن من عادتى القتل وسفك دماء الأبرياء
قيافا : ( بحركة مسرحية ) يالك من وغد جرئ.. اسمعوا يا سادة: يقول إنه لم يكن من عادته القتل وسفك الدماء .إذن من الذى أقام حمامات الدم وذبح الجليليين ثم مزج دماءهم بدماء الخراف ؟
بيلاطس : لم تكن دماء بريئة يا قيافا وأنت تعرف الفرق طبعاً ... فالقضاء على فتنة الجليليين ومؤامرتهم الخسيسة كان ضرورة ملحة من ضرورات الأمن تمليها الظروف لحماية الإمبراطورية ونظامها .
قيافا : فلماذا لا يكون قتل المسيح ضرورة من ضرورات الأمن أيضاٌ؟
بيلاطس: هذه مغالطة طبعاً .. فالأمر يختلف تمام الاختلاف إذ لم يكن المسيح خطراً على الأمن كما تعرف بل كان خطره الحقيقى على مصالحكم الطبقية (ينظر اليه بغضب ) لكن كيف يتحول مجرم مثلك إلى مدع يوزع الاتهامات ؟
المدعى : هذه حيلة صهيونية حاذقة تستهدف صرف أنظار الجماهير عن موضوع المحاكمة الحقيقى.
بيلاطس : إن قتلة المسيح الحقيقيين يا سادة هم مجلس الكهنة والشيوخ وعلى رأسهم قيافا هذا . فهو الذى تقدم الكهنة والشيوخ وطالب بصلب المسيح وقال" دمه علينا وعلى أولادنا من بعدنا"
قيافا : نعم ؟؟ أحبطنا مؤامراته فلم يكن خافياٌ على بيلاطس أن المسيح قد جمع حوله عدداً كبيراً من الفقراء والعبيد الذين لا يملكون شيئاً و لا يخافون على شئء ، ثم بدأ يضللهم بكلماته الرنانة عن الخلاص والحرية والحياة الأفضل.
المدعى: وكيف أحبطت مؤامرته ؟
بيلاطس: بصلب المسيح طبعا!
قيافا: كان المجتمع يتعرض لانقسام خطير وكان لابد أن يموت واحد من أجل الجميع .
وأثناء الاستراحة تتسلل إلى قاعة المحكمة ( ماريانا رابين ) وهى فتاة غاية فى الفتنة والجمال وعندما تستأنف المحاكمة تعلن أنها جاءت لتدلى برأيها فى هذه القضية وعندما يعترض بعض أعضاء المحكمة على دخولها تقرر أنها دخلت وأصبح الأمر واقعا وعلى الجميع أن يواجهوا الأمر الواقع . وأمام رفض المحكمة تعتذر وتقول أن المحاكمة يعاد فيها الحكم لحساب التاريخ والإنسانية وأنها واحدة من الإنسانية المقصودة ، فهى تمثل جمعية الصداقة اليهودية وجاءت تقدم وجهة نظرها فى القضية ، وترتفع حرارة النقاش بين ماريانا وبين عضو المحكمة وهو مستشار الفكر الدينى فيطالبها بأن تقدم تصورها باختصار ( فترد قائلة ) أليس هدف المحاكمة هو إثبات أن قيافا ومجلس الكهنة والشيوخ هم المسئولون عن جريمة قتل المسيح؟ وتجيب "نحن نقر بهذا و لا شئ أكثر من هذا "، فيرد القاضى لكن مسؤولية الجريمة متوارثة فى الأولاد ويكون جوابها أن أجيالا كثيرة قد تحملت وذر هذه الجريمة، واستفدت اللعنة أغراضها منذ زمن بعيد فيرد القاضى:" إن الأحكام الإلهية لا تستنفذ أغراضها فى زمن معين أو فى جيل معين" وتصعد ماريانا مواجهتها للمحكمة :
ماريانا : فى بعض الأحيان تقع فى الحيرة الكبيرة فلا نكاد نفهمكم أيها المسيحيون .
المستشار : كيف ؟ ان فهمنا لا يحتاج إلى مجهود.
ماريانا : بل يحتاج إلى أعصاب باردة قوية . فكيف يقول المسيح "أحبوا أعداءكم" وتعادوننا " باركوا لأعنيكم فتلعنوننا،" بل فى بعض الأحيان ترفضون حتى الصفح عنا.
المستشار : هذه مغالطة . فنحن نملك الصفح عن أعدائنا الشخصيين . لكن فى هذه المسألة لا نملك الصفح عن أحد.
ماريانا : إذن فهذه لعنة أبدية ؟ ألا يقبل الله الخطاة ؟
لونجهام : يقبلهم حين يتوبون .
ماريانا : لكن الصفح هو بداية التوبة.
لونجهام : العكس هو الصحيح . فالصفح مشروط بالتوبة، أى التوبة أولا
ماريانا : من وضع هذا الشرط ؟
لونجهام : وضعه السيد المسيح ، وكان يوجه كلامه لكم
( فى هذه اللحظة يأتى صوت من بعيد يقول " هوذا بيتكم يترك لكم خراباً لا يبقى فيه حجر على حجر حتى تقولوا مبارك الآتى باسم الرب ")
ماريانا : ما معنى هذا الكلام؟
لونجهام: معناه أنه لن يقوم لكم كيان مستقر حتى تعترفوا بان المسيح جاء من قبل الرب وتؤمنوا به.
ماريانا : نؤمن بالمسيح ؟
المستشار: هذا شرط الخلاص حتى تنتهى عزلتكم وتصبحون أخوة لكل الشعوب
ماريانا : وينتهى الشعب المختار
المستشار:و تنتهى أسطورة التفوق البربرية
ماريانا : وتنقضى دولة إسرائيل
لونجهام : بل تنقضى الأطماع التوسعية
ماريانا : وتتلاشى الأمة اليهودية
لونجهام : لا, بل تتلاشى عقدة العداء السامية
ماريانا : ونذوب فى عامة الشعب
لونجهام : وينتهى الاضطهاد والحروب
ماريانا : (تتثاءب مثل شهر ذاد ) ويضيع كل ما بنيناه بالقوة والسلاح
المستشار: كل من ياخذ بالسيف – بالسيف يهلك .
ماريانا : لا .. لا لن نؤمن بما تؤمنون .. سنقاوم ونحارب ونبنى إسرائيل الكبرى
وعند إصدار الحكم يشعر بعض أعضاء المحكمة بالحيرة إزاء موقف بيلاطس ، هل هو مذنب حقيقى أم هو حقا برئ .. وهنا يرد المدعى قائلا:
لا . لا . فبيلاطس هذا أيضا جرمه مثل الباقين
فهو أصل للبلايا. مجرم كالمجرمين
هو بلفور وهو جونسون . هو ايدن أو موليه. هو أيضا مثل نيكسون ينبغى القبض عليه
وحين تنتهى هيئة المحكمة من مشاهدة وقائع العدوان الاسرائيلى على فلسطين ومصر وغيرهما تصدر قرار الإدانة على قيافا وعلى بيلاطس البنطى ممثل الاستعمار فى كل زمان ثم تدعو أصحاب القضية لمواجهة هذه القوى فى ميادين النضال ( كى يستردوا أرضهم ويصنعوا عصر السلام )
" وعند نهاية كلام الكورس تنزل على شاشة خلفية صورة استسلام الجنود الإسرائيليين عند بور توفيق على القنال سنة 1973 ( وهو تاريخ كتابة المسرحية ) مع صوت موسيقى ( خللى السلاح صاحى ) " وهكذا تأتى معركة أكتوبر بمثابة الرد الحقيقى على عربدة إسرائيل ولكنها رد القادر على العفو عند المقدرة . وهى لحظة فخر تثبت أننا شعب عريق متحضر لا تحركه غرائز الحقد و لا رغبة الانتقام، ولكننا نحارب معركة عادلة من أجل السلام وإعلاء القيم الإنسانية النبيلة.
يرى د. مرسى سعد الدين ( فى حلقة مع النقاد بالبرنامج الثانى ) أن موضوع هذه المسرحية من الأعمال القليلة التى تعالج موضوعاً عالميا أثار الرأى العام فى العالم كله ، واختلفت الآراء حوله ، وكان د . كامل حسين أول من تناول هذا الموضوع فى رواية " قرية ظالمة " – لكن مسرحية " القضية " تعمد من خلال هذا الموضوع إلى تناول قضية العرب المركزية وصراعنا مع الصهيونية بأسلوب يخاطب العقل والوجدان ويصلح لمخاطبة الرأى العام العالمى .. لقد تفادى المؤلف الوقوع فى الدعاية بسبب المعالجة الإنسانية النزيهة _ إنها عمل جرئ ومثير وهام وكان يجب أن يجد طريقه إلى المسرح ، وأن قضايانا الفكرية و المصيرية الهامة تحتاج لأعمال أدبية من هذا النوع – لأنها تحسن مخاطبة الآخرين بعيداً عن أبواق الدعاية و الأعلام .
أما د نهاد صليحة ،فقد أسهبت ( فى نفس الحلقة) فى مناقشة أسلوب الصياغة الفنية واستخدام عنصر الفنتازيا فى مشهد المحاكمة وقالت :_ إن المسرحية فيها جرعة فكاهية كبيرة ، ويبدو قيافا رئيس كهنة إسرائيل فى زمن المسيح – شخصية كوميدية رائعة – رغم أنه شخصية نمطية – لكنه شخصية متكاملة وإنسان له وجهة نظر نتيجة للسمامحة الدرامية ، وقد أدانه المؤلف عن طريق كلامه الذى يقوله . إنه شخصية محبوبة ، إنه شيطان خفيف الظل . والمحاكمة فيها خيال وفيها إبداع حقيقى ، واللغة الخاصة تسهم فى خلق الفكاهة – إلا أن الخلط فى أساليب الصياغة المسرحية هو المشكل بالنسبة لهذه المسرحية " .
.. وقد ناقش الدكتور عبد المنعم تليمة هذه المسرحية فى ندوة أدبية بأتيليه القاهرة فقال :- " ذكرتنى هذه المسرحية بأسئلة غريبة تقال عن أدب نسائى . ويكاد السؤال أن يرد عن أدب قبطى يمكن أن يبرز من بين ظهرانينا من الأقباط من يعالج باستنارة رفيعة هذه المورثات من منظور مسيحى فى إطار الوطنية المصرية وقومية العرب. وبنفس التوقع يمكن أن يبرز من بيننا مسلمون يعالجون أدق المورثات الدينية فى هذا الإطار العقلانى المستنير. إذن المؤلف يستدعى صلب المسيح ويدير عليه الأمر فى صلب الفلسطينيين الآن فى هذا الزمن الردئ ، وهو يقيم موازاة بين هذه الموروثات التى تعايشها الجماهير وتحياها وبين قضية القضايا لهذه الجماهير - فيصبح الأمر واحداٌ ، فالقضية هى هى .. قضية الوثيقة على هذا المحور الروحى التاريخى ، هذا الحدث الكبير فى تاريخ البشرية وهذا الصراع الصهيونى كان يمكن ، وهو بالفعل أقام الأمر على هذه الموازة ، وأن يكشف ما يمكن أن يكون إنسانيا فى الأمرين جميعاٌ ، فى أمر دور اليهود فى الصلب ودور الصهيونية فى تدمير فلسطين ، واستطاع أن يقرن بين إسرائيل والحضارة الغربية .
واضح أن ( نسيم ) قارئ ممتاز لأمثال ( بريخت وبيتر فايس ) فالأصل فى هذا المسرح يعتمد موهبة عالية لأنه يعتمد على الحياة اليومية وأشهد أن ( نسيم ) فى كثير جداً من المواضع قد أفلح فى أن يكون مهتدياُ بهذين الرائدين الكبيرين ، واستطاع بالفعل – عن طريق الحوادث الكبرى فى التاريخ –، أن يقيم موازاة بين خروج اليهود من مصر وخروج العرب من فلسطين ، واستطاع أن يوازى فى داخل هذه الجماعة التاريخية الواحدة للمجموعة العربية بين الموروثين المسيحى والإسلامى ، وأن يجعل هذين الموروثين يتجسدان فى شخوص حية تجرى فى عروقها الدماء الحارة البشرية . هذه الموازاة بين الخروجين وبين الموروثين موازة ناجحة جداً. وهى سر نجاحه وتفوقه لأنه وضع فى ذهنه _ مقتنعاً وواعيا – أن ثمة موروثين فى داخل الجماعة القومية الواحدة ، لكنه مسرحيا ً لا يمكن الإعلان – إذن فلابد من تجسيدهما فى شخوص بعينها ، وقد تحقق ذلك فعلاً – فنجد السيدة المسيحية (مارى) أمام تستنجد بالبطل ( منصور ) الخارج من المسجد .. هذه الدماء الإنسانية الحارة فى داخل الجماعة هى بالفعل – الحداثة والوطن – بمعناه الحديث الذى تذوب فيه وتتمازج وتتفاعل موروثاته القديمة والوسيطة والحديثة ، وتصبح هدفاً للجماعة فى تاريخها الحديث ، وقد وقفت عند هذين الموروثين لأرى فيهما ماسكاً ينتظم العمل الفنى من أوله إلى أخره ، وهذا توفيق فنى يحمد له .
ويعقب الاستاذ عبد الغنى داوود (فى بحث لم ينشر) على ذلك بقوله:" وقد حرصت على تسجيل كلمة ( د. تليمة ) كاملة – وهو الناقد الموضوعى كى يضع أيدينا بشكل خلاق على خطاب هذا النص ، وخاصة فيما يتعلق بالموروثين المسيحى والإسلامى .. لكنه لم يقترب من بناء هذا النص الذى اختلطت فيه المناهج وإن بدا تقريرياً تاريخياً فى بعض الأحيان . وقد التزم المؤلف بالمضامين الدينية القبطية فى هذا النص – عن عمد – منعاً لأى حساسيات دينية وطائفية .. لأن من حق الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر أن تدلى بدلوها فى هذه القضية .. مناصرة لقضايا الحرية والعدالة والمساواة ، والذى لا شك فيه أن وقائع المحاكمة بالذات توافق نصوص الإنجيل ، وقد أضاف المؤلف الكثير من التفاصيل خاصة فيما يتعلق بالتواطؤ الذى تم بين ( قيافا ) و ( بيلاطس البنطى ) كنوع من التصالح ضد عدو مشترك ، رغم مابين مصلحة اليهود والمحتل الرومانى من تناقض فى مجتمع الاستغلال ، ومن ثم يقررون قتله على خشبة الصليب لأنه كما قال ( قيافا ) – فى نهاية المحاكمة – كان يهدد بتدمير المجتمع ، وكان لابد أن يموت واحد من أجل الجميع . فالمجتمع اليهودى باعتماده على التعصب العنصرى والاستغلال الطبقى لم ينتج سوى العنف والارهاب لكن تظل مسرحية " القضية " نصا جديرا بالاهتمام لاتساع أفقه الانسانى ، وتحويله الموضوع الدينى إلى قضية سياسية وإنسانية أنية وملحة تؤرق الضمائر الحية".
أما مسرحية "الراهب " للدكتور لويس عوض فهى تراجيديا تاريخية تتناول الثورة الاستقلالية التى قامت فى الإسكندرية عام296 ميلادية بزعامة الوالى الرومانى لوشيوس دومتيوس دومتيالنوس ، وكان بطلها الراهب المصرى أبا نوقر وهى دراما كبيرة تغطى رقعة كبيرة من الأحداث وانتهنت نهاية مأساوية ، وهذه تمثل حلقة هامة فى عصر الشهداء . وتحتاج الى دراسة وافية مستقلة.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى