الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 9:52 pm
[center]
رسالة جامعة
في
الإيمان والعقل
FIDES ET RATIO
من قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
إلى اساقفةالكنيسة الكاثوليكيّة
في العلاقات
بين الإيمان والعقل
أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية
تحية وبركة رسولية
الإيمان والعقل هما بمثابة الجناحين اللذين يمكّنان العقل البشري من الارتقاء إلى تأمل الحقيقة. فالله هو الذي وضع في قلب الإنسان الرغبة في معرفة الحقيقة ومعرفته هو ذاته، في النهاية، حتى إذا ما عرفه وأحبّه تمكّن من الوصول إلى الحقيقة الكاملة في شأن ذاته (را خر 33، 18؛ مز 27 [28]، 8-9؛ 63 [62]، 2-3؛ يو 14، 8؛ ا يو 3، 2).
تمهيد
«اعرف نفسك»
1. في الشرق كما في الغرب، بالإمكان أن نلحظ مسيرة دفعت بالبشرية، على مدى أجيال، إلى التقرب شيئاً فشيئاً من الحقيقة ومجابهتها. هذه المسيرة تطوّرت - ولم يكن بالإمكان غير ذلك - في مجال وعي الإنسان لذاته: فبمقدار ما يعرف الإنسان الحقيقة والعالم، يعرف ذاته في فرادتها، فيما يلجّ عليه أكثر فأكثر السؤال عن معنى الأشياء ومعنى وجوده بالذات. فما يظهر لنا موضوع معرفة إنما هو جزء من حياتنا. القول المأثور: «اعرف نفسك» كان منقوشاً على عتبة هيكل دِلف ليشهد لحقيقة أساسيّة، يجب أن تُعتبر قاعدة دُنيا في نظر كل إنسان يريد أن يتميّز عن غيره من الخلائق، ويتّصف بكونه إنساناً لأنه، بالضبط، «يعرف نفسه».
نظرة بسيطة إلى التاريخ القديم تُظهر بوضوح ما ينشأ في غير جزءٍ من أجزاء العالم المعروفة بثقافاتها المتنوّعة، من أسئلة عميقة تطبع مسيرة الوجود البشري بطابع مميّز: من أنـا؟ من أين أنا وإلى أين؟ لماذا وجود الشرّ؟ وماذا يعقب هذه الحياة؟ هذه الأسئلة ماثلة في كتب إسرائيل المقدّسة، ولكنها تطفو أيضاً في كتب الفيدا وكتب الأفستا؛ ونقع عليها أيضاً في مصنّفات كونفوشيوس ولاوتسو كما نعثر عليها في عظات التيرثنكارا وبوذا. ونستشّفها أيضاً في شِعر هوميروس ومسرحيات أوربيذوس وسوفوكليس وكذلك في مصنّفات أفلاطون وأرسطو الفلسفيّة. هذه الأسئلة لها مصدر مشترك: البحث عن المعنى الذي يلج أبداً في قلب الإنسان، والجواب على هذه الأسئلة هو الذي يوجّه الحياة.
2. الكنيسة ليست غريبة عن هذه المسيرة الباحثة ولا تستطيع أن تتجاهلها. فمنذ أن تلقّت، في السرّ الفصحي، هبـة المعرفة القصوى في شأن حياة الإنسان، انطلقت على دروب العالم تنادي بأن يسوع المسيح هو «الطريق والحق والحياة» (يو 14، 6). من بين الخدمات التي تؤديها الكنيسة للبشرية خدمة تُلزِم مسؤوليتَها بطريقة خاصة جداً: وهي خدمة الحقيقة[1]. فمن جهة، نرى أن هذه المُهمّة تدعو جماعة المؤمنين إلى المساهمة في ما تبذله البشرية من جهد مشترك لبلوغ الحقيقة[2]. وهي تلزمها، من جهة أخرى، بأن تتعهَّد المناداة باليقينيات المكتسبة، مع العلم بأن كل حقيقة نُصيبها ما هي سوى مرحلة في الطريق إلى الحقيقة الكاملة التي سوف تظهر لنا في تجليّ الله الأخير: «الآن ننظر في مرآة، في إبهام، أمَّا حينئذٍ فوجهاً إلى وجه. الآن أعلم علماً ناقصاً، أما حينئذٍ فَسَأعْلَم كما عُلِمت» (1 قو 13، 12).
3. يملك الإنسان طاقات كثيرة لدفع التقدَّم في معرفة الحقيقة، بحيث تصبح حياته إنسانية أكثر فأكثر. من بين هذه الطاقات الركون إلى الفلسفة التي تساهم مباشرة في طرح السؤال في شأن معنى الحياة واستطلاع الجواب عليه. الفلسفة هي إذن مهمة من أشرف مهامّ البشرية. لفظة «فلسفة»، في أصلها اليوناني، تعني «حبّ الحكمة». والواقع أن الفلسفة نشأت وترعرعت في الزمن الذي بدأ فيه الإنسان يتساءل عن علة الأشياء وغايتها. ففي أشكال وأنماط متنوعة، تُبيّن لنا الفلسفة أن شوق الحقيقة هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان. إنها مزيّة فطريّة من مزايا العقل أن يتساءل عن علّة الأشياء حتى وإن كانت الأجوبة التي تحظى بها البشرية شيئاً فشيئاً تدخل في إطار رؤية يتجلى من خلالها تكامل الثقافات المتنوّعة التي يعيش فيها الإنسان.
إن ما أحدثته الفلسفة من وقعٍ عميق في تكوين الثقافات في الغرب وتطويرها يجب ألاَّ يُنسينا الأثر الذي خلَّفته أيضاً في مفاهيم الوجود عند الشرقيين. كل شعب يملك حكمة أهلية هي بمثابة ثروة ثقافية حقيقية تسعى إلى أن تعبّر عن ذاتها، وتنضُج أيضاً عبر أنماطٍ فلسفية مميّزة. والبرهان على ذلك أن ثمّة نمطاً أساسياً من أنماط المعرفة الفلسفية لا يزال قائماً حتى اليوم ويمكن أن نتحققه حتى في المسلَّمات التي تستوحيها مختلفُ التشريعات الوطنية والدولية لتثبيت قواعد الحياة الاجتماعية.
4. على كلٍ لا بدَّ من أن نلحظ أن وراء لفظة واحدةٍ تكمن معانٍ مختلفة. لا بدَّ إذن من شرح تمهيدي. يسعى الإنسان، بدافع من رغبته في اكتشاف الحقيقة القصوى في شأن الوجود، إلى امتلاك المعارف العامة التي تتيح له أن يكتنه ذاته اكتناهاً أفضل ويتقدَّم في تحقيق ذاته. المعارف الأَساسية تنبثق من الاندهاش الذي يبعثه فيه تأمّل الخليقة: فالكائن البشري يستحوذ عليه الذهول باكتشاف ذاته مندمجاً في العالم، وفي علاقة مع كائنات أخرى تشبهه يشارك مصيرها. هنا تبدأ المسيرة التي تفضي به إلى اكتشاف آفاقٍ من المعرفة دائمة التجدّد. بدون هذا الاندهاش يقع الإنسان في التكرار ويمسي شيئاً فشيئاً عاجزاً عن أن يحيا حياة شخصية حقيقية.
الطاقة الفكرية التي يتميّز بها العقل البشري تمكّنه من أن يصوغ، عبر النشاط الفلسفي، نمطاً من الفكر الصارم، ومن أن يبني هكذا علماً نظيماً يتميّز بتماسك المقولات تماسكاً منطقياً وبطابع بنيويّ المحتوى. بفضل هذا المسار، استطاعت البشريّة أن تحرز، في قرائن ثقافية مختلفة وفي أزمنة متراوحة، نتائج أفضت إلى صياغة مذاهب فكرية حقيقية. ولكن ما نتج عن ذلك، تاريخياً هو تعرّض الفلسفة غالباً لاعتبار تيارٍ فكريٍ واحد بمثابة الفكر الفلسفي بأجمعه. إلاَّ أنه من الواضح، في مثل هذه الحال، أن هناك شبه «غطرسةٍ فلسفية» تدّعي وضع نظرتها الخاصة، بالرغم من محدوديتها، موضع الرؤية الشاملة. والواقع ان كل مذهب فلسفي، حتى وإن احتُرمَتْ جميع مقوّماته بمنأىً عن كل محاولة من محاولات التوسيل، يجب أن يعترف بأولويّة الفكر الفلسفي الذي ينبثق منه والذي يجب أن يتطوّع له بطريقة متماسكة.
بالإمكان، والحالة هذه، أن نهتدي إلى وجود نواةٍ من المفاهيم الفلسفية الثابتة في تاريخ الفكر، بالرغم من التقلبات عبر الأزمنة، وتطورات العلم. وحسبنا، مثالاً على ذلك، أن نعود بالفكر إلى مبدأ اللاتناقضية والغائية والسببية، وكذلك إلى رؤية الإنسان كائناً حراً مفكّراً وقدرته على معرفة الله والحقيقة والخير؛ حسبنا أن نعود أيضاً إلى بعض القواعد الأخلاقية الأساسية المعترف بها عامَّة. هذه المفاهيم وغيرها هي الدليل على أن هناك مجموعة من المقولات يمكن أن نعتبرها شبه تراث روحي للبشرية باسرها، بصرف النظر عن التيارات الفكريّة المختلفة؛ فكأنما نحن بإزاء فلسفة ضمنية تحمل كلاَّ منا على الشعور بأنه يمتلك هذه المبادىء، حتى وإن كان ذلك بطريقة عامة وعفويَّة. هذه المفاهيم، بسبب كونها تراثاً مشتركاً بين الجميع، إلى حدٍّ ما، يجب أن تكوّن مراجع تعتمدها مختلف المدارس الفلسفية. عندما يتوصل العقل إلى أن يدرك ويصوغ المبادىء الأولى والشاملة وأن يستخلص منها، بطريقة سليمة، النتائج المتماسكة على صعيد المنطق والأخلاق، بإمكاننا عندئذٍ أن نتكلم عن عقل سويّ، على حدٍّ تعبير القدامى.
5. وأمَّا الكنيسة فلا تخلو من أن تقدّر جهود العقل للوصول إلى الأهداف التي تضفي على الوجود الشخصي مزيداً من الكرامة. فهي تتوسَّم في الفلسفة وسيلة لا بدَّ منها للتعمق في فهم الإيمان، وتبليغ حقيقة الإنجيل للذين لم تصل بعد إليهم.
تعقيباً على ما قام به أسلافي في هذا المجال، أودُّ أنا أيضاً أن أوجّه نظري إلى هذا النمط الخاص من النشاط الفكري. وما يحملني على هذا هو ما يبدو لنا غالباً، في هذا العصر خصوصاً، من محاولات التعتيم على التماس الحقيقة. لا شك أن الفلسفة المعاصرة لها الفضل الكبير في تركيز انتباهها على الإنسان. من هذا المنطلق، أخذ العقل المزدحم بالتساؤلات يعزّز رغبته في امتلاك معرفة أوسع وأعمق. هكذا نشأت مذاهب فكرية معقّدة أعطت ثمارها في مختلف مجالات العلم وساعدت في تطوير الثقافة والتاريخ.
علم الإنسان والمنطق وعلوم الطبيعة والتاريخ واللغة، بل عالم المعرفة كله، تناولته الفلسفة بطريقة ما. إلاّ أن النتائج الإيجابيّة المحصَّلة يجب ألاّ تلهينا عن أن هذا العقل ذاته المنهمك في التحرّي عن الذات الإنسانية بطريقة حصرية، يبدو في غفلة عن أن هذا الإنسان لا يزال مدعواً أيضاً إلى الشخوص إلى حقيقة تتخطاه. بمعزلٍ عن هذا المرجع يظلُ الإنسان عرضة للاعتباطية ويمسي خاضعاً لمقاييس برغماتية مرتكزة جوهرياً على المعطى الاختباري، وذلك من منطلق يقين زائف بأن التقنيَّة يجب أن تُهيمن على كل شيء. ونجم عن ذلك أن العقل المثقل بمثل هذا القدر من العلم، بدلاً من أن يعبّر قدر الإمكان عن نزوعه إلى الحقيقة. انكفأ على ذاته وأمسى يوماً أقلَّ من يوم أهلاً لأن يرفع بصره إلى فوق، ويتجرأ على الوصول إلى الحقيقة. الفلسفة المعاصرة، في غفلتها عن التماس حقيقة الكيان، كثَّفت بحثها في المعرفة البشرية. وبدلاً من أن ترتكز على قدرة الإنسان على معرفة الحقيقة آثرت التركيز على محدوديتها ومظروفياتها.
نتج عن ذلك غير شكلٍ من أشكال اللاّأدرية والنسبويّة أدت بالبحث الفلسفي إلى الضياع في الريبيَّة الشاملة ورمالها المتحركة. وقد أخذت تتفاقم، في المدة الأخيرة، بعض التعاليم النازعة إلى الحطّ من قيم الحقائق التي كان الإنسان قد تثبَّت من بلوغها. وهكذا تراجعت التعدّدية المشروعة في المواقف أمام التعدّدية اللامبالية المرتكزة على المبدأ القائل بأن كل المواقف سواء. وتلك دلالة من أكثر الدلائل انتشاراً على ما نلحظه، في القرائن الراهنة، من حذر تجاه الحقيقة. هناك نظريات في الحياة صادرة من الشرق لا تخلو، أيضاً من مثل هذا التحقظ. ففي نظرها يجب أن نخلع عن الحقيقة طابعها المطلق، وذلك انطلاقاً من الفرضيَّة القائلة بأن الحقيقة تتجلى بطريقة متساوية في معتقدات مختلفة بل متضاربة. من هذا المنظار، كل شيء يصبح مجرَّد رأي. ويسودنا الشعور بأننا بإزاء حركة متموّجة: فمن جهة نرى أن الفكر الفلسفي قد أفلح في سلوك الطريق التي تقرّبه أكثر فأكثر من الوجود البشري في مختلف تعابيره، ونرى، من جهة أخرى، أنه ينـزع إلى تنمية اعتبارات وجودية وتفسيرية ولغويّة تطمس السؤال الجوهري في شأن حقيقة الحياة الشخصية وحقيقة الكيان والله؛ وبالنتيجة أخذت تظهر عند الإنسان المعاصر، وليس عند بعض الفلاسفة وحسب، مواقف ارتياب على جانب من الانتشار حيال ما يملكه الكائن البشري من طاقات كبيرة تخوّله الوصول إلى المعرفة. وبدافع من التواضع المزيّف، بات عصرنا مكتفياً بالحقائق الجزئية والوقتية، متنصّلاً من السعي إلى طرح الأسئلة الجذرية حول معنى الحياة البشرية الشخصية والاجتماعية ومرتكزها الأخير. وخلاصة القول أن عصرنا قد فقد الرجاء في أن يتلقى من الفلسفة أجوبة حاسمة على هذه الأسئلة.
6. وأمَّا الكنيسة المدعومة بما تلقته من وحي يسوع المسيح، فهي تجد نفسها أهلاً لأن تؤكد، مرة أخرى، ضرورة البحث عن الحقيقة. وهذا ما حملني على التوجه إليكم، أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية الذين أشترك وإياهم في «إظهار الحق» (2 قو 4، 2)، كما أتوجه أيضاً إلى اللاهوتيين والفلاسفة الذين يقع عليهم واجب التحرّي عن مختلف وجوه الحقيقة. وأتوجه أخيراً إلى الذين هم في طور البحث، لأنقل إلى هؤلاء جميعاً بعض الأفكار في الطريق المؤدّية إلى الحكمة الحقيقية، حتى يتمكن كل الذين يحملون في قلوبهم محبّة الحكمة من أن يسلكوا الطريق الصحيحة التي توصلهم إليها ويجدوا فيها مكافأة أتعابهم مقرونة بالفرح الروحي.
إن ما يدفعني إلى اتخاذ هذه المبادرة هو أولاً تنبّهي لما يعبّر عنه المجمع الفاتيكاني، عندما يؤكد أن الأساقفة هم «شهود الحقيقة الإلهية والكاثوليكيّة»[3]. الشهادة للحقيقة هي إذن مسؤولية وُكلت إلينا تحن الأساقفة، ولا يسوغ لنا أن نستعفي منها بدون أن نخلِف بالخدمة التي أُسنِدَت إلينا. عندما نؤكّد حقيقة الإيمان، بإمكاننا أن نعيد إلى إنسان عصرنا ثقة حقيقية بطاقاته الإدراكية ونتحدَّى الفلسفة لتعود وتكتشف ثانية كرامتها الكاملة وتعزّزها.
هناك دافع آخر يحثني إلى تسطير هذه الأفكار. في رسالتي العامة «تألق الحقيقة» لفتُّ الانتباه إلى «بعض الحقائق الأساسية في التعليم الكاثوليكي المعرّضة للتشويه والرفض في القرائن الراهنة»[4]. إني أود، من خلال هذه الرسالة، أن أواصل هذا البحث وأركّز الانتباه على موضوع الحقيقة بالذات ومرتكزها بالنسبة إلى الإيمان. لا يمكننا، في الواقع، أن ننكر ما يجري في هذه الفترة من تحوّلات سريعة ومعقَّدة تعرّض الأجيال الناشئة، وبخاصّة التي في يدها المستقبل وبها يتعلَّق، لأن تشعر بفقدان المعالم الصحيحة على طريق الحقيقة. ضرورة الارتكاز على أساس يبنى عليه صرح الوجود الشخصي والاجتماعي أمست حاجة مُلِحَّة، خصوصاً عندما نجدنا مضطرين إلى لمس الطابع التصدّعي في طروحات ترفع الأشياء العابرة إلى مستوى القيم، توهماً أنه بالإمكان الوصول إلى الوجود في معناه الحقيقي. وينجم عن ذلك أن كثيراً من الناس يجرجرون حياتهم عند حافة الهوّة، لا يدرون إلى أين يتوجهون. وهذا منوط أيضاً بأن الذين كانوا مدعوِّين بدعوة خاصة إلى التعبير عن ثمرة تفكيرهم في أشكال ثقافية، قد أشاحوا بنظرهم عن الحقيقة وآثروا النجاح الفوري على عناء البحث الصبور في ما هو جدير بالحياة. الفلسفة التي تحمل المسؤولية الباهظة في تنشئة الفكر والثقافة، بالدعوة الدائمة إلى التماس الحقيقة، عليها أن تعود إلى اكتشاف رسالتها الأصيلة اكتشافاً ناشطاً. ولذا شعرتُ لا بضرورة الخوض في هذه المسألة وحسب بل بالواجب الملقى على عاتقي في معالجة هذا الموضوع، لكي تتمكن البشرية، وهي عند عتبة الألف الثالث من التاريخ المسيحي، من أن تعي بوضوح أكثر الطاقات العظيمة التي أُكرمت بها وتسير، بشجاعة متجدّدة، في سبيل تحقيق خطة الخلاص التي يتسجَّل فيها تاريخها(يتبع)
رسالة جامعة
في
الإيمان والعقل
FIDES ET RATIO
من قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
إلى اساقفةالكنيسة الكاثوليكيّة
في العلاقات
بين الإيمان والعقل
أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية
تحية وبركة رسولية
الإيمان والعقل هما بمثابة الجناحين اللذين يمكّنان العقل البشري من الارتقاء إلى تأمل الحقيقة. فالله هو الذي وضع في قلب الإنسان الرغبة في معرفة الحقيقة ومعرفته هو ذاته، في النهاية، حتى إذا ما عرفه وأحبّه تمكّن من الوصول إلى الحقيقة الكاملة في شأن ذاته (را خر 33، 18؛ مز 27 [28]، 8-9؛ 63 [62]، 2-3؛ يو 14، 8؛ ا يو 3، 2).
تمهيد
«اعرف نفسك»
1. في الشرق كما في الغرب، بالإمكان أن نلحظ مسيرة دفعت بالبشرية، على مدى أجيال، إلى التقرب شيئاً فشيئاً من الحقيقة ومجابهتها. هذه المسيرة تطوّرت - ولم يكن بالإمكان غير ذلك - في مجال وعي الإنسان لذاته: فبمقدار ما يعرف الإنسان الحقيقة والعالم، يعرف ذاته في فرادتها، فيما يلجّ عليه أكثر فأكثر السؤال عن معنى الأشياء ومعنى وجوده بالذات. فما يظهر لنا موضوع معرفة إنما هو جزء من حياتنا. القول المأثور: «اعرف نفسك» كان منقوشاً على عتبة هيكل دِلف ليشهد لحقيقة أساسيّة، يجب أن تُعتبر قاعدة دُنيا في نظر كل إنسان يريد أن يتميّز عن غيره من الخلائق، ويتّصف بكونه إنساناً لأنه، بالضبط، «يعرف نفسه».
نظرة بسيطة إلى التاريخ القديم تُظهر بوضوح ما ينشأ في غير جزءٍ من أجزاء العالم المعروفة بثقافاتها المتنوّعة، من أسئلة عميقة تطبع مسيرة الوجود البشري بطابع مميّز: من أنـا؟ من أين أنا وإلى أين؟ لماذا وجود الشرّ؟ وماذا يعقب هذه الحياة؟ هذه الأسئلة ماثلة في كتب إسرائيل المقدّسة، ولكنها تطفو أيضاً في كتب الفيدا وكتب الأفستا؛ ونقع عليها أيضاً في مصنّفات كونفوشيوس ولاوتسو كما نعثر عليها في عظات التيرثنكارا وبوذا. ونستشّفها أيضاً في شِعر هوميروس ومسرحيات أوربيذوس وسوفوكليس وكذلك في مصنّفات أفلاطون وأرسطو الفلسفيّة. هذه الأسئلة لها مصدر مشترك: البحث عن المعنى الذي يلج أبداً في قلب الإنسان، والجواب على هذه الأسئلة هو الذي يوجّه الحياة.
2. الكنيسة ليست غريبة عن هذه المسيرة الباحثة ولا تستطيع أن تتجاهلها. فمنذ أن تلقّت، في السرّ الفصحي، هبـة المعرفة القصوى في شأن حياة الإنسان، انطلقت على دروب العالم تنادي بأن يسوع المسيح هو «الطريق والحق والحياة» (يو 14، 6). من بين الخدمات التي تؤديها الكنيسة للبشرية خدمة تُلزِم مسؤوليتَها بطريقة خاصة جداً: وهي خدمة الحقيقة[1]. فمن جهة، نرى أن هذه المُهمّة تدعو جماعة المؤمنين إلى المساهمة في ما تبذله البشرية من جهد مشترك لبلوغ الحقيقة[2]. وهي تلزمها، من جهة أخرى، بأن تتعهَّد المناداة باليقينيات المكتسبة، مع العلم بأن كل حقيقة نُصيبها ما هي سوى مرحلة في الطريق إلى الحقيقة الكاملة التي سوف تظهر لنا في تجليّ الله الأخير: «الآن ننظر في مرآة، في إبهام، أمَّا حينئذٍ فوجهاً إلى وجه. الآن أعلم علماً ناقصاً، أما حينئذٍ فَسَأعْلَم كما عُلِمت» (1 قو 13، 12).
3. يملك الإنسان طاقات كثيرة لدفع التقدَّم في معرفة الحقيقة، بحيث تصبح حياته إنسانية أكثر فأكثر. من بين هذه الطاقات الركون إلى الفلسفة التي تساهم مباشرة في طرح السؤال في شأن معنى الحياة واستطلاع الجواب عليه. الفلسفة هي إذن مهمة من أشرف مهامّ البشرية. لفظة «فلسفة»، في أصلها اليوناني، تعني «حبّ الحكمة». والواقع أن الفلسفة نشأت وترعرعت في الزمن الذي بدأ فيه الإنسان يتساءل عن علة الأشياء وغايتها. ففي أشكال وأنماط متنوعة، تُبيّن لنا الفلسفة أن شوق الحقيقة هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان. إنها مزيّة فطريّة من مزايا العقل أن يتساءل عن علّة الأشياء حتى وإن كانت الأجوبة التي تحظى بها البشرية شيئاً فشيئاً تدخل في إطار رؤية يتجلى من خلالها تكامل الثقافات المتنوّعة التي يعيش فيها الإنسان.
إن ما أحدثته الفلسفة من وقعٍ عميق في تكوين الثقافات في الغرب وتطويرها يجب ألاَّ يُنسينا الأثر الذي خلَّفته أيضاً في مفاهيم الوجود عند الشرقيين. كل شعب يملك حكمة أهلية هي بمثابة ثروة ثقافية حقيقية تسعى إلى أن تعبّر عن ذاتها، وتنضُج أيضاً عبر أنماطٍ فلسفية مميّزة. والبرهان على ذلك أن ثمّة نمطاً أساسياً من أنماط المعرفة الفلسفية لا يزال قائماً حتى اليوم ويمكن أن نتحققه حتى في المسلَّمات التي تستوحيها مختلفُ التشريعات الوطنية والدولية لتثبيت قواعد الحياة الاجتماعية.
4. على كلٍ لا بدَّ من أن نلحظ أن وراء لفظة واحدةٍ تكمن معانٍ مختلفة. لا بدَّ إذن من شرح تمهيدي. يسعى الإنسان، بدافع من رغبته في اكتشاف الحقيقة القصوى في شأن الوجود، إلى امتلاك المعارف العامة التي تتيح له أن يكتنه ذاته اكتناهاً أفضل ويتقدَّم في تحقيق ذاته. المعارف الأَساسية تنبثق من الاندهاش الذي يبعثه فيه تأمّل الخليقة: فالكائن البشري يستحوذ عليه الذهول باكتشاف ذاته مندمجاً في العالم، وفي علاقة مع كائنات أخرى تشبهه يشارك مصيرها. هنا تبدأ المسيرة التي تفضي به إلى اكتشاف آفاقٍ من المعرفة دائمة التجدّد. بدون هذا الاندهاش يقع الإنسان في التكرار ويمسي شيئاً فشيئاً عاجزاً عن أن يحيا حياة شخصية حقيقية.
الطاقة الفكرية التي يتميّز بها العقل البشري تمكّنه من أن يصوغ، عبر النشاط الفلسفي، نمطاً من الفكر الصارم، ومن أن يبني هكذا علماً نظيماً يتميّز بتماسك المقولات تماسكاً منطقياً وبطابع بنيويّ المحتوى. بفضل هذا المسار، استطاعت البشريّة أن تحرز، في قرائن ثقافية مختلفة وفي أزمنة متراوحة، نتائج أفضت إلى صياغة مذاهب فكرية حقيقية. ولكن ما نتج عن ذلك، تاريخياً هو تعرّض الفلسفة غالباً لاعتبار تيارٍ فكريٍ واحد بمثابة الفكر الفلسفي بأجمعه. إلاَّ أنه من الواضح، في مثل هذه الحال، أن هناك شبه «غطرسةٍ فلسفية» تدّعي وضع نظرتها الخاصة، بالرغم من محدوديتها، موضع الرؤية الشاملة. والواقع ان كل مذهب فلسفي، حتى وإن احتُرمَتْ جميع مقوّماته بمنأىً عن كل محاولة من محاولات التوسيل، يجب أن يعترف بأولويّة الفكر الفلسفي الذي ينبثق منه والذي يجب أن يتطوّع له بطريقة متماسكة.
بالإمكان، والحالة هذه، أن نهتدي إلى وجود نواةٍ من المفاهيم الفلسفية الثابتة في تاريخ الفكر، بالرغم من التقلبات عبر الأزمنة، وتطورات العلم. وحسبنا، مثالاً على ذلك، أن نعود بالفكر إلى مبدأ اللاتناقضية والغائية والسببية، وكذلك إلى رؤية الإنسان كائناً حراً مفكّراً وقدرته على معرفة الله والحقيقة والخير؛ حسبنا أن نعود أيضاً إلى بعض القواعد الأخلاقية الأساسية المعترف بها عامَّة. هذه المفاهيم وغيرها هي الدليل على أن هناك مجموعة من المقولات يمكن أن نعتبرها شبه تراث روحي للبشرية باسرها، بصرف النظر عن التيارات الفكريّة المختلفة؛ فكأنما نحن بإزاء فلسفة ضمنية تحمل كلاَّ منا على الشعور بأنه يمتلك هذه المبادىء، حتى وإن كان ذلك بطريقة عامة وعفويَّة. هذه المفاهيم، بسبب كونها تراثاً مشتركاً بين الجميع، إلى حدٍّ ما، يجب أن تكوّن مراجع تعتمدها مختلف المدارس الفلسفية. عندما يتوصل العقل إلى أن يدرك ويصوغ المبادىء الأولى والشاملة وأن يستخلص منها، بطريقة سليمة، النتائج المتماسكة على صعيد المنطق والأخلاق، بإمكاننا عندئذٍ أن نتكلم عن عقل سويّ، على حدٍّ تعبير القدامى.
5. وأمَّا الكنيسة فلا تخلو من أن تقدّر جهود العقل للوصول إلى الأهداف التي تضفي على الوجود الشخصي مزيداً من الكرامة. فهي تتوسَّم في الفلسفة وسيلة لا بدَّ منها للتعمق في فهم الإيمان، وتبليغ حقيقة الإنجيل للذين لم تصل بعد إليهم.
تعقيباً على ما قام به أسلافي في هذا المجال، أودُّ أنا أيضاً أن أوجّه نظري إلى هذا النمط الخاص من النشاط الفكري. وما يحملني على هذا هو ما يبدو لنا غالباً، في هذا العصر خصوصاً، من محاولات التعتيم على التماس الحقيقة. لا شك أن الفلسفة المعاصرة لها الفضل الكبير في تركيز انتباهها على الإنسان. من هذا المنطلق، أخذ العقل المزدحم بالتساؤلات يعزّز رغبته في امتلاك معرفة أوسع وأعمق. هكذا نشأت مذاهب فكرية معقّدة أعطت ثمارها في مختلف مجالات العلم وساعدت في تطوير الثقافة والتاريخ.
علم الإنسان والمنطق وعلوم الطبيعة والتاريخ واللغة، بل عالم المعرفة كله، تناولته الفلسفة بطريقة ما. إلاّ أن النتائج الإيجابيّة المحصَّلة يجب ألاّ تلهينا عن أن هذا العقل ذاته المنهمك في التحرّي عن الذات الإنسانية بطريقة حصرية، يبدو في غفلة عن أن هذا الإنسان لا يزال مدعواً أيضاً إلى الشخوص إلى حقيقة تتخطاه. بمعزلٍ عن هذا المرجع يظلُ الإنسان عرضة للاعتباطية ويمسي خاضعاً لمقاييس برغماتية مرتكزة جوهرياً على المعطى الاختباري، وذلك من منطلق يقين زائف بأن التقنيَّة يجب أن تُهيمن على كل شيء. ونجم عن ذلك أن العقل المثقل بمثل هذا القدر من العلم، بدلاً من أن يعبّر قدر الإمكان عن نزوعه إلى الحقيقة. انكفأ على ذاته وأمسى يوماً أقلَّ من يوم أهلاً لأن يرفع بصره إلى فوق، ويتجرأ على الوصول إلى الحقيقة. الفلسفة المعاصرة، في غفلتها عن التماس حقيقة الكيان، كثَّفت بحثها في المعرفة البشرية. وبدلاً من أن ترتكز على قدرة الإنسان على معرفة الحقيقة آثرت التركيز على محدوديتها ومظروفياتها.
نتج عن ذلك غير شكلٍ من أشكال اللاّأدرية والنسبويّة أدت بالبحث الفلسفي إلى الضياع في الريبيَّة الشاملة ورمالها المتحركة. وقد أخذت تتفاقم، في المدة الأخيرة، بعض التعاليم النازعة إلى الحطّ من قيم الحقائق التي كان الإنسان قد تثبَّت من بلوغها. وهكذا تراجعت التعدّدية المشروعة في المواقف أمام التعدّدية اللامبالية المرتكزة على المبدأ القائل بأن كل المواقف سواء. وتلك دلالة من أكثر الدلائل انتشاراً على ما نلحظه، في القرائن الراهنة، من حذر تجاه الحقيقة. هناك نظريات في الحياة صادرة من الشرق لا تخلو، أيضاً من مثل هذا التحقظ. ففي نظرها يجب أن نخلع عن الحقيقة طابعها المطلق، وذلك انطلاقاً من الفرضيَّة القائلة بأن الحقيقة تتجلى بطريقة متساوية في معتقدات مختلفة بل متضاربة. من هذا المنظار، كل شيء يصبح مجرَّد رأي. ويسودنا الشعور بأننا بإزاء حركة متموّجة: فمن جهة نرى أن الفكر الفلسفي قد أفلح في سلوك الطريق التي تقرّبه أكثر فأكثر من الوجود البشري في مختلف تعابيره، ونرى، من جهة أخرى، أنه ينـزع إلى تنمية اعتبارات وجودية وتفسيرية ولغويّة تطمس السؤال الجوهري في شأن حقيقة الحياة الشخصية وحقيقة الكيان والله؛ وبالنتيجة أخذت تظهر عند الإنسان المعاصر، وليس عند بعض الفلاسفة وحسب، مواقف ارتياب على جانب من الانتشار حيال ما يملكه الكائن البشري من طاقات كبيرة تخوّله الوصول إلى المعرفة. وبدافع من التواضع المزيّف، بات عصرنا مكتفياً بالحقائق الجزئية والوقتية، متنصّلاً من السعي إلى طرح الأسئلة الجذرية حول معنى الحياة البشرية الشخصية والاجتماعية ومرتكزها الأخير. وخلاصة القول أن عصرنا قد فقد الرجاء في أن يتلقى من الفلسفة أجوبة حاسمة على هذه الأسئلة.
6. وأمَّا الكنيسة المدعومة بما تلقته من وحي يسوع المسيح، فهي تجد نفسها أهلاً لأن تؤكد، مرة أخرى، ضرورة البحث عن الحقيقة. وهذا ما حملني على التوجه إليكم، أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية الذين أشترك وإياهم في «إظهار الحق» (2 قو 4، 2)، كما أتوجه أيضاً إلى اللاهوتيين والفلاسفة الذين يقع عليهم واجب التحرّي عن مختلف وجوه الحقيقة. وأتوجه أخيراً إلى الذين هم في طور البحث، لأنقل إلى هؤلاء جميعاً بعض الأفكار في الطريق المؤدّية إلى الحكمة الحقيقية، حتى يتمكن كل الذين يحملون في قلوبهم محبّة الحكمة من أن يسلكوا الطريق الصحيحة التي توصلهم إليها ويجدوا فيها مكافأة أتعابهم مقرونة بالفرح الروحي.
إن ما يدفعني إلى اتخاذ هذه المبادرة هو أولاً تنبّهي لما يعبّر عنه المجمع الفاتيكاني، عندما يؤكد أن الأساقفة هم «شهود الحقيقة الإلهية والكاثوليكيّة»[3]. الشهادة للحقيقة هي إذن مسؤولية وُكلت إلينا تحن الأساقفة، ولا يسوغ لنا أن نستعفي منها بدون أن نخلِف بالخدمة التي أُسنِدَت إلينا. عندما نؤكّد حقيقة الإيمان، بإمكاننا أن نعيد إلى إنسان عصرنا ثقة حقيقية بطاقاته الإدراكية ونتحدَّى الفلسفة لتعود وتكتشف ثانية كرامتها الكاملة وتعزّزها.
هناك دافع آخر يحثني إلى تسطير هذه الأفكار. في رسالتي العامة «تألق الحقيقة» لفتُّ الانتباه إلى «بعض الحقائق الأساسية في التعليم الكاثوليكي المعرّضة للتشويه والرفض في القرائن الراهنة»[4]. إني أود، من خلال هذه الرسالة، أن أواصل هذا البحث وأركّز الانتباه على موضوع الحقيقة بالذات ومرتكزها بالنسبة إلى الإيمان. لا يمكننا، في الواقع، أن ننكر ما يجري في هذه الفترة من تحوّلات سريعة ومعقَّدة تعرّض الأجيال الناشئة، وبخاصّة التي في يدها المستقبل وبها يتعلَّق، لأن تشعر بفقدان المعالم الصحيحة على طريق الحقيقة. ضرورة الارتكاز على أساس يبنى عليه صرح الوجود الشخصي والاجتماعي أمست حاجة مُلِحَّة، خصوصاً عندما نجدنا مضطرين إلى لمس الطابع التصدّعي في طروحات ترفع الأشياء العابرة إلى مستوى القيم، توهماً أنه بالإمكان الوصول إلى الوجود في معناه الحقيقي. وينجم عن ذلك أن كثيراً من الناس يجرجرون حياتهم عند حافة الهوّة، لا يدرون إلى أين يتوجهون. وهذا منوط أيضاً بأن الذين كانوا مدعوِّين بدعوة خاصة إلى التعبير عن ثمرة تفكيرهم في أشكال ثقافية، قد أشاحوا بنظرهم عن الحقيقة وآثروا النجاح الفوري على عناء البحث الصبور في ما هو جدير بالحياة. الفلسفة التي تحمل المسؤولية الباهظة في تنشئة الفكر والثقافة، بالدعوة الدائمة إلى التماس الحقيقة، عليها أن تعود إلى اكتشاف رسالتها الأصيلة اكتشافاً ناشطاً. ولذا شعرتُ لا بضرورة الخوض في هذه المسألة وحسب بل بالواجب الملقى على عاتقي في معالجة هذا الموضوع، لكي تتمكن البشرية، وهي عند عتبة الألف الثالث من التاريخ المسيحي، من أن تعي بوضوح أكثر الطاقات العظيمة التي أُكرمت بها وتسير، بشجاعة متجدّدة، في سبيل تحقيق خطة الخلاص التي يتسجَّل فيها تاريخها(يتبع)
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 9:54 pm
الفصل الأول
الكشف عن حكمة الله
يسوع يعلن لنا الآب
7. في منطلق كل فكر تخوض فيه الكنيسة، نجد اليقين بأنها مؤتمنة على رسالة تنبع في ذات الله (را 2 قو 4، 1-2). المعرفة التي تقدمها الكنيسة للإنسان ليست عصارة تفكيرها، مهما سما، بل نتيجة تلقيّها كلمة الله في الإيمان (را 1 طيم 2، 13). كياننا نحن المؤمنين ينبع من لقاء فريد من نوعه، اطَّلعْنا به على سرّ مطوي منذ الدهور (را 1 قو 2، 7؛ روم 16، 25-26)، وانكشف لنا الآن: «لقد رضي الله في جودته وحكمته أن يكشف لنا ذاته ويطلعنا على سرّ مشيئته» (را أف 1، 9) الذي يوصل الناس إلى عند الآب بواسطة المسيح الكلمة المتجسّد، وفي الروح القدس، ويصيرون به شركاء في الطبيعة الإلهية»[5]. تلك بادرة مجَّانيَّة على الإطلاق، تصدر من عند الآب لتتدارك البشرية وتخلصها. إن الله، بوصفه ينبوع حبّ، يريد أن يعرِّفنا ذاته، وما يحصّله الإنسان من معرفة الله يساعده في استكمال كل معرفة أخرى تتعلق بمعنى وجوده، وبإمكان عقله أن يتوصَّل إليها.
8. الدستور العقائدي «كلمة الله» الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني، قد استعاد بطريقة شبه حرفية ما ورد في المجمع الفاتيكاني الأول في دستوره العقائدي «ابن الله»، كما استعان بالمبادىء التي حددها المجمع التريدنتيني ليواصل المسيرة العريقة في فهم الإيمان، وتأمَّل في الوحي في ضوء التعليم البيبلي ومجمل التقليد الآبائي. في المجمع الفاتيكاني الأول أكبَّ الآباء على التنويه بالطابع السماوي في الوحي الإلهي. النقد العقلاني الذي كان يطعن في الإيمان آنذاك، انطلاقاً من طروحات خاطئة وشديدة الانتشار، كان يهدف إلى نفي كل معرفة لا تُجتنى من طاقات العقل الطبيعية. هذا الواقع اضطَرَّ المجمع إلى أن يعود ويؤكد بقوة أن هناك معرفة هي من مزيّة الإيمان إلى جانب المعرفة النابعة من العقل البشري، القادر على الوصول إلى الله بطريقة طبيعية. هذه المعرفة الإيمانية تعبّر عن حقيقة ترتكز على وحي من الله، وهي حقيقة مؤكدة لأن الله لا يغلط ولا يريد أن يخدع[6].
9. المجمع الفاتيكاني الأول يعلمنا إذن أن الحقيقة التي نحصّلها عن طريق الفكر الفلسفي والحقيقة الصادرة عن الوحي لا تختلطان، وأن الواحدة لا تغني عن الأخرى: «هناك صنفان من المعرفة متميزان، لا من حيث المصدر وحسب، بـل من حيث الموضوع أيضاً. أمّا من حيث المصدر، فلأن المعرفة الأولى تتوسّل العقل الطبيعي، وأمّا الثانية فتعتمد الإيمان الإلهي للوصول إلى المعرفة. وأمّا من حيث الموضوع، فلأن هناك ما يتخطى الحقائق التي يستطيع العقل الطبيعي أن يحصّلها، وهو مجموع ما يقدّمه لنا الإيمان من أسرارٍ مطويَّة في الله نعجز عن معرفتها إذا لم يكشفها الله لنا»[7]. والواقع أن الإيمان المرتكز على شهادة الله والمدعوم بالنعمة العلوية هو من غير مستوى المعرفة الفلسفية؛ فهذه تعتمد الإدراك الحسي والاختبار وتنمو في ضوء العقل فقط. الفلسفة والعلوم تتقدّم على صعيد العقل، بينما الإيمان الذي يستنير ويهتدي بالروح فهو يجد في بشرى الخلاص «ملء النعمة والحق» (را يو 1، 14) الذي أراد الله أن يكشفه لنا في التاريخ وبطريقة حاسمة بابنه يسوع المسيح (را 1 يو 5، 9؛ يو 5، 31-32).
10. آباء المجمع الفاتيكاني الثاني ثبتوا نظرهم على يسوع الذي كشف لنا [سرّ الله]، فنوّهوا بما يتميّز به الكشف عن الله في التاريخ من طابع خلاصي، وعبَّروا عن فحوى هذا الكشف بالعبارات التالية: «في عملية المكاشفة هذه يخاطب الله غير المنظور (قول 1، 15؛ 1 طيم 17) جماعة البشر، مـن فيض حنانه، كما يخاطب الأحباء (خر 33، 11 يو 15، 14-15). إنه يتحدث إليهم، وهو في علاقة معهم (را با 3، 83)، ليطلب منهم أن يشاركوه في حياته ويقبلهم في هذه الشركة. وقد شاء أن تتم هذه المكاشفة بواسطة أعمال أجراها، وأقوال ساقها، وكلاهما وثيق الارتباط: فالأعمال التي عملها في تاريخ الخلاص أوضحت تعاليمه، ووطَّدت مدلول كلامه، كما أن الأقوال التي قالها أشادت بأعماله، وأظهرت ما فيها من تدابير تفوق الإدراك. بواسطة هذه المكاشفة، بدأت الحقيقة العميقة في شأن الله كما في شأن خلاص الإنسان تتجلى لنا بسناء في المسيح الذي هو وسيط كل الوحي وكما له في آن واحد»[8].
11. الوحي الإلهي يندرج إذن في الزمان وفي التاريخ. وحتى تجسّدُ يسوع المسيح صار «في ملء الزمان» (غل 4، 4). ألفي سنة من بعد هذا الحدث، أشعر بحاجة العودة إلى التأكيد بقوة «أن الزمن في المسيحيّة له أهمية أساسية»[9]. ففـي الزمن يظهر كل عمل الخلق والخلاص، ويتجلى لنا خصوصاً أننا، بواسطة تجسّد ابن الله، نعيش ونستبق، منذ الآن، ما سوف يكون كمال الزمان (را عب 1، 2).
الحقيقة التي وكلها الله إلى الإنسان في شأن ذاته وفي شأن حياته تندرج إذن في الزمان وفي التاريخ. ومن الثـابت أن هذه الحقيقة نُطق بها مرة واحدة في سرّ يسوع الناصري. وهذا ما ورد بوضوح في الدستور العقائدي «كلمة الله»: «إن الله، بعد أن تكلّم بلسان الأنبياء مراراً عديدة، وبأساليب مختلفة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة بالابن» (عب 1، 1-2). فلقد أرسل الله ابنه، الكلمة الأزلي، الذي ينير كل البشر، ليسكن بين الناس، ويطلعهم على أعماق الله (يو 1، 1-18)، فجاء يسوع المسيح كلمةً متجسداً وبشراً رسولاً إلى البشر، «ينطـق بكلمات الله» (يو 3، 34)، ويُجري عمل الخلاص الذي أعطاه اللهُ أن يتمّمه. «ولأن من رآه فقد رأى الآب» (يو 14-9) جاء يسوع ليعيش بين البشر ويظهر لهم ذاته، بأقواله وأعماله ثم بآياته وعجائبه، وخاصة بموته وقيامته المجيدة من بين الأموات وأخيراً بإرساله روح الحق، ويُنجِز هكذا الوحي ويتمّمه»[10].
التاريخ في نظر شعب الله هو بمثابة طريق لا بدَّ من أن نسير فيه حتى النهاية، بحيث تصبح الحقيقة الموحاة قادرة على التعبير عن محتواها تعبيراً كاملاً بفضل ما يقوم به الروح من عمل دائم (را يو 16، 13). وهذا ما نجده أيضاً في الدستور العقائدي «كلمة الله»، عندما يؤكد: «تسعى الكنيسة، بلا انقطاع، وعلى مرّ العصور، إلى أن تبلغ الحقيقة الإلهية كاملة، إلى أن يحين لها الوقت، فتتحقق فيها أقوال الله»[11].
12. يصبح التاريخ إذن الموقع الذي نتحقق فيه عمل الله لخير البشرية. إن الله يلاقينا في ما هو مألوف لدينا ولا يصعب علينا التحقق منه، لأن التاريخ هو إطار حياتنا اليومية وبدونه لا يمكن أن يتم التفاهم بيننا.
إن تجسّد ابن الله يتيح لنا أن نشهد الحصيلة النهائية التي لم يكن العقل البشري، من منطلق ذاته، يتصوّرها ولو بالخيال: وهو أن الأبديّ اقتحم الزمن، والكلَّ احتجب وراء الجزء، والله اتخذ وجه إنسان. الحقيقة التي عبَّر عنها وحي المسيح لم تعد محصورة في حيّز جغرافي وثقافي محدود، بل هي مفتوحة على كل إنسان، رجلاً كان أم امرأة، يريد أن يقبلها كلمةً قادرة بقدرة حاسمة على أن تعطي معنىً للوجود. والواقع أن الجميع يجدون في المسيح طريقاً إلى الآب: وذلك بأن المسيح، بموته وقيامته، وهب الحياة الأبدية التي كان آدم قد رفضها (را روم 5، 12-15). بواسطة هذا الكشف يتلقى الإنسان الحقيقة القصوى في شأن حياته وفي شأن مصير التاريخ: «ممّا لا شك فيه أن مصير الإنسان لا يستضيء حقاً إلاّ في ضوء سرّ الكلمة المتجسد، على حدّ ما يؤكده الدستور العقائدي «فرح ورجاء»[12]. بمنأىً عن هذه الرؤية، يبقى سـرَّ الوجود الشخصي لغزاً مطبقاً.
أين يستطيع الإنسان أن يلقى جواباً على الأسئلة الخطيرة كالعذاب وعذاب البريء والموت إلاّ في الضوء المنبعث من سرّ آلام المسيح وموته وقيامته؟
العقل في مواجهة السرّ
13. على كلٍّ، يجب ألاَّ يغرب عن فكرنا أن الوحي يظلّ مطبوعاً بطابع السرّ. لا شك أن يسوع، من خلال حياته كلها، قد كشف لنا عن وجه الآب، ما دام قد جاء إلى الأرض ليعرّفنا بأعماق الله[13]. ومع ذلك فمعرفتنا لهذا الوجه لا تزال مطبوعة بطابع الجزئية والمحدودية. الإيمان وحده يتيح لنا ولوج السرّ ويساعدنا في إدراكه إدراكاً منطقياً.
يصرّح المجمع بقوله: «بإزاء الله الذي يوحي، يقوم واجب الإنسان بطاعة الإيمان»[14]. هذه العبارة المقتضبة والمكثّفة تعبّر عن حقيقة أساسية من حقائق المسيحيّة. فنحن نقول أولاً بأن الإيمان إنما هو جواب طاعة لله. ويفترض هذا أن نُقِرَّ بألوهيته وسموّه وحريته المطلقة. إن الله الذي يعرّف عن ذاته في سلطة سموّه المطلق يؤتينا أيضاً من الأسباب ما يجعلنا نؤمن بوحيه. بالإيمان يذعن الإنسان لهذه الشهادة الإلهية؛ ويعني هذا أنه يُقرّ إقراراً كاملاً وكلياً بحقيقة ما يوحى به إلينـا لأن الله نفسه هو كفيل ما يقوله. هذه الحقيقة التي أُكرم بها الإنسان والتي لا يسوغ للإنسان أن يطالب بها تدخل في نطاق المكاشفة المتبادلة، وتحمل العقل على أن يتقبلّها ويدرك معناها الصميم. ولذا فما يقوم به الإنسان من تقدمة ذاته لله، تعتبره الكنيسة لحظة خيار أساسيّة يلتزم بها الإنسان كلَّه. ويتعاون العقل والإرادة إلى أقصى ما تطيقه طبيعتهما الروحية، ليتيحا للإنسان أن يأتي بعمل يُمارس فيه الحرّية الشخصية ممارسة كاملة[15]. في الإيمان، ليست الحريّة أمراً راهناً وحسب، بل هي مقتضىً من مقتضياته. لا بل إن الإيمان هو الذي يتيح لكل مناً أن يعبّر عن حريته بأكمل وجه. وبتعبير آخر لا يمكن أن تتحقق الحرية في الخيارات المعادية لله. فكيف نحسب رفض الانفتاح على ما يتيح لنا تحقيق الذات وجهاً صحيحاً من وجوه استعمال الحرية؟ وذلك بأن الحرية، ههنا، تلتقي يقين الحقيقة، وتقرّر العيش معها.
الدلالات الماثلة في الوحي تساعد هي أيضاً العقل في سعيه إلى فهم السرّ، وتفيد في تحقيق البحث عن الحقيقة بوجه أعمق وتخوّل العقل أن يتغلغل في أعماق السرّ بطريقة مستقلّة. وعلى كلٍ، إذا كانت هذه الدلالات، من جهة، تقوّيل العقل ليتمكّن بوسائله الخاصة من التماس الحقيقة داخل السرّ بوسائله الخاصة التي يحرص عليها، فهي تدعوه، من جهة أخرى، إلى التسامي فوق صفتها الدلالية ليتلقّى ما تحمله من معانٍ قصية. فهي تحمل إذن حقيقة مطوية يعود إليها العقل ولا يسوغ له أن يجهلها بدون أن يهدم الدلالة المقدَّمة له.
إن لنا هنا عودة، نوعاً ما، إلى الوحي من زاويته الأسرارية، وبخاصة إلى العلامة الإفخارستية التي نجد فيها من الترابط الوثيق بين الحقيقة ومدلولها ما يساعدنا في فهم السرّ في عمقه. في الإفخارستيا، المسيح حاضر حضوراً حقيقياً وحياً ويعمل بواسطة روحه؛ «ولكنك - على حدّ قول القديس توما (الأكويني) - ، لا تفهمه ولا تراه. ولكن الإيمان الحيّ هو الذي يؤكّد ذلك، متعالياً فوف الطبيعة. تحت الشكل المزدوج، وهو ذاته علامة شيء آخر، تنبض الحقيقة المقدَّسة»[16]. ويصدي الفيلسوف باسكال لهذه الفكرة بقوله: «كما ظل يسوع المسيح مغموراً بين الناس، تظل حقيقته مغمورة بين الأفكار الشائعة، لا تختلف عنها في الظاهر. كذلك الإفخارستيا بين الخبز الشائع»[17].
خلاصة القول أن المعرفة الإيمانية لا تلغي السرّ، بل تجلوه وتعلنه بمثابة أمر جوهري في حياة الإنسان: إن الربّ يسوع «في كشفه عن سرّ الآب ومحبته، يبيّن للإنسان حقيقة الإنسان في وضوحٍ كامل، ويكشف له عن سرّ دعوته»[18]، وهي المشاركة في سرّ الله وحياته الثالوثية[19].
14. تعليم مجمعي الفاتيكان يفتح لنا أيضاً رؤية حقيقية لمستجدات العلم الفلسفي. فالوحي يُدخل في التاريخ معْلماً لا يسوغ للإنسان أن يجهله، إذا أراد الوصول إلى اكتناه سرّ وجوده. ولكن هذه المعرفة، من جهة أخرى، تعيد الإنسان دوماً إلى سرّ الله الذي لا يستطيع العقل أن يسبر عمقه بل عليه أن يقبله ويتقبله في الإيمان. ضمن هذين المعطيين، يتمتع العقل بحيّز خاص يخوّله القدرة على البحث والفهم، لا يحدُّه في ذلك إلاَّ محدوديته بإزاء سرّ الله اللامحدود.
يُدخل الوحي إذن في تاريخنا حقيقة شاملة وقصوى تحمل الذهن البشري على ألاَّ يتوقف أبداً، لا بل تحفزه على ان يوسّع بلا انقطاع نطاق علمه، ما دام لم يقتنع بأنه أنجز كل ما في وسعه، من غير أن يهمل شيئاً. في هذا المجال الفكري نجد في القديس انسلمُس عوناً وهو أحد أخصب المفكّرين وأبرزهم في تاريخ البشرية، ومرجع لا بدًّ منه للفلسفة كما للاَّهوت. وقد أورد رئيس أساقفة كانتور بري في كتابه «التمهيد» ما يلي: «لما كنت مراراً وباندفاع أوجّه فكري إلى هذا الأمر، فما كنت أبحث عنه، كنت أتصور أحياناً أنه أصبح ضمن مداركي، وأحياناً أخرى كان يفلِت من نظر عقلي؛ وإذ تولاّني اليأس أخيراً هممت بالتوقف، وقد بدا لي أني ألاحق طريدة يستحيل إدراكها. ولكن فيما كنت مصمّماً كل التصميم على ان أتخلى عن هذه الفكرة لئلاَّ تشغل ذهني وتحبسني عن مشاغل أخرى بإمكاني أن أتقدم فيها، إذا بها تعود وتراودني أكثر فأكثر حتى الإزعاج، بالرغم من رفضي ودفاعي […] ولكن ويحي أنا الشقي من بين أشقياء آخرين من بني حوّاء البعيدين عن الله، ماذا صنعت وماذا أنجزت؟ إلى أين كنت أطمح وإلى أين وصلت؟ إلام كنت أتشوّق وعلام كنت أتنهًّد؟ […] وبالتالي، ربّ، لستَ فقط بحيث لا يمكن أن نتصوّر شيئاً أعظم منك وحسب، بل أنت أعظم مما يمكن أن نعقله […] فإذا لست هذا بعينه فبالإمكان أن نفعل شيئاً أعظم منك، وهذا مُحال»[20].
15. حقيقة الوحي المسيحي الذي نجدها في يسوع الناصري تتيح لكل إنسان أن يتقبّل «سرّ» حياته. ومع كونها حقيقة قصوى، فهي تحترم استقلالية المخلوق وحريته وتناشده الانفتاح على ما هو فوق المخلوق. هنا تصبح العلاقة بين الحرية والحقيقة أمراً مطلقاً، ويصبح بإمكاننا أن نفهم كلام الربّ: «تعرفون الحق والحق يُحرِّركم» (يو 8/32).
في ضوء هذه الاعتبارات، نصل إلى النتيجة الأولى الملزمة: الحقيقة التي ينقلها إلينا الوحي ليست هي الثمرة الناضجة أو القمة التي يفضي إليها فكر يفرزه العقل، بل تبدو لنا، بالعكس، حقيقة مجَّانيّة تُفعِّل الفكر ولا يمكن إلاَّ أن نتقبلها بمثابة تعبير من تعابير حبّ الله. هذه الحقيقة الموحاة هي استباق في التاريخ للرؤية الأخيرة والحاسمة، رؤية الله المحفوظة للمؤمنين به والباحثين عنه بقلب مخلص. الغاية القصوى للوجود الشخصي إنما هي موضوع بحث للفلسفة كما للاهوت، وكلتاهما، وإن بطرق ومحتويات مختلفة، يتفحصان «طريق الحياة»، هذه (مز 16 [15]/11) التي تفضي بنا أخيراً، على حدّ ما يؤكده لنا الإيمان، إلى مشاهدة الله الواحد والمثلث الأقانيم في ملء الفرح وديمومته.
الكشف عن حكمة الله
يسوع يعلن لنا الآب
7. في منطلق كل فكر تخوض فيه الكنيسة، نجد اليقين بأنها مؤتمنة على رسالة تنبع في ذات الله (را 2 قو 4، 1-2). المعرفة التي تقدمها الكنيسة للإنسان ليست عصارة تفكيرها، مهما سما، بل نتيجة تلقيّها كلمة الله في الإيمان (را 1 طيم 2، 13). كياننا نحن المؤمنين ينبع من لقاء فريد من نوعه، اطَّلعْنا به على سرّ مطوي منذ الدهور (را 1 قو 2، 7؛ روم 16، 25-26)، وانكشف لنا الآن: «لقد رضي الله في جودته وحكمته أن يكشف لنا ذاته ويطلعنا على سرّ مشيئته» (را أف 1، 9) الذي يوصل الناس إلى عند الآب بواسطة المسيح الكلمة المتجسّد، وفي الروح القدس، ويصيرون به شركاء في الطبيعة الإلهية»[5]. تلك بادرة مجَّانيَّة على الإطلاق، تصدر من عند الآب لتتدارك البشرية وتخلصها. إن الله، بوصفه ينبوع حبّ، يريد أن يعرِّفنا ذاته، وما يحصّله الإنسان من معرفة الله يساعده في استكمال كل معرفة أخرى تتعلق بمعنى وجوده، وبإمكان عقله أن يتوصَّل إليها.
8. الدستور العقائدي «كلمة الله» الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني، قد استعاد بطريقة شبه حرفية ما ورد في المجمع الفاتيكاني الأول في دستوره العقائدي «ابن الله»، كما استعان بالمبادىء التي حددها المجمع التريدنتيني ليواصل المسيرة العريقة في فهم الإيمان، وتأمَّل في الوحي في ضوء التعليم البيبلي ومجمل التقليد الآبائي. في المجمع الفاتيكاني الأول أكبَّ الآباء على التنويه بالطابع السماوي في الوحي الإلهي. النقد العقلاني الذي كان يطعن في الإيمان آنذاك، انطلاقاً من طروحات خاطئة وشديدة الانتشار، كان يهدف إلى نفي كل معرفة لا تُجتنى من طاقات العقل الطبيعية. هذا الواقع اضطَرَّ المجمع إلى أن يعود ويؤكد بقوة أن هناك معرفة هي من مزيّة الإيمان إلى جانب المعرفة النابعة من العقل البشري، القادر على الوصول إلى الله بطريقة طبيعية. هذه المعرفة الإيمانية تعبّر عن حقيقة ترتكز على وحي من الله، وهي حقيقة مؤكدة لأن الله لا يغلط ولا يريد أن يخدع[6].
9. المجمع الفاتيكاني الأول يعلمنا إذن أن الحقيقة التي نحصّلها عن طريق الفكر الفلسفي والحقيقة الصادرة عن الوحي لا تختلطان، وأن الواحدة لا تغني عن الأخرى: «هناك صنفان من المعرفة متميزان، لا من حيث المصدر وحسب، بـل من حيث الموضوع أيضاً. أمّا من حيث المصدر، فلأن المعرفة الأولى تتوسّل العقل الطبيعي، وأمّا الثانية فتعتمد الإيمان الإلهي للوصول إلى المعرفة. وأمّا من حيث الموضوع، فلأن هناك ما يتخطى الحقائق التي يستطيع العقل الطبيعي أن يحصّلها، وهو مجموع ما يقدّمه لنا الإيمان من أسرارٍ مطويَّة في الله نعجز عن معرفتها إذا لم يكشفها الله لنا»[7]. والواقع أن الإيمان المرتكز على شهادة الله والمدعوم بالنعمة العلوية هو من غير مستوى المعرفة الفلسفية؛ فهذه تعتمد الإدراك الحسي والاختبار وتنمو في ضوء العقل فقط. الفلسفة والعلوم تتقدّم على صعيد العقل، بينما الإيمان الذي يستنير ويهتدي بالروح فهو يجد في بشرى الخلاص «ملء النعمة والحق» (را يو 1، 14) الذي أراد الله أن يكشفه لنا في التاريخ وبطريقة حاسمة بابنه يسوع المسيح (را 1 يو 5، 9؛ يو 5، 31-32).
10. آباء المجمع الفاتيكاني الثاني ثبتوا نظرهم على يسوع الذي كشف لنا [سرّ الله]، فنوّهوا بما يتميّز به الكشف عن الله في التاريخ من طابع خلاصي، وعبَّروا عن فحوى هذا الكشف بالعبارات التالية: «في عملية المكاشفة هذه يخاطب الله غير المنظور (قول 1، 15؛ 1 طيم 17) جماعة البشر، مـن فيض حنانه، كما يخاطب الأحباء (خر 33، 11 يو 15، 14-15). إنه يتحدث إليهم، وهو في علاقة معهم (را با 3، 83)، ليطلب منهم أن يشاركوه في حياته ويقبلهم في هذه الشركة. وقد شاء أن تتم هذه المكاشفة بواسطة أعمال أجراها، وأقوال ساقها، وكلاهما وثيق الارتباط: فالأعمال التي عملها في تاريخ الخلاص أوضحت تعاليمه، ووطَّدت مدلول كلامه، كما أن الأقوال التي قالها أشادت بأعماله، وأظهرت ما فيها من تدابير تفوق الإدراك. بواسطة هذه المكاشفة، بدأت الحقيقة العميقة في شأن الله كما في شأن خلاص الإنسان تتجلى لنا بسناء في المسيح الذي هو وسيط كل الوحي وكما له في آن واحد»[8].
11. الوحي الإلهي يندرج إذن في الزمان وفي التاريخ. وحتى تجسّدُ يسوع المسيح صار «في ملء الزمان» (غل 4، 4). ألفي سنة من بعد هذا الحدث، أشعر بحاجة العودة إلى التأكيد بقوة «أن الزمن في المسيحيّة له أهمية أساسية»[9]. ففـي الزمن يظهر كل عمل الخلق والخلاص، ويتجلى لنا خصوصاً أننا، بواسطة تجسّد ابن الله، نعيش ونستبق، منذ الآن، ما سوف يكون كمال الزمان (را عب 1، 2).
الحقيقة التي وكلها الله إلى الإنسان في شأن ذاته وفي شأن حياته تندرج إذن في الزمان وفي التاريخ. ومن الثـابت أن هذه الحقيقة نُطق بها مرة واحدة في سرّ يسوع الناصري. وهذا ما ورد بوضوح في الدستور العقائدي «كلمة الله»: «إن الله، بعد أن تكلّم بلسان الأنبياء مراراً عديدة، وبأساليب مختلفة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة بالابن» (عب 1، 1-2). فلقد أرسل الله ابنه، الكلمة الأزلي، الذي ينير كل البشر، ليسكن بين الناس، ويطلعهم على أعماق الله (يو 1، 1-18)، فجاء يسوع المسيح كلمةً متجسداً وبشراً رسولاً إلى البشر، «ينطـق بكلمات الله» (يو 3، 34)، ويُجري عمل الخلاص الذي أعطاه اللهُ أن يتمّمه. «ولأن من رآه فقد رأى الآب» (يو 14-9) جاء يسوع ليعيش بين البشر ويظهر لهم ذاته، بأقواله وأعماله ثم بآياته وعجائبه، وخاصة بموته وقيامته المجيدة من بين الأموات وأخيراً بإرساله روح الحق، ويُنجِز هكذا الوحي ويتمّمه»[10].
التاريخ في نظر شعب الله هو بمثابة طريق لا بدَّ من أن نسير فيه حتى النهاية، بحيث تصبح الحقيقة الموحاة قادرة على التعبير عن محتواها تعبيراً كاملاً بفضل ما يقوم به الروح من عمل دائم (را يو 16، 13). وهذا ما نجده أيضاً في الدستور العقائدي «كلمة الله»، عندما يؤكد: «تسعى الكنيسة، بلا انقطاع، وعلى مرّ العصور، إلى أن تبلغ الحقيقة الإلهية كاملة، إلى أن يحين لها الوقت، فتتحقق فيها أقوال الله»[11].
12. يصبح التاريخ إذن الموقع الذي نتحقق فيه عمل الله لخير البشرية. إن الله يلاقينا في ما هو مألوف لدينا ولا يصعب علينا التحقق منه، لأن التاريخ هو إطار حياتنا اليومية وبدونه لا يمكن أن يتم التفاهم بيننا.
إن تجسّد ابن الله يتيح لنا أن نشهد الحصيلة النهائية التي لم يكن العقل البشري، من منطلق ذاته، يتصوّرها ولو بالخيال: وهو أن الأبديّ اقتحم الزمن، والكلَّ احتجب وراء الجزء، والله اتخذ وجه إنسان. الحقيقة التي عبَّر عنها وحي المسيح لم تعد محصورة في حيّز جغرافي وثقافي محدود، بل هي مفتوحة على كل إنسان، رجلاً كان أم امرأة، يريد أن يقبلها كلمةً قادرة بقدرة حاسمة على أن تعطي معنىً للوجود. والواقع أن الجميع يجدون في المسيح طريقاً إلى الآب: وذلك بأن المسيح، بموته وقيامته، وهب الحياة الأبدية التي كان آدم قد رفضها (را روم 5، 12-15). بواسطة هذا الكشف يتلقى الإنسان الحقيقة القصوى في شأن حياته وفي شأن مصير التاريخ: «ممّا لا شك فيه أن مصير الإنسان لا يستضيء حقاً إلاّ في ضوء سرّ الكلمة المتجسد، على حدّ ما يؤكده الدستور العقائدي «فرح ورجاء»[12]. بمنأىً عن هذه الرؤية، يبقى سـرَّ الوجود الشخصي لغزاً مطبقاً.
أين يستطيع الإنسان أن يلقى جواباً على الأسئلة الخطيرة كالعذاب وعذاب البريء والموت إلاّ في الضوء المنبعث من سرّ آلام المسيح وموته وقيامته؟
العقل في مواجهة السرّ
13. على كلٍّ، يجب ألاَّ يغرب عن فكرنا أن الوحي يظلّ مطبوعاً بطابع السرّ. لا شك أن يسوع، من خلال حياته كلها، قد كشف لنا عن وجه الآب، ما دام قد جاء إلى الأرض ليعرّفنا بأعماق الله[13]. ومع ذلك فمعرفتنا لهذا الوجه لا تزال مطبوعة بطابع الجزئية والمحدودية. الإيمان وحده يتيح لنا ولوج السرّ ويساعدنا في إدراكه إدراكاً منطقياً.
يصرّح المجمع بقوله: «بإزاء الله الذي يوحي، يقوم واجب الإنسان بطاعة الإيمان»[14]. هذه العبارة المقتضبة والمكثّفة تعبّر عن حقيقة أساسية من حقائق المسيحيّة. فنحن نقول أولاً بأن الإيمان إنما هو جواب طاعة لله. ويفترض هذا أن نُقِرَّ بألوهيته وسموّه وحريته المطلقة. إن الله الذي يعرّف عن ذاته في سلطة سموّه المطلق يؤتينا أيضاً من الأسباب ما يجعلنا نؤمن بوحيه. بالإيمان يذعن الإنسان لهذه الشهادة الإلهية؛ ويعني هذا أنه يُقرّ إقراراً كاملاً وكلياً بحقيقة ما يوحى به إلينـا لأن الله نفسه هو كفيل ما يقوله. هذه الحقيقة التي أُكرم بها الإنسان والتي لا يسوغ للإنسان أن يطالب بها تدخل في نطاق المكاشفة المتبادلة، وتحمل العقل على أن يتقبلّها ويدرك معناها الصميم. ولذا فما يقوم به الإنسان من تقدمة ذاته لله، تعتبره الكنيسة لحظة خيار أساسيّة يلتزم بها الإنسان كلَّه. ويتعاون العقل والإرادة إلى أقصى ما تطيقه طبيعتهما الروحية، ليتيحا للإنسان أن يأتي بعمل يُمارس فيه الحرّية الشخصية ممارسة كاملة[15]. في الإيمان، ليست الحريّة أمراً راهناً وحسب، بل هي مقتضىً من مقتضياته. لا بل إن الإيمان هو الذي يتيح لكل مناً أن يعبّر عن حريته بأكمل وجه. وبتعبير آخر لا يمكن أن تتحقق الحرية في الخيارات المعادية لله. فكيف نحسب رفض الانفتاح على ما يتيح لنا تحقيق الذات وجهاً صحيحاً من وجوه استعمال الحرية؟ وذلك بأن الحرية، ههنا، تلتقي يقين الحقيقة، وتقرّر العيش معها.
الدلالات الماثلة في الوحي تساعد هي أيضاً العقل في سعيه إلى فهم السرّ، وتفيد في تحقيق البحث عن الحقيقة بوجه أعمق وتخوّل العقل أن يتغلغل في أعماق السرّ بطريقة مستقلّة. وعلى كلٍ، إذا كانت هذه الدلالات، من جهة، تقوّيل العقل ليتمكّن بوسائله الخاصة من التماس الحقيقة داخل السرّ بوسائله الخاصة التي يحرص عليها، فهي تدعوه، من جهة أخرى، إلى التسامي فوق صفتها الدلالية ليتلقّى ما تحمله من معانٍ قصية. فهي تحمل إذن حقيقة مطوية يعود إليها العقل ولا يسوغ له أن يجهلها بدون أن يهدم الدلالة المقدَّمة له.
إن لنا هنا عودة، نوعاً ما، إلى الوحي من زاويته الأسرارية، وبخاصة إلى العلامة الإفخارستية التي نجد فيها من الترابط الوثيق بين الحقيقة ومدلولها ما يساعدنا في فهم السرّ في عمقه. في الإفخارستيا، المسيح حاضر حضوراً حقيقياً وحياً ويعمل بواسطة روحه؛ «ولكنك - على حدّ قول القديس توما (الأكويني) - ، لا تفهمه ولا تراه. ولكن الإيمان الحيّ هو الذي يؤكّد ذلك، متعالياً فوف الطبيعة. تحت الشكل المزدوج، وهو ذاته علامة شيء آخر، تنبض الحقيقة المقدَّسة»[16]. ويصدي الفيلسوف باسكال لهذه الفكرة بقوله: «كما ظل يسوع المسيح مغموراً بين الناس، تظل حقيقته مغمورة بين الأفكار الشائعة، لا تختلف عنها في الظاهر. كذلك الإفخارستيا بين الخبز الشائع»[17].
خلاصة القول أن المعرفة الإيمانية لا تلغي السرّ، بل تجلوه وتعلنه بمثابة أمر جوهري في حياة الإنسان: إن الربّ يسوع «في كشفه عن سرّ الآب ومحبته، يبيّن للإنسان حقيقة الإنسان في وضوحٍ كامل، ويكشف له عن سرّ دعوته»[18]، وهي المشاركة في سرّ الله وحياته الثالوثية[19].
14. تعليم مجمعي الفاتيكان يفتح لنا أيضاً رؤية حقيقية لمستجدات العلم الفلسفي. فالوحي يُدخل في التاريخ معْلماً لا يسوغ للإنسان أن يجهله، إذا أراد الوصول إلى اكتناه سرّ وجوده. ولكن هذه المعرفة، من جهة أخرى، تعيد الإنسان دوماً إلى سرّ الله الذي لا يستطيع العقل أن يسبر عمقه بل عليه أن يقبله ويتقبله في الإيمان. ضمن هذين المعطيين، يتمتع العقل بحيّز خاص يخوّله القدرة على البحث والفهم، لا يحدُّه في ذلك إلاَّ محدوديته بإزاء سرّ الله اللامحدود.
يُدخل الوحي إذن في تاريخنا حقيقة شاملة وقصوى تحمل الذهن البشري على ألاَّ يتوقف أبداً، لا بل تحفزه على ان يوسّع بلا انقطاع نطاق علمه، ما دام لم يقتنع بأنه أنجز كل ما في وسعه، من غير أن يهمل شيئاً. في هذا المجال الفكري نجد في القديس انسلمُس عوناً وهو أحد أخصب المفكّرين وأبرزهم في تاريخ البشرية، ومرجع لا بدًّ منه للفلسفة كما للاَّهوت. وقد أورد رئيس أساقفة كانتور بري في كتابه «التمهيد» ما يلي: «لما كنت مراراً وباندفاع أوجّه فكري إلى هذا الأمر، فما كنت أبحث عنه، كنت أتصور أحياناً أنه أصبح ضمن مداركي، وأحياناً أخرى كان يفلِت من نظر عقلي؛ وإذ تولاّني اليأس أخيراً هممت بالتوقف، وقد بدا لي أني ألاحق طريدة يستحيل إدراكها. ولكن فيما كنت مصمّماً كل التصميم على ان أتخلى عن هذه الفكرة لئلاَّ تشغل ذهني وتحبسني عن مشاغل أخرى بإمكاني أن أتقدم فيها، إذا بها تعود وتراودني أكثر فأكثر حتى الإزعاج، بالرغم من رفضي ودفاعي […] ولكن ويحي أنا الشقي من بين أشقياء آخرين من بني حوّاء البعيدين عن الله، ماذا صنعت وماذا أنجزت؟ إلى أين كنت أطمح وإلى أين وصلت؟ إلام كنت أتشوّق وعلام كنت أتنهًّد؟ […] وبالتالي، ربّ، لستَ فقط بحيث لا يمكن أن نتصوّر شيئاً أعظم منك وحسب، بل أنت أعظم مما يمكن أن نعقله […] فإذا لست هذا بعينه فبالإمكان أن نفعل شيئاً أعظم منك، وهذا مُحال»[20].
15. حقيقة الوحي المسيحي الذي نجدها في يسوع الناصري تتيح لكل إنسان أن يتقبّل «سرّ» حياته. ومع كونها حقيقة قصوى، فهي تحترم استقلالية المخلوق وحريته وتناشده الانفتاح على ما هو فوق المخلوق. هنا تصبح العلاقة بين الحرية والحقيقة أمراً مطلقاً، ويصبح بإمكاننا أن نفهم كلام الربّ: «تعرفون الحق والحق يُحرِّركم» (يو 8/32).
الوحي المسيحي هو النجم الذي به يهتدي الإنسان الساعي وسط قرائن الذهنية المثولية ومآزق المنطق التكنوقراطي. إنها الفرصة القصوى التي يضعها الله في تصرفنا لنستعيد كامل الخطة الأصلية، خطة الحبّ التي بدأها الله منذ الخلق. الإنسان الذي يتوق إلى معرفة الحق، إذا كان لا يزال قادراً على أن ينظر إلى ما هو ابعد من ذاته، ويرفع بصره إلى ما هو أسمى من مخططاته، مثل هذا الإنسان يحظى بما يمكّنه من العثور على علاقة صحيحة مع ذاته، باتباعه طريق الحق. كلمات سفر تثنية الاشتراع تنطبق تماماً على هذا الوضع: «إن هذه الوصية التي أنا آمرك بها اليوم ليست فوق طاقتك ولا بعيدة منك. لا هي في السماء فتقول: من يصعد لنا إلى السماء فيتناولها ويُسمعنا إياها فنعمل بها؟ ولا هي في عبر هذا البحر فتقول: من يقطع لنا هذا البحر فيتناولها ويُسمعنا إياها فنعمل بها؟ بل الكلمة قريبة منك جداً في فمك وفي قلبك لتعمل بها» (تث 30/11-14). هذا النص توازيه فكرة القديس الفيلسوف واللاهوتي أوغسطينوس: «لا تخرج خارجاً، بل عُد إلى ذاتك، ففي الإنسان الباطن تكمن الحقيقة»[21].
في ضوء هذه الاعتبارات، نصل إلى النتيجة الأولى الملزمة: الحقيقة التي ينقلها إلينا الوحي ليست هي الثمرة الناضجة أو القمة التي يفضي إليها فكر يفرزه العقل، بل تبدو لنا، بالعكس، حقيقة مجَّانيّة تُفعِّل الفكر ولا يمكن إلاَّ أن نتقبلها بمثابة تعبير من تعابير حبّ الله. هذه الحقيقة الموحاة هي استباق في التاريخ للرؤية الأخيرة والحاسمة، رؤية الله المحفوظة للمؤمنين به والباحثين عنه بقلب مخلص. الغاية القصوى للوجود الشخصي إنما هي موضوع بحث للفلسفة كما للاهوت، وكلتاهما، وإن بطرق ومحتويات مختلفة، يتفحصان «طريق الحياة»، هذه (مز 16 [15]/11) التي تفضي بنا أخيراً، على حدّ ما يؤكده لنا الإيمان، إلى مشاهدة الله الواحد والمثلث الأقانيم في ملء الفرح وديمومته.
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 9:56 pm
الفصل الثاني
أومن لأفهم
» الحكمة تَعلَم وتَفهمُ كلَّ شيء« (الحكمة 9، 11)
16. العلاقة العميقة بين المعرفة بالإيمان والمعرفة بالعقل يعبّر عنها الكتاب المقدّس بكلمات غايةٍ في الوضوح. هذه المعضلة تعالجها الكتب الحكميَّة خصوصاً. واللافت في قراءة هذه الصفحات من الكتاب المقدّس، بلا تحيّز، هو أن هذه النصوص تتضمن لا إيمان إسرائيل وحسب، بل كنـز الحضارات والثقافات البائدة. فمن خلال هذه الصفحات الغنية بالبداهة العميقة، ولغاية محدّدة، تعود مصر وبلاد ما بين النهرين تردّد صوتها على أسماعنا، وتعيد الحياة إلى بعض الملامح المشتركة ما بين ثقافات الشرق القديم.
وليس من باب الصدفة أن يعمد أصحاب الكتب المقدّسة إلى وصف الرجل الحكيم بأنه يهوى الحقيقة ويلتمسها: «طوبى للرجل الذي يتأمل في الحكمة ويتحدّث بها في عقله، ويفكّر في طرقها بقلبه ويتبصّر في أسرارها، وينطلق في إثرها كالباحث ويترقب عند مداخلها ويتطلع من كواتها ويتسمّع عند أبوابها، ويحلُّ بقرب بيتها ويضرب وتداً في حائطها وينصب خيمته بجانبها وينزل بمنزل الخيرات؛ يجعل بنيه في كنفها ويسكن تحت أغصانها، يستتر بظلها من الحر وفي مجدها يجد راحة» (ابن سيراخ 14، 20-27).
نلحظ إذن أن التوق إلى المعرفة، في نظر الكاتب المقدّس، هو مزيّة مشتركة ما بين جميع الناس. القدرة على «انتشال الماء العميق» أي ماء المعرفة، بواسطة العقل، إنما هي عطية يمّن بها الله على الجميع، المؤمنين وغير المؤمنين. معرفة العالم وظاهراته، في شعب إسرائيل القديم، لم تكن لتتم بطريقة تجريدية كما لدى الفيلسوف الاغريقي أو الحكيم المصري. ولم يكن الاسرائيلي العادي ليدرك المعرفة انطلاقاً من مقاييس الزمن المعاصر الذي ينـزع إلى تقسيم المعرفة. ومع ذلك فقد سعى العالم البيبلي إلى توجيه رفده الأصيل وجرّه إلى بحر نظرية المعرفة.
ما هو هذا الرفد؟ إن ما يتميّز به النصّ البيبلي هو الاعتقاد بأن هناك وحدة عميقة ومتماسكة بين المعرفة بالعقل والمعرفة بالإيمان. العالم وما يجري فيه، وكذلك التاريخ وتقلبات الشعوب هي من الحقائق التي ينظر فيها العقل ويحلّلها ويحكم فيها بوسائله الخاصة، ولكن بدون أن يظل الإيمان بمنأىً عن هذا السياق. فالإيمان لا يتدخل ليقلّل من استقلالية العقل أو لينتقص من رقعة عمله، ولكن ليُفهِم الإنسان أن إله إسرائيل يتجلّى ويعمل من خلال هذه الأحداث. ومن ثم، فالوقوف على أحوال العالم وأحداث التاريخ وقوفاً راسخاً لا يتم إلاّ إذا رافق هذه المعرفة الطبيعية اعلان إيماننا بالله الذي يعمل فيها. الإيمان يرهف النظر الباطن ويتيح للعقل أن يكتشف، في سياق هذه الأحداث، ملامح العناية الإلهية وحضورها الفاعل. إننا نجد، في سفر الأمثال، كلاماً معبّراً في هذا الشأن: «قلب الإنسان يفكّر في طريقه والرب يهدي خطواته» (16، 9)؛ ونرى، بتعبير آخر، أن الإنسان بإمكانه أن يهتدي طريقه في ضوء العقل، ولكنه يقدر أن يجتازه سريعاً وبلا عائق حتى النهاية إذا خلصت نيته ووضع بحثه في منظور الإيمان. العقل والإيمان لا يمكن إذن الفصل بينهما بدون أن يفقد الإنسان قدرته على أن يعرف ذاته، ويعرف الله والعالم معرفة وافية.
17. من المستحيل إذن أن يقوم صراع أو منافسة بين العقل والإيمان: فالواحد يندمج في الآخر ولكلٍّ منهما حيّزه الخاص. وهنا أيضاً، نقرأ في سفر الأمثال ما يوجّهنا في هذا الاتجاه: «مجد الله كتْم الكلمة ومجد الملوك فحص الكلمة» (25، 2). الله والإنسان، كلٌّ في عالمه الخاص، مرتبطان بعلاقة فريدة. الله مصدر الأشياء كلها وفيه يكتمل السرّ، وهذا هو مجده. وأما الإنسان فعليه أن يبحث عن الحقيقة بعقله، وهذا شرفه. إلى هذه الفسيفساء ينضاف عنصر آخر نجده في صلاةٍ لصاحب المزامير: «اللهّم ما أصعب أفكارك، ما أكثر أبوابها، أعُدُّها فتزيد على الرمال. هل انتهيت؟ إني لم أبرح معك» (139 [138]، 17-18). التوق إلى المعرفة هو من القوّة والدينامية بحيث إن قلب الإنسان، بالرغم من محدوديته المانعة، يحنُّ إلى ما في الآخرة من ثروة لا محدودة، مدرِكاً بالحدس أنها تتضمن الجواب المقنع على الأسئلة المستعصية.
18. يسوغ لنا القول إذن إِن اسرائيل استطاع أن يفتح للعقل طريقاً إلى السرّ: لقد سبر في الوحي الإلهي سبراً عميقاً كل ما كان يسعى إلى إدراكه بالعقل، دون جدوى. من منطلق هذا الشكل الأعمق من المعرفة، أدرك الشعب المختار أنّ على العقل أن يراعي بعض القواعد الأساسيّة ليتمكن من التعبير عن طبيعته بأفضل وجه. القاعدة الأولى هي اعتبار المعرفة البشرية طريقاً لا هدنة فيه، والثانية تنبع من اليقين بأن الانسان لا يستطيع أن يسلك مثل هذا الطريق وهو يتبجَّح كمن يظنّ أن كل شيء هو ثمرة تحصيل شخصي. وأما القاعدة الثالثة فترتكز على «مخافة الله» الذي يجب على العقل أن يعترف بسيادته المطلقة وبمحبته البصيرة في تدبير العالم.
كل مرة يبتعد الإنسان عن هذه القواعد يتعرَّض للفشل ويمسي في النهاية في حكم «السفيه». في الكتاب المقدَّس، تشكّل هذه السفاهة خطراً يهدّد الحياة. فالسفيه يتوهَّم الوقوف على شوؤن كثيرة، بيد أنه، في الواقع، عاجزٌ عن أن يثبّت نظره في الجوهري من شؤون الحياة، وفي هذا ما يحول دون قدرته على تنظيم ما في عقله (را سفر الأمثال 1/7)، واتخاذ الموقف المناسب تجاه ذاته وتجاه محيطه. وعندما يُقدم على القول: «ليس من إله!» (را مز 14 ٍ[13]، 1) يبرهن بكل وضوح ان معرفته قاصرة وكم هي بعيدة عن كمال الحقيقة في شأن الأشياء ومصدرها ومآلها.
19. سفر الحكمة يتضمن نصوصاً هامة تلقي على هذه القضية ضوءاً آخر. فالكتاب المقدَّس يتحدَّث فيه عن الله الذي يعرّف عن ذاته من خلال الطبيعة أيضاً. في نظر القدامى كان درس العلوم الطبيعية يوازي، في معظمه، العلم الفلسفي. فمن بعد أن يؤكد النص المقدّس أن الإنسان قادر بعقله أن يعرف نظام العالم وقوة العناصر…ومداور السنين ومراكز النجوم وطبائع الحيوان وأخلاق الوحوش» (سفر الحكمة 7، 17؛ 19-20)، وأنه، بوجيز التعبير، أهل لأن يتفلسف، يخطو خطوة متقدّمة على جانبٍ كبير من الأهميّة. يؤكد الكاتب المقدس، بعد وقوفه على فكر الفلسفة الإغريقية، التي يبدو أنـه يستشهد بها في هذه القرائن، أن الإنسان إذا أعمل فكره في الطبيعة، بإمكانه أن يرتقي منها إلى الخالق: «إنه بعظم جمال المبروءات يُبصر فاطرها على طريق المقايسة» (سفر الحكمة 13، 5). نجد إذن ههنا اعترافاً بأن المرحلة الأولى في الوحي الإلهي هو «كتاب الطبيعة» في روعة جمالها. فإذا قرأنا هذا الكتاب بوسائل العقل البشري أمكننا الوصول إلى معرفة الخالق. فإذا لم يتوصَّل الإنسان، بواسطة عقله، إلى معرفة الله بارىء كل شيء، فما ذلك بسبب انتفاء الوسيلة المناسبة، بل بسبب العوائق الناجمة عن حريّة إرادة الإنسان وعن خطيئته.
20. من هذا الملحظ يتضح أن العقل مقدّر حق قدره، لا فوق قدره. فكل ما يصل إليه العقل يمكن أن يكون صحيحاً، ولكنه لا يكتسب ملء معناه إلاّ إذا وُضع محتواه في رؤية أوسع، هي رؤية الإيمان: «إنما خطوات الرجل من الربّ أمّا الإنسان فكيف يفهم طريقه؟» (سفر الأمثال 20، 24). في نظر العهد القديم الإيمان يحرّر إذن العقل، متيحاً له البلوغ، بطريقة منطقية، إلى موضوع معرفته ويضعه في إطار النظام الأسمى حيث يكتسب كل شيء معناه. وخلاصة القول أن الإنسان يبلغ الحقيقة بالعقل لأنه إذا استضاء بنور الإيمان يكتشف في كل شيء معناه الأعمق، وخصوصاً معنى وجوده. الكاتب المقدّس يضع إذن، بكل حق، المعرفة الحقيقية في مخافة الله: «مخافة الرب رأس العلم» (سفر الأمثال 1، 7؛ را ابن سيراخ 1، 14).
»إكتسب الحكمة، إكتسب الفطنة« (سفر الأمثال 4، 5)
21. المعرفة، في نظر العهد القديم، لا ترتكز فقط على التيقظ في ملاحظة الإنسان والعالم والتاريخ. فهي تفترض، لا محالة، علاقة بالإيمان وبمحتوى الوحي. ونجد هنا التحديات التي اضطر الشعب المختار إلى مواجهتها وكيف تصدّى لها. إن الإنسان البيبلي، بعد التفكير في وضعه، اكتشف أنه لا يستطيع أن يفهم ذاته إلا بصفته «كائناً ذا علاقة: بذاته وبالشعب وبالعالم وبالله. هذا الانفتاح على السرّ الذي جاءه من الوحي أصبح في النهاية مصدر معرفة حقيقية مكّنت عقله من الولوج في مجالات لا نهاية لها وأتاحت له قدرة استيعابٍ لم يكن ليحلم بها.
في نظر الكاتب المقدَّس، الجهد في البحث والتنقيب لم يكن ليخلو من عناء ناجم عن مواجهة محدودية العقل. وهذا ما نلحظه، مثلاً، في الأقوال التي يعبّر فيها سفر الأمثال عن العناء الذي يتكبده الإنسان في سعيه إلى تفهم مقاصد الله الخفية (را 30، 1-6). ولكن المؤمن، على ما يتكبده من عناء، لا يستسلم لليأس. إن ما يحتاجه من قوة ليستمرّ في طريقه الى الحقيقة يأتيه من يقينه بأن الله خلقه «باحثاً» (سفر الجامعة 1، 13) مهمته ألاّ يزهد في أي بحث، بالرغم مما يساوره دائماً من تساويل الشك. فإذا اتكل على الله ظلَّ شاخصاً، دائماً وفي كل مكان، إلى ما هو جميل وجيّد وحق.
22. ان القديس بولس، في الفصل الأول من رسالته إلى الرومانيين، يساعدنا في أن نقدّر، بوجه أفضل، إلى أي مدىً تتميّز الكتب الحكميّة بأفكارها النافذة. ويعمد الرسول إلى التوسع في محاجّة فلسفية بلغة شعبية، معبّراً عن حقيقة عميقة: من خلال المخلوق، تستطيع «بصيرة العقل» التوصل إلى معرفة الله. فالله، بواسطة خلائقه، يُظهر للعقل «قدرته، وألوهيته». (را روم 1، 20) هذا إذن إقرار بأن للعقل البشري قدرة قد تتخطىّ حدوده الطبيعية: فالعقل لا ينحصر في المعرفة الحسيّة، وذلك لكونه قادراً على أن يتفحصها بطريقة نقدية، بل يستطيع أيضاً، بمعالجة المعطيات الحسيّة، أن يتوصل إلى معرفة السبب الذي تصدر منه الأشياء الحسيّة كلها. باللغة الفلسفية يسوغ لنا القول إِن هذا النص البولسي الهامّ يؤكد ما ينعم به الإنسان من قدرة ميتافيزيقية.
يرى الرسول أن الله قد وضع في جذور الخلق قدرة العقل على أن يتخطى المعطيات الحسيّة بلا عناء، ليدرك مصدر كل شيء، أعني به الخالق. ولكن على أثر تمرّد الإنسان على الله ورغبته في أن يجعل نفسه في حالة استقلال كامل ومطلق عمن خلقه، زالت قدرته على أن يرتقي بلا عناء إلى الله الخالق.
سفر التكوين يصف بطريقة بليغة جداً وضع الإنسان هذا، عندما يقص لنا كيف وضع الله الإنسان في جنة عدن، وفي وسطها «شجرة معرفة الخير والشر» (2،17). الرمز واضح: لم يكن بوسع الإنسان أن يميّز ويقرّر بذاته ما هو الخير وما هو الشر، بل كان عليه أن يرجع إلى مبدأ أعلى. عمى الكبرياء ألصق بجدّينا الأوَّلَين الوهم بأنهّما سيِّدان ومستقلان، وأنهما قادران على الاستغناء عن المعرفة الصادرة من عند الله؛ وهكذا جراًّ كل رجلٍ وكل امرأة إلى عصيانهما الأوّل وألحقا بالعقل جروحاً كان لا بدّ أن تعرقله في طريقه إلى تمام الحقيقة. ومنذئذٍ أظلمت قدرة الإنسان على معرفة الحقيقة، بسبب نفوره ممن هو نبع الحقيقة ومصدرها. الرسول هو الذي يكشف لنا أيضاً إلى أي مدىً أمست باطلةً أفكارُ الناس بسبب الخطيئة، واستدلالاتهم مبلبلةً ومزيفة (را روم 1، 21-22). بصيرة العقل أمست عاجزة عن أن ترى الحقيقة بوضوح، وأمسى العقل، رويداً رويداً، سجين ذاته. وجاء المسيح فكان مجيئه هو الحدث الخلاصي الذي افتدى العقل من ضعفه وحرّره من القيود التي بات سجينها.
23. وبالتالي أصبحت علاقة المسيحي بالفلسفة بحاجة إلى تمييز جذري. في العهد الجديد، وبخاصة في رسائل القديس بولس، يبرز بأجلى وضوح التعارضُ بين «حكمة هذا العالم» وحكمة الله المتجليّة في يسوع المسيح. عمق الحكمة الصادرة من الوحي يكسر طوق أنماطنا الفكريّة المعهودة، العارية كل العراء من كل أُهبةٍ للتعبير عنها بطريقة مناسبة.
الرسالة الأولى إلى الكورنثيين تطرح هذه القضية في مستهلّها، طرحاً جذرياً. ابن الله المصلوب هو الحدث التاريخي الذي تتحطم عنده كل محاولة فكريّة تهدف إلى الاكتفاء ببراهين بشريّة لبناء ما يبرّر معنى الوجود تبريراً كافياً. النقطة المركزية الحقيقية التي تتحدّى كل فلسفة هي موت يسوع المسيح على الصليب. هنا كل محاولة لتقليص خطة الآب الخلاصية إلى مجرّد منطق بشري مآلها الفشل. ويتساءل الرسول بشيء من التفخيم: «أين الحكيم؟ أين المثقَّف؟ أين محجاج هذا الدهر؟ أوَلم يجهّل الله حكمة هذا العالم؟» (1 قور 1، 20). إن حكمة الرجل الحكيم وحدها أمست قاصرة بإزاء ما يريد الله أن يحققه، ولا بدّ لها من تحوّل حاسم يمكّنها من قبول رؤية مستجدة جذرياً: «اختار الله ما هو جاهل في العالم ليخزي الحكماء، [000] واختار الله ما هو خسيس في العالم وحقير وغير الموجود، ليعدم الموجود» (1 قور 1، 27-28). الحكمة البشريّة تأبى أن تتوسم في ضعفها شرط قوتها. وأمّا القديس بولس فلا يتردّد في القول: «متى ضعفت فحينئذٍ أنا قوي» (2 قور 12، 10). يفهم الإنسان كيف يمكن أن يكون الموت ينبوع حياة وحب؛ ولكن الله اختار ما يحسبه العقل «جهالة» و«عثرة» ليكشف لنا سرّ تدبيره الخلاصي. وينتحل بولس لغة معاصريه من الفلاسفة، فيبلغ ذروة تعليمه وذروة المقولة التناقضية التي يريد التعبير عنها: لقد اختار الله غير الموجود ليُعدم الموجود! (را 1 قور 1،28) ولم يحجم الرسول عن استعمال اللغة الجذرية التي كان يعتمدها الفلاسفة في أحاديثهم عن الله، ليعبّر عن مجَّانية الحب المتجلّي لنا في صليب المسيح. لا يقوى العقل على تفريغ سرّ الحب الماثل في الصليب، بينما الصليب يستطيع أن يعطي العقل ما يتلمّسه من جواب أخير. إن ما يَعُدّه بولس مقياساً للحقيقة وللخلاص معاً ليس هو حكمة الكلام بل كلام الحكمة.
حكمة الصليب تتخطى إذن كل الحدود الثقافيّة التي يريد الناس أن يخضعوها لها، وتضطرنا إلى الانفتاح على شموليّة المعرفة التي تحملها. فأيّ تحدٍّ للعقل هذا التحدي! وأي فائدة يستخرجها العقل من هذا التحدي إذا قبله! إن الفلسفة التي تستطيع، من تلقاء ذاتها، أن تُقرَّ للإنسان قدرته المستمرّة على تخطي ذاته، بإمكانها أن تنفتح، بمعونة الإيمان وتقبل، في «جهالة» الصليب، النقد السليم الموجّه إلى كل الذين يتوهمون امتلاك المعرفة وهم في الواقع يضيّقون على خناقها في مأزق نظامهم. العلاقة بين الإيمان والفلسفة تجد في المناداة بالمسيح المصلوب والناهض من الموت الصخرة التي يمكن أن ترتطم بها فتغرق، كما يمكن أن تتخطاها لترتمي في محيط الحقيقة الذي لا حدود له. هنا يظهر بجلاء الحدّ الفاصل بين العقل والإيمان، ولكننا نرى أيضاً أين يمكنهما التلاقي.
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 9:57 pm
الفصل الثالث
أفهم لأومن
التقدم في البحث عن الحقيقة
24. يورد الإنجيلي لوقا في كتاب أعمال الرسل أن بولس وصل يوماً إلى أثينا في غضون أسفاره الرسولية. وكانت مدينة الفلاسفة ملأى بتماثيل عدد من مختلف الأصنام. واسترعى انتباهه أحد الهياكل فانتهز الفرصة حالاً ليحدّد منطلقاً مشتركاً لكرازته: «يا أهل أثينا، أراكم مغالين في التديّن من كل وجه. فإني وأنا سائر أنظر إلى أنصابكم وجدت هيكلاً كتب عليه: إلى الإله المجهول. فما تعبدونه وأنتم تجهلونه، فذاك ما أنا مبشركم به» (رسل 17، 22-23). من هذا المنطلق أخذ بولس يحدثهم عن الله الخالق والمتعالي فوق كل شيء وواهب الحياة لكل خلق . وواصل حديثه قائلاً: «لقد صنع جميع الأمم البشرية من أصل واحد ليسكنوا على وجه الأرض كلها، وجعل لسكناهم أزمنة موقوتة وأمكنة محدودة، ليبحثوا عن الله لعلهم يتحسَّسونه ويهتدون إليه، مع أنه غير بعيد عن كل منا» (رسل 17، 26-27).
ونوّه الرسول بحقيقةٍ ما برحت الكنيسة تستفيد منها، وهي أن الله قد زرع في عمق قلب الإنسان التوق والحنين إلى الله. في ليترجيا الجمعة المقدّسة تذكرنا الكنيسة أيضاً بذلك وتشدّد عليه وتدعو المؤمنين إلى الصلاة لأجل الذين لا يؤمنون، بقولها: «أيها الإله الأزلي القدير، لقد خلقت البشر ليبحثوا عنك بكل قلبهم، ويستريح قلبهم عندما يجدونك!»[22] هناك إذن طريق يستطيع الإنسان أن يسلكه إذا أراد: وينطلق هذا الطريق من قدرة العقل على الارتقاء فوق الزائل والوثوب نحو اللامتناهي.
لقد برهن الإنسان بطرق متعددة وفي أزمنة مختلفة أنه يستطيع أن يعبّر عن هذا الشوق. فالأدب والموسيقى والرسم والنقش والهندسة وسائر منتوجات عقله الخلاق أصبحت شبه أقنية للتعبير عن طموحات بحثة. وقد اعتنقت الفلسفة خصوصاً هذا التوجه وعبّرت بوسائلها وطبقاً لأنماطها العلمية عن هذا الشوق الذي يشمل كل الناس.
25. «كل الناس يحنّون إلى المعرفة»[23]، وموضوع هذا الحنين هو المعرفة. الحياة اليومية نفسها تبيّن لنا أن كل إنسان يهمّه أن يكتشف ماهية الأشياء، بعيداً عمّا يتناقله الناس. ولا غرو، فالإنسان هو الكائن الوحيد في كل الخليقة المنظورة الذي لا يتميّز فقط بالقدرة على العلم، بل يعلم أيضاً كيف يعلم؛ ومن ثم فهو يهتم بحقيقة ما يبدو له. لا يستطيع أحدٌ ألاّ يبالي بحقيقة ما يعلم إذا كان مخلصاً مع ذاته. فإذا اكتشف زيفه رذله. وأمّا إذا استطاع أن يتحقق صوابه، غمره الرضى. وهذا هو الدرس الذي نتلقَّنه من القديس اوغسطينوس في قوله: «لقد التقيت أناساً كثيرين يبتغون الغش ولكني لم التقِ أحداً يرضى بأن يُغَشّ»[24]. نعتبر بحق أن الإنسان يبلغ سنّ الرشد عندما يصبح بإمكانه أن يميّز بوسائله الخاصة بين الحق والباطل، ويحكّم عقله في حقيقة الأشياء. هذا موضوع بحوث كثيرة ـ وبخاصة في مضمار العلوم ـ أدّت في غضون القرون الأخيرة إلى نتائج مميّزة ساعدت البشرية كلها في إِحراز تقدّم حقيقي.
إن ما تحقق من بحوث في المجال العملي يضاهي في الأهميّة ما تحقق على الصعيد النظري، أعني البحث عن الحقيقة في مجال الخير. الإنسان الذي يتبع إرادته الحرّة والقويمة، في تصرفه الخلقي، ينتهج طريق السعادة ويصبو إلى الكمال. في هذه الحال أيضاً، القضية قضية حقيقة! هذا اليقين، عبّرتُ عنه في رسالتي الجامعة «تألق الحقيقة»: «ليس ثمة من حياة خلقية بدون حريّة [000] إذا كان للإنسان حق في أن يُحتَرَمَ في مسيرته الباحثة عن الحقيقة، فهناك أيضاً وقبلاً واجبٌ ادبيّ ثقيل يلزم الجميع بالبحث عن الحقيقة، فإذا وجدوها عليهم أن يعتنقوها»[25].
لا بدّ إذن من أن تكون القيم التي نختَارها وننتهجها في الحياة قيماً حقيقية، وذلك بأن القيم الحقيقية وحدها تقدر أن تسوق الإنسان إلى الكمال وطبيعتَه إلى التمام. حقيقة القيم هذه يجدها الإنسان لا بالتقوقع على ذاته بل بالانفتاح على هذه الحقيقة وقبولها أيضاً في الأبعاد التي تتخطاه. هذا شرط ملزم ليصبح كل منّا ذاته وينمو شخصاً بالغاً وناضجاً.
26. الحقيقة يتمثلها الإنسان، في البدء، في صيغة تساؤلية: هل للحياة معنى؟ وما غايتها؟ قد يبدو الوجود الشخصي، لأول وهلة، وجوداً لا معنى له على الإطلاق. ولسنا بحاجة إلى الاستعانة بفلاسفة المحال ولا بالأسئلة الاستفزازية التي نقع عليها في سفر أيوب للشك في معنى الحياة. خبرة الألم اليومية، عندنا وعند الآخرين، ورؤية الكثير الكثير من الأحداث التي يستعصي على العقل فهمها، تكفيان لجعل مثل هذا السؤال عن معنى الحياة أمراً لا مفرّ منه[26]. ولا بدّ من أن نضيف إلى ذلك أن أول حقيقة مبرمة، إلى جانب حقيقة وجودنا، هي أننا سوف نموت لا محالة. في مواجهة هذه الحقيقة المقلقة، يصبح البحث عن جواب شافٍ أمراً ملزماً. كلٌّ منا يريد بل عليه أن يعرف الحقيقة في شأن آخرته. يريد أن يعرف هل الموت هو خاتمة وجوده أم هناك شيء يتخطَّى الموت؛ وهل يُتاح له أن يرجو حياة أخرى أم لا. من اللافت أن موت سقراط قد وجه الفكر الفلسفي في اتجاه حاسم، وخلّف فيه أثراً لا يزال قائماً منذ أكثر من ألفي سنة. ليس إذن من باب الصدف أن يكون الفلاسفة، في مواجهة واقع الموت، قد كررّوا طرح هذه المعضلة على أنفسهم بلا انقطاع، ومعها معضلة معنى الحياة والخلود.
27. لا يستطيع أحد أن يُفلِت من هذه الأسئلة، لا الفيلسوف ولا الإنسان العادي. بالجواب على هذه الأسئلة تتعلق مرحلة حاسمة من مراحل البحث: هل بالإمكان الوصول إلى حقيقة شاملة ومطلقة؟ مبدئياً كل حقيقة، وإن جزئية، إذا كانت بالفعل حقيقة، هي عندنا حقيقة شاملة. ما هو حق يجب أن يكون حقاً في كل مكان وكل زمان. إلاّ أن الإنسان يطلب، بالإضافة الى هذه الشموليّة، مطلقيّة قادرة على أن تؤدّي جواباً ومعنى لمطلبه، وتكون شبه مرجعية أخيرة ومرتكز لكل شيء. إن ما يطلبه الإنسان إنما هو–بتعبير آخر–تعليل نهائي وقيمة قصوى ليس من بعدها ولا يمكن أن يكون من بعدها أسئلة أو مراجع أخرى. الفرضيات تستطيع أن تغرينا ولكنها لا تستطيع أن تُروي عطشنا. ويأتي يوم لا بدّ لنا فيه جميعاً، شئنا أم أبينا، من أن نُرسِي وجودنا على حقيقة نعتبرها مرتكزاً نهائياً، وتتيح لنا يقيناً لا يرقى إليه الشك من بعد.
لقد سعى الفلاسفة، على مرّ الأجيال، إلى الكشف والتعبير عن حقيقة من هذا المستوى، فعمدوا إلى إنشاء مذهب أو مدرسة فكريّة. بيد أن هناك، بالإضافة إلى المذاهب الفلسفية، تعابير أخرى يسعى الإنسان من خلالها إلى أن يضفي صيغة على «فلسفته» الخاصة. هذه الفلسفة الخاصة إنما هي مجموعة من القناعات والخبرات الشخصيّة والتراثات العيلية والثقافية والمسيرات الوجوديّة يتكىء فيها الفرد على سلطة معلم. وإن ما يبقى نابضاً في هذه الظاهرات إنما هو التوق إلى بلوغ يقين الحقيقة وقيمتها المطلقة.
حقيقة الإنسان ووجوهها المختلفة
28. لا بدّ من الإقرار بأن مطلب الحقيقة لا يبدو لنا دوماً بمثل هذه الشفافيّة وهذا التماسك.فمحدوديّة العقل وتقلب القلب كثيراً ما يغشيان مسيرة البحث الشخصي وينحرفان به. هنالك أيضاً مصالح أخرى مختلفة المصادر قد تساهم في طمس الحقيقة. وقد يكون هناك من يتهرّب من الحقيقة تهرّباً مطلقاً، ما إِن تلوح له، وذلك تخوّفاً من إلزاماتها. ومع ذلك فالحقيقة هي التي تؤثر دوماً في وجوده حتى وإن تهرّب منها. فالإنسان لا يمكنه ولا بوجه من الوجوه أن يبني حياته على الشك والريب أو على الزيف. مثل هذا الوجود يبقى دائماً مهدّداً بالخوف والقلق. وخلاصة القول اننا نستطيع أن نعرّف الإنسان بأنه الباحث عن الحقيقة.
29. لا يمكننا أن نتصور أن مثل هذه النـزعة المتجذرة عميقاً في طبيعة الإنسان يمكن أن تكون عقيمة وباطلة من كل جوانبها. قدرة البحث عن الحقيقة وطرح الأسئلة هما، بحدّ ذاتهما، جواب أول. وذلك بأن الإنسان لا يمكنه أن يبحث عن حقيقة يجهلها تماماً أو يحسبها متعذرة الإدراك. أمل الوصول إلى جواب يستطيع وحده أن يدفعه إلى أن يخطو الخطوة الأولى. وهذا في الواقع ما يجري في البحث العلمي. عندما يُقبل عالِم، على أثر حدسٍ، على البحث في ظاهرة معيّنة يفسّرها تفسيراً منطقياً يمكن التثبُّت منه، فإنما هو على يقين، منذ البداية، بأنه سوف يلقى جواباً، ولا تهبط عزيمته أمام ما يعترضه من إخفاق. إنه لا يحسب حدسه الأول فكرة لا جدوى منها لمجرّد أنه أخطأ الهدف، بل يعتقد بحق أنه لم يجد بعد الجواب الشافي.
هذا المنطق يجب أن يصحَّ أيضاً في مجال البحث عن الحقيقة في المسائل المصيريّة. العطش إلى الحقيقة هو من التجذّر في قلب الإنسان بحيث لا يمكن صرف النظر عنه إلاّ ويصبح الوجود في أزمة. يكفي أن نراقب الحياة اليوميّة لنتثبّت من أن كلاّ منا يحمل في ذاته وسواس بعض الأسئلة الجوهريّة، كما أنه يحفظ في ذهنه أقلّه تلاويح الأجوبة. هذه الأجوبة نجدنا مقتنعين من صحتها لأنها لا تختلف في الجوهر عن الأجوبة التي توصَّل إليها كثيرون آخرون. لا شك أن الحقائق المكتسبة لا تتساوى كلها في القيمة. بيد أن قدرة الإنسان على الوصول مبدئياً إلى الحقيقة يؤكدها مجموع النتائج المحصَّلة.
30. قد يكون من المفيد الآن أن نستعرض بسرعة مختلف أشكال الحقيقة. أكثر هذه الحقائق هو الذي يرتكز على بديهيات مباشرة أو يثبت بالاختيار؛ ويدخل في هذا النطاق حقيقة الحياة اليومية والبحث العلمي. في مرتبة أخرى نجد الحقائق الفلسفية التي يدركها الإنسان بما يميّز عقله من قدرة فكرية. ثمة أخيراً الحقائق الدينية التي تتجذر هي أيضاً، إلى حدٍ ما، في الفلسفة؛ وهي متضمنة في الأجوبة التي تقترحها الأديان المختلفة على الأسئلة المصيريّة جرياً على تقاليدها[27].
وأمّا الحقائق الفلسفية فلا بد من أن نوضح أنها لا تنحصر في التعاليم الواهية أحياناً التي ينادي بها الفلاسفة المحترفون. كل إنسان هو–كما قلت–فيلسوف ويملك نظرياته الفلسفية التي توجّه حياته؛ فهو، بطريقة أو بأخرى، يكوّن لذاته رؤية شاملة وجواباً على معنى وجوده، فيترجم حياته الشخصيّة، وينظِّم تصرفه في ضؤ قناعته. ههنا يجب أن يُطرح السؤال عن العلاقة بين الحقيقة الفلسفية–الدينيّة، والحقيقة الموحاة بيسوع المسيح. وقبل أن نجيب على هذه المعضلة، يحسن بنا أن نحسب حساباً لمعطىً لا حقٍ من معطيات الفلسفة.
31. لم يُكَوَّن الإنسان ليعيش وحده. فهو يولد ويترعرع في أسرة استعداداً للدخول لاحقاً بعمله في المجتمع. منذ مولده يلفي نفسه إذن مندمجاً في تقاليد مختلفة يستمدّ منها لا لغته وتنشئته الثقافية وحسب بل أيضاً «مجموعة من الحقائق التي يعتنقها اعتناقاً غريزياً نوعاً ما. وفي كل حال، لا بدّ للإنسان، عند نموّه ونضجه الشخصي، من أن يضع هذه الحقائق نفسها موضع الشك ويخضعها لنشاط فكره الناقد. ولكن هذا لا يمنع الإنسان، بعد هذه المرحلة العابرة، من أن «يعود ويجد» هذه الحقائق، ارتكازاً على اختباره لها أو اعـتماداً على استنتاجات فكره. ومع ذلك، فالحقائق التي يعتنقها الإنسان اعتناقاً بديهياً تبقى في حياته اكثر من التي يكتسبها بتمحيصه الشخصي. من يقدر، مثلاً، أن يُخضع للنقد دفق النتائج العلميّة التي ترتكز عليها الحياة العصريّة؟ من يستطيع أن يراقب، لحسابه الخاص، ذاك السيل المتدفق من المعلومات التي تصل إلينا، يوماً بعد يوم، من كل أنحاء العالم والتي نعدّها صحيحة على وجه الإجمال؟ ومن يستطيع أخيراً أن يعود وينتهج الدروب الاختبارية والفكريّة التي اختُزِنَتْ بفضلها كنوزُ الحكمة والتديّن لدى البشريّة؟ الإنسان الباحث عن الحقيقة هو إذن من يحيا بالإيمان.
32. كل منّا، في فعل إيمانه، يثق بالمعارف التي اكتسبها غيره من الناس. بالإمكان أن نلحظ هنا توتُّراً لافتاً: فمن جهة تبدو المعرفة عن طريق الإيمان شكلاً ناقصاً من أشكال المعرفة، يجب أن يتكامل رويداً رويداً بما نكتسبه شخصياً من معطيات البداهة. ومن جهة أخرى يتجلّى الإيمان بشرياً أثـرى من البداهة لأنه يفترض علاقة بالآخرين ويفعّل لا الطاقات المعرفية الشخصية وحسب بل الأهبة الجذرية للوثوق بأشخاص آخرين والدخول وإياهم في علاقة أشدّ متانة وأكثر وداً.
من المفيد التنويه بأن الحقائق المطلوبة في هذه العلاقة المتبادلة ليست أولاً علاقة عملانية أو فلسفيـة. ما هو مطلوب إنما هو حقيقة الشخص في حدّ ذاتها: ما هي وماذا تعكس من مقوّمات كيانه الصحيح. كمال الإنسان لا يقوم، في الواقع، على ما نكسبه من معرفة مجرّدة للحقيقة وحسب، بل يقوم أيضاً على علاقة حيّة، علاقة بذل ووفاء تجاه الآخر. في هذا الوفاء المعطاء يحظى الإنسان بملء اليقين وملء الأمان. بيد أن المعرفة عن طريق الإيمان التي ترتكز على الثقة المتبادلة لا تخلو من مرجعيّة إلى الحقيقة: فالإنسان المؤمن يتكل على الحقيقة التي يتجلّى فيها الآخر.
كم من مَثَلٍ يمكن أن نسوقه تدليلاً على هذه المعطيات. إلاّ أني أتوجه بالفكر تواً إلى شهادة الشهداء. فالشهيد هو، في الواقع، الشاهد الأوثق لحقيقة الوجود. فهو يعلم أنه وجد، في لقائه يسوع المسيح، حقيقة حياته؛ وليس من شيء ولا من كائن بإمكانه أن ينتزع منه هذا اليقين: لا العذاب ولا الموت العنيف بوسعهما أن يردّاه عن التصاقه بالحقيقة التي وجدها في لقائه المسيح؛ ولذا لا تزال شهادة الشهداء حتى اليوم تخلب الأذهان وتبعث الرضى، وتحظى بالاصغاء والاحتذاء. وهذا ما يحمل على الوثوق بكلامهم. فنحن نكتشف فيهم بداهة حب لا يحتاج إلى تدليلات طويلة ليكون مقنعاً، ما دام هذا الحب يحدّث كلاً منا عما يحسبه في عمق ذاته حقيقةً يفتش عنها منذ أمدٍ بعيد. وقصارى القول أن الشهيد يوقظ فينا ثقة عميقة لأنه ينطق بما نشعر به، ويعبّر بوضوح عما نريد أن نجد الجرأة للتعبير عنه.
33. نرى هنا أن عناصر السؤال تتكامل رويداً رويداً : الإنسان، بطبيعته، يبحث عن الحقيقة. هذا البحث لا يهدف فقط إلى تحصيل حقائق جزئية أو اختبارية او علمية. الإنسان لا يلتمس فقط الخير الحقيقي لكلٍ من قراراته…إنه ينـزع ببحثه الى حقيقة أبعد تمكّنه من وجود تفسير لمعنى حياته؛ بحثه لا يستطيع إذن أن ينتهي إلاّ في المطلق[28]. بفضل مؤهلات الفكر، باستطاعة الإنسان أن يظفر بمثل هذه الحقيقة ويعترف بها. هذه الحقيقة، بوصفها حقيقة حيوية وجوهرية لوجوده، يستطيع الإنسان أن يحصّلها لا عن طريق العقل وحسب، بل أيضاً عن طريق الوثوق بأشخاص آخرين بإمكانهم أن يضمنوا له يقين الحقيقة وسلامتها. قدرة الإنسان على أن يكل ذاته وحياته، بفعل اختيار حرّ، إلى شخص آخر، إنما هي بالتأكيد من أهم وأبلغ ما يقوم به الإنسان من أفعالٍ انتروبولوجيّة.
يجب ألاّ يغيب عن ذهننا أن العقل نفسه بحاجة إلى أن يظلّ مدعوماً في سعيه، بفعل حوارٍ واثق وصداقة مخلصة. جوّ الريبة والحذر الذي يحيط أحياناً بالبحث الفكري يذهل عن تعليم الفلاسفة الأقدمين الذين كانوا يحسبون الصداقة قرينة من أهم القرائن لإجادة الفلسفة.
ينتج مما قلت إلى الآن أن الإنسان ينتهج في البحث طريقاً لا نهاية له بشرياً: بحث عن الحقيقة وبحث عن شخصٍ يضع فيه ثقته. ويستطيع الإيمان المسيحي أن يساعده ويؤهله عملياً ليُفلح في هذا البحث. الإيمان المسيحي يتخطىَّ مجرّد التصديق ويُدخل الإنسان في نظام النعمة الذي يمكنّه من المشاركة في سرّ المسيح الذي يخوّله أن يعرف الله واحداً في ثلاثة أقانيم معرفة راهنة ومتراصّة. وهكذا يكتشف الإيمانُ في يسوع المسيح–الإله الحق–الدعوةَ القصوى الموجّهة إلى البشرية، لتتمكّن من تحقيق ما توجسه من شوق وحنين.
34. هذه الحقيقة التي يكشفها الله لنا في يسوع المسيح لا تناقض الحقائق التي ندركها بالفلسفة. فكلا هاتين المرتبتين في المعرفة تقودنا، بالعكس، إلى كمال المعرفة. وحدة الحقيقة هي من أسس مسلّمات العقل البشري، يعبّر عنها مبدأ اللاتناقض. ونجد في الوحي يقين هذه الوحدة عندما يؤكد لنا أن الإله الخالق هو أيضاً إله تاريخ الخلاص. الإله الذي هو أساس وضمانة النظام الطبيعي الذي يرتكز عليه العلماء بكل ثقة[29] هو نفسه الذي كشف لنا ذاته أبا ربنا يسوع المسيح. وحدة الحقيقة هذه، الطبيعية والمنـزلة، تجد في المسيح تناغمها الحي والشخصي، على حدّ ما يذكّر به الرسول: «الحقيقة التي في يسوع» (أف 4، 21؛ را قول 1، 15-20). إنه الكلمة الأبدي، الذي به كل شيء كوِّن، وهو في آنٍ واحد الكلمة المتجسّد، الذي كشفه الآب في ملء شخصه (را يو 1، 14-18)[30]. إن ما يبحث عنه العقل البشري «وهو لا يعرفه» (را رسل 17،23)، لا يمكن أن يجده إلاّ بواسطة المسيح: لأن ما يتجلّى فيه إنما هو «ملء حقيقة» (را يو 1، 14-16) كلّ كائن كُوِّنَ فيه وبه، ويجد فيه ملء كيانه (را قول 1، 17).
35. من منطلق هذه الأفكار العموميّة، لا بدّ الآن من أن ندقِّق مباشرة في العلاقة بين الحقيقة الموحاة والفلسفة. هذه العلاقة تفرض علينا اعتباراً مزدوجاً، وذلك بأن الحقيقة المستقاة من الوحي هي نفسها الحقيقة التي ندركها في ضؤ العقل. والواقع أنه يتعذّر علينا أن نستوضح العلاقة الصحيحة بين الحقيقة الملهمة والعلم الفلسفي إلاّ في هذا المفهوم المزدوج. وسوف نتناول أولاً العلاقات بين الإيمان والفلسفة عبر التاريخ، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نستوضح بعض المبادىء التي يمكننا اعتمادها والرجوع إليها لإقامة الصلة الصحيحة بين هاتين المنـزلتين في المعرفة.
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 10:08 pm
الفصل الرابع
الصلات بين الإيمان والعقل
المحطات اللافتة في ملتقيات الإيمان والعقل
36. يروي لنا كتاب أعمال الرسل كيف اصطدم البلاغ المسيحي منذ البداية بالتيارات الفلسفية السائدة في ذلك العهد. ويورد نفس الكتاب النقاش الذي جرى في أثينا بين بولس و«بعض الفلاسفة الإبيقوريين والرواقيين» (17، 18). التحليل التفسيري لهذا الخطاب في ساحة الأريوباغس يبيّن لنا بوضوح تلميحات كثيرة إلى معتقدات شعبية معظمها من مصدر رواقي. ولم يكن ذلك من باب الصدف. فالمسيحيون الأوَّلون لم يَقْصُروا استشهاداتهم على «موسى والأنبياء»، في خطبهم إلى الوثنيين، ليفهموا مضمون كلامهم، بل عمدوا أيضاً إلى معرفة الله الطبيعية، وإلى صوت الضمير الأدبي عند كل إنسان (را روم 1، 19-21؛ 2، 14-15؛ رسل 14، 16-17). ولكن لما كانت هذه المعرفة الطبيعية، في الديانة الوثنية، قد هوت في الصنميّة (را روم 1، 21-32) فقد رأى الرسول من دواعي الحكمة أن ينيط خطابه بفكر الفلاسفة الذين كانوا، منذ البداية، قد جابهوا الديانات الأسطورية والطقوس الأسراريّة بنظريات تراعي السموّ الإلهي.
من أهم الجهود التي بذلتها الفلسفة الكلاسيكية تمحيصُها للمعتقدات الدينية من أدرانها الميتولوجيّة. ونعرف أن الديانة الإغريقية لم تكن، هي أيضاً، لتختلف كثيراً عن معظم الديانات الكونية الأخرى في اعتناقها الشرك وتأليه الأشياء والظاهرات الطبيعية. إن المحاولات التي بذلها الإنسان ليدرك أصل الآلهة وأصل الكون من خلالها تحققت أولاً في الشعر. فالملحمات الثيوغونية (الباحثة في أصول الآلهة وأنسابهم) لا تزال حتى اليوم أولى دلائل هذا السعي البشري. وأما الرباط القائم بين العقل والدين فيعود الفضل في إظهاره إلى آباء الفلسفة. لقد رفعوا نظرهم إلى أبعد من ذلك، إلى المبادىء الشاملة، ولم يكتفوا بالأساطير القديمة بل أرسَوا معتقدهم في الألوهة على مرتكزٍ عقلي. وهكذا انتهجوا طريقاً تحوّلت عن التقاليد القديمة الخاصة وأفضت إلى تطوّر فكري يتلاءم ومقتضيات العقل الشامل. وكانت الغاية من هذا التطوّر إخضاع المعتقد لحكم الوعي الناقد. وكان أول من استفاد من هذه المسيرة النقدية فكرة الألوهة. فأُقِرَّت خُرافية الأساطير وطُهِّرت الديانة، وإن جزئياً، بفضل التحليل العقلاني. على هذا الأساس سعى آباء الكنيسة إلى إقامة حوار مثمر مع الفلاسفة القدامى، مفسحين الطريق إلى التبشير بإله يسوع المسيح وتقريبه من الأذهان.
37. عندما نلمح إلى هذه الحركة التي قرّبت المسيحيين من الفلسفة، لا بدّ من أن نذكّر أيضاً بالمواقف الفطينة التي دفعتهم إليها عناصر أخرى من العالم الثقافي الوثني، كالغنوصية مثلاً. لقد كان من اليسير أن يقع التباس بين الفلسفة بصفتها حكمة عملية ومدرسة حياة، ونمطٍ من المعرفة الراقية والباطنيّة، هو الذي ألمح، ولا شك، إليه القديس بولس في رسالته التحذيرية إلى أهل قولوسي: «إياكم وأن يخلبكم أحد بالفلسفة، بذلك الغرور الباطل القائم على سُنّة الناس وأركان العالم، لا على المسيح» (قول 2، 8). كلمات الرسول هذه تبدو لنا على جانب كبير من الواقعية إذا قارنَّاها بمختلف أشكال الباطنية الرائجة اليوم حتى في أوساط بعض المؤمنين الذين لا يملكون أدنى قدرٍ من الحس النقدي. ثمة كُتّاب آخرون من القرون الأولى من مثل القديس إيريناوس وترتليانس، ساروا في خطى القديس بولس فأبدوا تحفظاتهم على بعضٍ من المواقف الثقافية المدّعية إخضاع الحقيقة المنـزلة لتأويل الفلاسفة.
38. ملتقى المسيحية والفلسفة لم يكن إذن فوريّاً ولا هيّناً. ولقد اعتبر المسيحيون الأولون ممارسة الفلسفة ومخالطة المدارس الفكريّة مبعث قلقٍ لا سانحة حظ. لقد كان الواجب الأول والمُلِحّ، في نظرهم، المناداة بالمسيح الناهض وذلك ضمن لقاء شخصي يمكن أن يقود المخاطَب إلى توبة القلب وطلب المعمودية. ولا يعني هذا أنهم تخلّوا عن واجب التعمق في فهم الإيمان وحوافزه، بل بالعكس. ومن ثم فالحمْلة الانتقادية التي شنهَّا شلسيوس على المسيحيين بتهمة أنهم قوم «أميّون وأفظاظ»[31] تبدو لنا جائرة وبلا أساس. هذه اللامبالاة في بداية العهد المسيحي، يجب أن نعزوها إلى سبب آخر. والواقع أن الذين التقوا الإنجيل أصابوا فيه جواباً مقنعاً على السؤال عن معنى الحياة، وكان قد بقي حينئذٍ بلا جواب، فبدت لهم مخالطة الفلاسفة شأناً بعيداً تخطَّاه الزمن إلى حدٍّ ما.
وهذا ما يبدو لنا اليوم أكثر وضوحاً إذا فكّرنا في مساهمة المسيحيّة في تأكيد الحق الشامل في الوصول إلى الحقيقة. فالمسيحيّة من بعد أن نقضت الحواجز العنصرية والاجتماعيّة والجنسيّة، منذ مطلع تاريخها، هبَّت تنادي بمساواة جميع البشر أمام الله. وأول نتيجة من نتائج هذه النظرية كان لها صلة بقضيّة الحقيقة. لقد تخطّت المسيحيّة بلا رجعة الطابع النخبوي الذي اتخذه البحث الفلسفي عند القدامى: فما دام الوصول إلى الحقيقة منحةً تخوّل الوصول إلى الله، فالجميع مخوّلون السير في هذا الطريق. المسالك المؤديّة إلى الحقيقة متنوّعة وكثيرة: ولكن، بما أن الحقيقة المسيحيّة تتميّز بقدرتها الخلاصية، فكلٌّ من تلك الدروب تصبح سالكة، ما دامت تفضي إلى الغاية الأخيرة وهي الوحي بيسوع المسيح.
من بين روّاد اللقاء المثمر بالفكر الفلسفي، وإن تميّز بشيء من النقد المتحفظ، لا بد من أن نذكر القديس يوستينوس: فمع احتفاظه، حتى من بعد اهتدائه، بقدر كبير من التقدير للفلسفة اليونانية، كان يؤكّد بقوة ووضوح أنه وجد في المسيحيّة «الفلسفة الوحيدة الآمنة والمفيدة»[32]. وكذلك القديس إكليمنضس الإسكندري الذي كان يتوسّم في الإنجيل «الفلسفة الحقيقية»[33] ويشبّه الفلسفة، من باب القياس، بالشريعة الموسويّة، ويرى فيها تعليماً ممهِّداً للإيمان المسيحي[34] ومدخلاً إلى الإنجيل[35]. بما أن «الفلسفة تطلب الحكمة التي قوامها استقامة النفس والكلام ونقاوة الحياة، فهي تملك مؤهلات حب وصداقة تجاه الحكمة وتسعى كل جهدها للوصول إليها. الفلاسفة عندنا هم المغرمون بالحكمة خالقة الكون ومربيّته، أي المغرمون بمعرفة ابن الله»[36]. في نظر الإسكندري، الفلسفة اليونانيّة لا تهدف أولاً إلى إكمال الحقيقة المسيحية ودعمها: مهمتها هي الدفاع عن الإيمان: «تعليم المخلّص يكفي ذاته وليس بحاجة إلى أي شيء آخر، ما دام هو «قوة الله وحكمة الله»؛ وعندما تنضاف الفلسفة اليونانيّة، فهي لا تجعل الحقيقة أكثر قوة، بل توهي هجمات الصفصطائيّة عليها وتحبط فخاخها، ولذا سميّت بحق سياج الكرم وسوره»[37].
39. في تاريخ هذا التطوّر، نلحظ أن المفكرين المسيحيين قد اعتمدوا الفكر الفلسفي بطريقة نقديّة. من أوائل الأمثلة على ذلك مثل أوريجينوس، وهو بلا ريب مثل لافت. فهو يردّ على هجمات شلسيوس الفيلسوف، مستعملاً الفلسفة الأفلاطونية للدفاع عن المسيحية؛ وفي ركونه إلى عدد كبير من عناصر الفلسفة الأفلاطونية، نراه يبدأ في تكوين أول نواة في تاريخ اللاهوت المسيحي. لفظة اللاهوت نفسها ومفهومها كخطاب عقلاني حول الله، كانا حتى ذاك مرتبطين بجذورهما اليونانية. في الفلسفة الأرسطوطالية مثلاً، كانت هذه اللفظة تشير إلى الجزء الأشرف بل إلى ذروة الخطاب الفلسفي. وأما في ضؤ الوحي المسيحي، فما كان يُعتبر أولاً تعليماً عاماً في شأن الألوهة، بدأ يكتسب معنىً جديداً جداً، وذلك بمقدار ما أصبح اللاهوت هو البحث الذي يقوم به المؤمن للتعبير عن العقيدة الحقيقية في شأن الله. هذا الفكر المسيحيّ الجديد المتطوّر كان يستعمل الفلسفة ولكنه كان يسعى، في الوقت نفسه، إلى التميّز عنها تميّزاً واضحاً. ويبيّن لنا التاريخ أن الفكر الأفلاطوني نفسه الذي استعان به اللاهوت، قد خضع لتغيّرات عميقة، وبخاصة في نطاق بعض المقولات كخلود النفس مثلاً وتأليه الإنسان ومصدر الشرّ.
40. في هذا المسعى إلى مسحنة الفكر الأفلاطوني والأفلاطوني الجديد، لا بدّ من أن نذكر خصوصاً الآباء الكابادوكيين وديونيسيوس الأريوباغي وخصوصاً القديس أوغسطينوس؛ وكان الملفان الغربي الكبير قد بات على اتصال بمدارس فلسفية مختلفة، ولكنها خيّبت كلها ظنه. فعندما مثلت الحقيقة المسيحية أمامه تمكّن من أن يتوب توبة جذريّة لم تستطع الفلسفات التي التقاها من قبل أن تقوده إليها. وقد أفصح هو نفسه عن سبب ذلك: «آثرت منذئذٍ لهذا السبب العقيدة الكاثوليكية، وشعرت أنها تطلب باعتدال وبدون غش أن يؤمن الإنسان بما لم يقم عليه البرهان–سواء أكان هناك دليل وظَلَّ مستغلقاً على البعض أو لم يكن هناك دليل البتة–بينما كان [المانيون] يَعِدون بالعلم بطريقة متهوّرة ولا يبالون بإيمان الناس ويفرضون عليهم بعد ذلك التسليم بما لا يحصى من الخرافات والسخافات التي لم يكن بالإمكان إقامة الدليل عليها»[38]. وكان أوغسطينوس يوجّه الملامة إلى الأفلاطونيين أنفسهم الذين كان يركن إليهم بطريقة مميّزة، لأنهم عرفوا الغاية التي يجب النـزوع إليها ولكنهم جهلوا الطريق المؤديّة إليها وهو الكلمة المتجسّد[39]. لقد أَفلح أسقف هيبونة في أن يضع أولى كبريات الخلاصات في الفكر الفلسفي واللاهوتي التي جبت إليها روافد الفكر اليوناني واللاتيني. ونجد عنده أيضاً أن الوحدة العلمية الكبرى المرتكزة على الفكر البيبلي قد لقيت في الفكر النظري تثبيتاً ودعماً. هذه الخلاصة التي حققها القديس أوغسطينوس سوف تظلّ في الغرب، على مدى أجيال، أرقى أشكال الفكر الفلسفي واللاهوتي. ولقد تمكَّن أيضاً، بفضل تاريخه الشخصي، وبدعم من قداسة حياته العجيبة، أن يُدخِل في مؤلفاته عناصر كثيرة مستوحاة من الخبرة، مهَّدت لما كان لا بدّ أن يجري في المستقبل من تطورات في بعض التيارات الفلسفية.
41. لقد بات إذن لآباء الشرق والغرب طرق متنوعة في الاتصال بالمدارس الفلسفية. ولا يعني ذلك أنهم لبّسوا محتوى إيمانهم بالمذاهب التي اعتنقتها تلك المدارس. وقد تساءل ترتليانوس قائلاً: «أي شركة بين أثينا وأورشليم؟ بين الأكاديمية والكنيسة؟»[40] هذا التساؤل هو دليل واضح على الوعي النقدي الذي تميّز به المفكرون المسيحيون، منذ فجر التاريخ المسيحي، لمعالجة معضلة العلاقات بين الإيمان والفلسفة، وقد نظروا إليها، بالإجمال، في ملامحها الإيجابية وفي محدوديتها. لم يكونوا من طراز المفكّرين السذج، ولأنهم كانوا يعيشون محتوى إيمانهم بكثير من الجديّة، تمكنوا من الوصول إلى أعمق أشكال الفكر النظري. فمن باب الظلم والتخفيض ألاّ نرى في مؤلفاتهم سوى التعبير عن حقائق الإيمان بمقولات فلسفية. لقد حقًّقوا الكثير من ذلك فأفلحوا في إبراز ما كان مضمراً وجرثومياً في فكر كبار الفلاسفة الأقدمين وأضفوا عليه حلته الكاملة[41]. هؤلاء الفلاسفة اتخذوا لهم رسالة –كما قلت–أن يبيِّنوا إلى أي مدى بوسع العقل، إذا تخلَّص من قيوده الخارجيّة، أن يخرج من نفق الأساطير وينفتح على سموّ الألوهة بطريقة أمثل. العقل إذا تطهّر واستقام بإمكانه إذن أن يرقى إلى أعلى درجات الفكر ويجد مرتكزاً متيناً لإدراك الكيان والوصول إلى العلويّ والمطلق.
هنا تكمن، بالتحديد، جدّة الآباء. لقد رحَّبوا ترحيباً كاملاً بالعقل المنفتح على المطلق ورفدوه بالثروة الصادرة عن الوحي. هذا اللقاء لم يتمّ فقط على صعيد الثقافات التي انهارت الواحدة مخلوبة بالأخرى. لقد تحقق في عمق النفوس وإذا به لقاء بين الخليقة وخالقها. هكذا استطاع العقل أن يدرك الخير الأسمى والحقيقة القصوى في الكلمة المتأنس، متخطياً بذلك الغاية التي كان ينـزع إليها بفعل طبيعته وبطريقة لا شعورية. ومع ذلك لم يخشَ الآباء، في مواحهة الفلاسفة، من الإقرار بالعناصر المشتركة كما بالفوارق القائمة بينها وبين الوحي. إدراك العناصر الجامعة لم يكن ليوهي عندهم الاعتراف بالعناصر الفارقة.
42. في اللاهوت المدرسي نرى العقل المثقّف بالفلسفة يتعاظم شأنه أكثر فأكثر بحافزٍ من التأويل الأنسلمي في قضيّة فهم الإيمان. ففي نظر رئيس أساقفة كنتربري أوَّلية الإيمان لا تتعارض مع البحث العقلاني. العقل ليس مدعواً إلى أن يحكم في محتوى الإيمان. إنه عاجز عن ذلك لأنه ليس أهلاً له. مهمة العقل أن يجد معنىً ويكتشف الأسباب التي تُتيح للجميع الوصول إلى شيء من فهم محتوى الإيمان. ويلحّ القديس أنسلموس على أن العقل يجب أن يسعى وراء ما يحبّه. كلّما ازداد حبه ازداد شغفه بالمعرفة. من يحيَ للحقيقة يَتُقْ إلى شكل من المعرفة يتأجج أكثر فأكثر حباً لما يعرفه، مع إقراره بأنه لم يبذل بعد كل ما يرغب في أن يبذله: «لقد وُجدتُ لأراك ولم أحقق بعدُ ما وُجدت لأجله»[42]. الشوق إلى الحقيقة يحفز إذن العقل إلى أن يذهب دائماً إلى أبعد ممّا وصل إليه؛ ولكنه يشقُّ عليه أن يلحظ أن له من طاقة الإدراك ما يتخطَّى دائماً أكثر فأكثر ما يدركه. ومع ذلك، فبإمكان العقل أن يلحظ هنا كمال مسيرته: «إني أرى أن الباحث عن اللاَّمدرك يجب أن يكتفي بالتوصل، عن طريق العقل، إلى معرفة ما هو اللامدرك، على وجه اليقين، حتى وإن عجز عن أن يدرك بعقله كيف هو [000] ولكن هل هناك شيء أبعد عن الإدراك وأبعد عن الوصف ممّا هو فوق كل شيء؟ فإذا كانت القضايا التي تجادلنا فيها حتى الآن، في شأن الماهيّة الإلهيّة، مبنيَّة على أسباب موجبة، فلن يتزعزع يقيننا في شأنها حتى وإن لم يستطع العقل أن يستوعبها أو أن يفسرّها عبر الألفاظ. وإذا كان العقل قد أدرك، باستدلال سابق، ما هو اللامدرك، فالطريقة التي تَعْلَم فيها الحكمة السامية ما فعلت هي التي تفسّر كيف تعلم ذاتها وتعبّر عن ذاتها، مع العلم بأن الإنسان لا يستطيع أن يعرف منها شيئاً أو تقريباً لا شيء»[43].
التناغم الأساسي بين المعرفة الفلسفية والمعرفة بالإيمان، يجد هنا إثباتاً جديداً: فالإيمان يطلب أن يُدركَ موضوعه عن طريق العقل، والعقل، في ذروة بحثه، يرضى بضرورة محتوى الإيمان.
فكر القديس توما الأكويني وجِدَّته الدائمة
43. في هذه المسيرة الطويلة، يشغل القديس توما مكاناً فارقاً جداً، وليس لجهة محتوى تعليمه وحسب، بل أيضاً لجهة الحوار الذي عقده مع الفكر العربي والفكر اليهودي في زمانه. في زمن عاد فيه المفكرون المسيحيون إلى اكتشاف كنوز الفلسفة القديمة والفلسفة الأرسطوطالية بطريقة مباشرة، كان له الفضل الكبير في التركيز على التناغم القائم بين العقل والإيمان. نور العقل ونور الإيمان كلاهما من الله، على حدّ تفسيره، ولذا لا يستطيعان أن يتناقضا[44].
ويرى القديس توما، في نظرة جذريّة، أن الطبيعة، وهي موضوع الفلسفة، بإمكانها أن تساهم في فهم الوحي الإلهي. الإيمان لا يخشى إذن العقل بل يلتمسه ويثق به. وكما أن النعمة تفترض الطبيعة وتكمّلها[45]، كذلك الإيمان يفترض العقل ويكمّله. العقل المستنير بالإيمان يتحرّر من الأوهان والمحدوديات الناجمة عن عصيان الخطيئة، ويجد القوّة اللازمة للارتقاء إلى معرفة سر الله الواحد والثالوث. الملفان الملائكي، مع تنويهه بما يتصف به الإيمان من طابع يتخطىّ الطبيعة، لم يُغفِل ما يتميّز به الإيمان أيضاً من طابع عقلاني، بل عرف بالعكس أن يستقصي معنى هذه العقلانية ويستجليها. والواقع أن الإيمان هو، نوعاً ما، «رياضة للفكر»؛ وذلك بأن العقل البشري لا يتلاشى ولا يُقهر عندما يذعن لمحتوى الإيمان. هذا المحتوى إنما ندركه بفعل خيار حرّ ومسؤول[46].
لهذا السبب دأبت الكنيسة بحق على أن تقترح القديس توما معلّم فكر ونموذجاً صحيحاً من نماذج العمل اللاهوتي. ويطيب لي أن أذكّر، في هذا السياق، بما كتبه سلفي خادم الله بولس السادس بمناسبة الذكرى المئوية السابعة لوفاة الملفان الملائكي: «لا شك أن القديس توما قد تحلّى بأعلى درجة من الشجاعة في قولة الحق وحرّية الفكر في مواجهة المعضلات الجديدة، والنـزاهة الفكريّة في رفض كل تلوث للمسيحية بالفلسفة الدنيويّة، ولكن بدون رفض الفلسفة رفضاً اعطباطياً. ولذا فهو يُعدُّ في تاريخ الفكر المسيحي «من روّاد الطريقة الفلسفية الجديدة والثقافة الشاملة. النقطة المركزية ونواة الحلّ الذي عالج به، بحدسه النبوي والعبقري، معضلة التواجه الجديد بين العقل والإيمان، هي ضرورة التوفيق بين دنيوية العالم وجذرّية الإنجيل، فتجنّب بذلك تلك النـزعة اللاطبيعيّة المتنكرّة للعالم وقيمه، من دون أن يُخِلَّ بالنظام العلوي ومقتضياته الصارمة»[47].
44. من الومضات الفكرية الكبرى التي تميّز بها القديس توما دورُ الروح القدس في إنضاج المعرفة البشريّة والارتقاء بها إلى مرتبة الحكمة الحقيقية. ففي أولى صفحات الخلاصة اللاهوتية[48]، أراد الأكويني أن ينوّه بأوَّليّة الحكمة التي هي موهبة من مواهب الروح القدس، والتي تُدخِل الإنسان إلى معرفة الحقائق الإلهية. لاهوت الأكويني يُمكِّن من فهم خصوصية الحكمة في ارتباطها الوثيق بالإيمان وبالمعرفة الإلهية. هذه الحكمة تتميّز بمعرفة فطريّة، وتفترض الإيمان وتتوصل إلى استنباط حكم صائب انطلاقاً من الإيمان نفسه: «الحكمة المعدودة موهبة من مواهب الروح القدس هي غير الحكمة المعدودة فضيلة فكرية مكتسبة: فهذه يكتسبها الإنسان بجهده وأما تلك «فتنحدر من العلاء» على حدّ قول الرسول يعقوب. وهي لذلك تختلف عن الإيمان، لأن الإيمان يذعن للحقيقة الإلهية في حدّ ذاتها، وأمّا موهبة الحكمة فمزيتها أن تحكم طبقاً للحقيقة الإلهية»[49].
اعتراف الملفان الملائكي بأوّلية هذه الحكمة لا ينسيه وجود شكلين متكاملين من الحكمة: الحكمة الفلسفية التي ترتكز على قدرة العقل على التماس الحقيقة ضمن حدوده الفطرية، و الحكمة اللاهوتيّة التي ترتكز على الوحي والتي تفحص محتوى الإيمان لتصل إلى سرّ الله ذاته.
لقد كان القديس توما مقتنعاً كل الاقتناع من القول المأثور: «كل حقيقة أيّاً كان قائلها، هي من الروح القدس»[50]، فكان هاوياً للحقيقة بطريقة مجرّدة، وبحث عنها أينما تجلّت وبذل كل ما في وسعه للتنويه بشموليتها. السلطة التعليمية في الكنيسة أقرّت وأعجبت بما كان لديه من شغف بالحقيقة؛ والواقع أنه قد توصل بفكره إلى ذرىً لم يكن العقل البشري ليحلم بالوصول إليها، وذلك لأنه استمرّ دائماً في اتجاه الحقيقة الشاملة والموضوعية والسامية»[51]؛ ولأنه كان يبحث عن الحقيقة بدون تحفظ، عرف، في نظرته الواقعية[52]، أن يعترف بما يميّزها من طابعٍ موضوعيٍ؛ وبالتالي ففلسفته هي، بالحقيقة، فلسفة الكائن لا فلسفة الظاهر
الصلات بين الإيمان والعقل
المحطات اللافتة في ملتقيات الإيمان والعقل
36. يروي لنا كتاب أعمال الرسل كيف اصطدم البلاغ المسيحي منذ البداية بالتيارات الفلسفية السائدة في ذلك العهد. ويورد نفس الكتاب النقاش الذي جرى في أثينا بين بولس و«بعض الفلاسفة الإبيقوريين والرواقيين» (17، 18). التحليل التفسيري لهذا الخطاب في ساحة الأريوباغس يبيّن لنا بوضوح تلميحات كثيرة إلى معتقدات شعبية معظمها من مصدر رواقي. ولم يكن ذلك من باب الصدف. فالمسيحيون الأوَّلون لم يَقْصُروا استشهاداتهم على «موسى والأنبياء»، في خطبهم إلى الوثنيين، ليفهموا مضمون كلامهم، بل عمدوا أيضاً إلى معرفة الله الطبيعية، وإلى صوت الضمير الأدبي عند كل إنسان (را روم 1، 19-21؛ 2، 14-15؛ رسل 14، 16-17). ولكن لما كانت هذه المعرفة الطبيعية، في الديانة الوثنية، قد هوت في الصنميّة (را روم 1، 21-32) فقد رأى الرسول من دواعي الحكمة أن ينيط خطابه بفكر الفلاسفة الذين كانوا، منذ البداية، قد جابهوا الديانات الأسطورية والطقوس الأسراريّة بنظريات تراعي السموّ الإلهي.
من أهم الجهود التي بذلتها الفلسفة الكلاسيكية تمحيصُها للمعتقدات الدينية من أدرانها الميتولوجيّة. ونعرف أن الديانة الإغريقية لم تكن، هي أيضاً، لتختلف كثيراً عن معظم الديانات الكونية الأخرى في اعتناقها الشرك وتأليه الأشياء والظاهرات الطبيعية. إن المحاولات التي بذلها الإنسان ليدرك أصل الآلهة وأصل الكون من خلالها تحققت أولاً في الشعر. فالملحمات الثيوغونية (الباحثة في أصول الآلهة وأنسابهم) لا تزال حتى اليوم أولى دلائل هذا السعي البشري. وأما الرباط القائم بين العقل والدين فيعود الفضل في إظهاره إلى آباء الفلسفة. لقد رفعوا نظرهم إلى أبعد من ذلك، إلى المبادىء الشاملة، ولم يكتفوا بالأساطير القديمة بل أرسَوا معتقدهم في الألوهة على مرتكزٍ عقلي. وهكذا انتهجوا طريقاً تحوّلت عن التقاليد القديمة الخاصة وأفضت إلى تطوّر فكري يتلاءم ومقتضيات العقل الشامل. وكانت الغاية من هذا التطوّر إخضاع المعتقد لحكم الوعي الناقد. وكان أول من استفاد من هذه المسيرة النقدية فكرة الألوهة. فأُقِرَّت خُرافية الأساطير وطُهِّرت الديانة، وإن جزئياً، بفضل التحليل العقلاني. على هذا الأساس سعى آباء الكنيسة إلى إقامة حوار مثمر مع الفلاسفة القدامى، مفسحين الطريق إلى التبشير بإله يسوع المسيح وتقريبه من الأذهان.
37. عندما نلمح إلى هذه الحركة التي قرّبت المسيحيين من الفلسفة، لا بدّ من أن نذكّر أيضاً بالمواقف الفطينة التي دفعتهم إليها عناصر أخرى من العالم الثقافي الوثني، كالغنوصية مثلاً. لقد كان من اليسير أن يقع التباس بين الفلسفة بصفتها حكمة عملية ومدرسة حياة، ونمطٍ من المعرفة الراقية والباطنيّة، هو الذي ألمح، ولا شك، إليه القديس بولس في رسالته التحذيرية إلى أهل قولوسي: «إياكم وأن يخلبكم أحد بالفلسفة، بذلك الغرور الباطل القائم على سُنّة الناس وأركان العالم، لا على المسيح» (قول 2، 8). كلمات الرسول هذه تبدو لنا على جانب كبير من الواقعية إذا قارنَّاها بمختلف أشكال الباطنية الرائجة اليوم حتى في أوساط بعض المؤمنين الذين لا يملكون أدنى قدرٍ من الحس النقدي. ثمة كُتّاب آخرون من القرون الأولى من مثل القديس إيريناوس وترتليانس، ساروا في خطى القديس بولس فأبدوا تحفظاتهم على بعضٍ من المواقف الثقافية المدّعية إخضاع الحقيقة المنـزلة لتأويل الفلاسفة.
38. ملتقى المسيحية والفلسفة لم يكن إذن فوريّاً ولا هيّناً. ولقد اعتبر المسيحيون الأولون ممارسة الفلسفة ومخالطة المدارس الفكريّة مبعث قلقٍ لا سانحة حظ. لقد كان الواجب الأول والمُلِحّ، في نظرهم، المناداة بالمسيح الناهض وذلك ضمن لقاء شخصي يمكن أن يقود المخاطَب إلى توبة القلب وطلب المعمودية. ولا يعني هذا أنهم تخلّوا عن واجب التعمق في فهم الإيمان وحوافزه، بل بالعكس. ومن ثم فالحمْلة الانتقادية التي شنهَّا شلسيوس على المسيحيين بتهمة أنهم قوم «أميّون وأفظاظ»[31] تبدو لنا جائرة وبلا أساس. هذه اللامبالاة في بداية العهد المسيحي، يجب أن نعزوها إلى سبب آخر. والواقع أن الذين التقوا الإنجيل أصابوا فيه جواباً مقنعاً على السؤال عن معنى الحياة، وكان قد بقي حينئذٍ بلا جواب، فبدت لهم مخالطة الفلاسفة شأناً بعيداً تخطَّاه الزمن إلى حدٍّ ما.
وهذا ما يبدو لنا اليوم أكثر وضوحاً إذا فكّرنا في مساهمة المسيحيّة في تأكيد الحق الشامل في الوصول إلى الحقيقة. فالمسيحيّة من بعد أن نقضت الحواجز العنصرية والاجتماعيّة والجنسيّة، منذ مطلع تاريخها، هبَّت تنادي بمساواة جميع البشر أمام الله. وأول نتيجة من نتائج هذه النظرية كان لها صلة بقضيّة الحقيقة. لقد تخطّت المسيحيّة بلا رجعة الطابع النخبوي الذي اتخذه البحث الفلسفي عند القدامى: فما دام الوصول إلى الحقيقة منحةً تخوّل الوصول إلى الله، فالجميع مخوّلون السير في هذا الطريق. المسالك المؤديّة إلى الحقيقة متنوّعة وكثيرة: ولكن، بما أن الحقيقة المسيحيّة تتميّز بقدرتها الخلاصية، فكلٌّ من تلك الدروب تصبح سالكة، ما دامت تفضي إلى الغاية الأخيرة وهي الوحي بيسوع المسيح.
من بين روّاد اللقاء المثمر بالفكر الفلسفي، وإن تميّز بشيء من النقد المتحفظ، لا بد من أن نذكر القديس يوستينوس: فمع احتفاظه، حتى من بعد اهتدائه، بقدر كبير من التقدير للفلسفة اليونانية، كان يؤكّد بقوة ووضوح أنه وجد في المسيحيّة «الفلسفة الوحيدة الآمنة والمفيدة»[32]. وكذلك القديس إكليمنضس الإسكندري الذي كان يتوسّم في الإنجيل «الفلسفة الحقيقية»[33] ويشبّه الفلسفة، من باب القياس، بالشريعة الموسويّة، ويرى فيها تعليماً ممهِّداً للإيمان المسيحي[34] ومدخلاً إلى الإنجيل[35]. بما أن «الفلسفة تطلب الحكمة التي قوامها استقامة النفس والكلام ونقاوة الحياة، فهي تملك مؤهلات حب وصداقة تجاه الحكمة وتسعى كل جهدها للوصول إليها. الفلاسفة عندنا هم المغرمون بالحكمة خالقة الكون ومربيّته، أي المغرمون بمعرفة ابن الله»[36]. في نظر الإسكندري، الفلسفة اليونانيّة لا تهدف أولاً إلى إكمال الحقيقة المسيحية ودعمها: مهمتها هي الدفاع عن الإيمان: «تعليم المخلّص يكفي ذاته وليس بحاجة إلى أي شيء آخر، ما دام هو «قوة الله وحكمة الله»؛ وعندما تنضاف الفلسفة اليونانيّة، فهي لا تجعل الحقيقة أكثر قوة، بل توهي هجمات الصفصطائيّة عليها وتحبط فخاخها، ولذا سميّت بحق سياج الكرم وسوره»[37].
39. في تاريخ هذا التطوّر، نلحظ أن المفكرين المسيحيين قد اعتمدوا الفكر الفلسفي بطريقة نقديّة. من أوائل الأمثلة على ذلك مثل أوريجينوس، وهو بلا ريب مثل لافت. فهو يردّ على هجمات شلسيوس الفيلسوف، مستعملاً الفلسفة الأفلاطونية للدفاع عن المسيحية؛ وفي ركونه إلى عدد كبير من عناصر الفلسفة الأفلاطونية، نراه يبدأ في تكوين أول نواة في تاريخ اللاهوت المسيحي. لفظة اللاهوت نفسها ومفهومها كخطاب عقلاني حول الله، كانا حتى ذاك مرتبطين بجذورهما اليونانية. في الفلسفة الأرسطوطالية مثلاً، كانت هذه اللفظة تشير إلى الجزء الأشرف بل إلى ذروة الخطاب الفلسفي. وأما في ضؤ الوحي المسيحي، فما كان يُعتبر أولاً تعليماً عاماً في شأن الألوهة، بدأ يكتسب معنىً جديداً جداً، وذلك بمقدار ما أصبح اللاهوت هو البحث الذي يقوم به المؤمن للتعبير عن العقيدة الحقيقية في شأن الله. هذا الفكر المسيحيّ الجديد المتطوّر كان يستعمل الفلسفة ولكنه كان يسعى، في الوقت نفسه، إلى التميّز عنها تميّزاً واضحاً. ويبيّن لنا التاريخ أن الفكر الأفلاطوني نفسه الذي استعان به اللاهوت، قد خضع لتغيّرات عميقة، وبخاصة في نطاق بعض المقولات كخلود النفس مثلاً وتأليه الإنسان ومصدر الشرّ.
40. في هذا المسعى إلى مسحنة الفكر الأفلاطوني والأفلاطوني الجديد، لا بدّ من أن نذكر خصوصاً الآباء الكابادوكيين وديونيسيوس الأريوباغي وخصوصاً القديس أوغسطينوس؛ وكان الملفان الغربي الكبير قد بات على اتصال بمدارس فلسفية مختلفة، ولكنها خيّبت كلها ظنه. فعندما مثلت الحقيقة المسيحية أمامه تمكّن من أن يتوب توبة جذريّة لم تستطع الفلسفات التي التقاها من قبل أن تقوده إليها. وقد أفصح هو نفسه عن سبب ذلك: «آثرت منذئذٍ لهذا السبب العقيدة الكاثوليكية، وشعرت أنها تطلب باعتدال وبدون غش أن يؤمن الإنسان بما لم يقم عليه البرهان–سواء أكان هناك دليل وظَلَّ مستغلقاً على البعض أو لم يكن هناك دليل البتة–بينما كان [المانيون] يَعِدون بالعلم بطريقة متهوّرة ولا يبالون بإيمان الناس ويفرضون عليهم بعد ذلك التسليم بما لا يحصى من الخرافات والسخافات التي لم يكن بالإمكان إقامة الدليل عليها»[38]. وكان أوغسطينوس يوجّه الملامة إلى الأفلاطونيين أنفسهم الذين كان يركن إليهم بطريقة مميّزة، لأنهم عرفوا الغاية التي يجب النـزوع إليها ولكنهم جهلوا الطريق المؤديّة إليها وهو الكلمة المتجسّد[39]. لقد أَفلح أسقف هيبونة في أن يضع أولى كبريات الخلاصات في الفكر الفلسفي واللاهوتي التي جبت إليها روافد الفكر اليوناني واللاتيني. ونجد عنده أيضاً أن الوحدة العلمية الكبرى المرتكزة على الفكر البيبلي قد لقيت في الفكر النظري تثبيتاً ودعماً. هذه الخلاصة التي حققها القديس أوغسطينوس سوف تظلّ في الغرب، على مدى أجيال، أرقى أشكال الفكر الفلسفي واللاهوتي. ولقد تمكَّن أيضاً، بفضل تاريخه الشخصي، وبدعم من قداسة حياته العجيبة، أن يُدخِل في مؤلفاته عناصر كثيرة مستوحاة من الخبرة، مهَّدت لما كان لا بدّ أن يجري في المستقبل من تطورات في بعض التيارات الفلسفية.
41. لقد بات إذن لآباء الشرق والغرب طرق متنوعة في الاتصال بالمدارس الفلسفية. ولا يعني ذلك أنهم لبّسوا محتوى إيمانهم بالمذاهب التي اعتنقتها تلك المدارس. وقد تساءل ترتليانوس قائلاً: «أي شركة بين أثينا وأورشليم؟ بين الأكاديمية والكنيسة؟»[40] هذا التساؤل هو دليل واضح على الوعي النقدي الذي تميّز به المفكرون المسيحيون، منذ فجر التاريخ المسيحي، لمعالجة معضلة العلاقات بين الإيمان والفلسفة، وقد نظروا إليها، بالإجمال، في ملامحها الإيجابية وفي محدوديتها. لم يكونوا من طراز المفكّرين السذج، ولأنهم كانوا يعيشون محتوى إيمانهم بكثير من الجديّة، تمكنوا من الوصول إلى أعمق أشكال الفكر النظري. فمن باب الظلم والتخفيض ألاّ نرى في مؤلفاتهم سوى التعبير عن حقائق الإيمان بمقولات فلسفية. لقد حقًّقوا الكثير من ذلك فأفلحوا في إبراز ما كان مضمراً وجرثومياً في فكر كبار الفلاسفة الأقدمين وأضفوا عليه حلته الكاملة[41]. هؤلاء الفلاسفة اتخذوا لهم رسالة –كما قلت–أن يبيِّنوا إلى أي مدى بوسع العقل، إذا تخلَّص من قيوده الخارجيّة، أن يخرج من نفق الأساطير وينفتح على سموّ الألوهة بطريقة أمثل. العقل إذا تطهّر واستقام بإمكانه إذن أن يرقى إلى أعلى درجات الفكر ويجد مرتكزاً متيناً لإدراك الكيان والوصول إلى العلويّ والمطلق.
هنا تكمن، بالتحديد، جدّة الآباء. لقد رحَّبوا ترحيباً كاملاً بالعقل المنفتح على المطلق ورفدوه بالثروة الصادرة عن الوحي. هذا اللقاء لم يتمّ فقط على صعيد الثقافات التي انهارت الواحدة مخلوبة بالأخرى. لقد تحقق في عمق النفوس وإذا به لقاء بين الخليقة وخالقها. هكذا استطاع العقل أن يدرك الخير الأسمى والحقيقة القصوى في الكلمة المتأنس، متخطياً بذلك الغاية التي كان ينـزع إليها بفعل طبيعته وبطريقة لا شعورية. ومع ذلك لم يخشَ الآباء، في مواحهة الفلاسفة، من الإقرار بالعناصر المشتركة كما بالفوارق القائمة بينها وبين الوحي. إدراك العناصر الجامعة لم يكن ليوهي عندهم الاعتراف بالعناصر الفارقة.
42. في اللاهوت المدرسي نرى العقل المثقّف بالفلسفة يتعاظم شأنه أكثر فأكثر بحافزٍ من التأويل الأنسلمي في قضيّة فهم الإيمان. ففي نظر رئيس أساقفة كنتربري أوَّلية الإيمان لا تتعارض مع البحث العقلاني. العقل ليس مدعواً إلى أن يحكم في محتوى الإيمان. إنه عاجز عن ذلك لأنه ليس أهلاً له. مهمة العقل أن يجد معنىً ويكتشف الأسباب التي تُتيح للجميع الوصول إلى شيء من فهم محتوى الإيمان. ويلحّ القديس أنسلموس على أن العقل يجب أن يسعى وراء ما يحبّه. كلّما ازداد حبه ازداد شغفه بالمعرفة. من يحيَ للحقيقة يَتُقْ إلى شكل من المعرفة يتأجج أكثر فأكثر حباً لما يعرفه، مع إقراره بأنه لم يبذل بعد كل ما يرغب في أن يبذله: «لقد وُجدتُ لأراك ولم أحقق بعدُ ما وُجدت لأجله»[42]. الشوق إلى الحقيقة يحفز إذن العقل إلى أن يذهب دائماً إلى أبعد ممّا وصل إليه؛ ولكنه يشقُّ عليه أن يلحظ أن له من طاقة الإدراك ما يتخطَّى دائماً أكثر فأكثر ما يدركه. ومع ذلك، فبإمكان العقل أن يلحظ هنا كمال مسيرته: «إني أرى أن الباحث عن اللاَّمدرك يجب أن يكتفي بالتوصل، عن طريق العقل، إلى معرفة ما هو اللامدرك، على وجه اليقين، حتى وإن عجز عن أن يدرك بعقله كيف هو [000] ولكن هل هناك شيء أبعد عن الإدراك وأبعد عن الوصف ممّا هو فوق كل شيء؟ فإذا كانت القضايا التي تجادلنا فيها حتى الآن، في شأن الماهيّة الإلهيّة، مبنيَّة على أسباب موجبة، فلن يتزعزع يقيننا في شأنها حتى وإن لم يستطع العقل أن يستوعبها أو أن يفسرّها عبر الألفاظ. وإذا كان العقل قد أدرك، باستدلال سابق، ما هو اللامدرك، فالطريقة التي تَعْلَم فيها الحكمة السامية ما فعلت هي التي تفسّر كيف تعلم ذاتها وتعبّر عن ذاتها، مع العلم بأن الإنسان لا يستطيع أن يعرف منها شيئاً أو تقريباً لا شيء»[43].
التناغم الأساسي بين المعرفة الفلسفية والمعرفة بالإيمان، يجد هنا إثباتاً جديداً: فالإيمان يطلب أن يُدركَ موضوعه عن طريق العقل، والعقل، في ذروة بحثه، يرضى بضرورة محتوى الإيمان.
فكر القديس توما الأكويني وجِدَّته الدائمة
43. في هذه المسيرة الطويلة، يشغل القديس توما مكاناً فارقاً جداً، وليس لجهة محتوى تعليمه وحسب، بل أيضاً لجهة الحوار الذي عقده مع الفكر العربي والفكر اليهودي في زمانه. في زمن عاد فيه المفكرون المسيحيون إلى اكتشاف كنوز الفلسفة القديمة والفلسفة الأرسطوطالية بطريقة مباشرة، كان له الفضل الكبير في التركيز على التناغم القائم بين العقل والإيمان. نور العقل ونور الإيمان كلاهما من الله، على حدّ تفسيره، ولذا لا يستطيعان أن يتناقضا[44].
ويرى القديس توما، في نظرة جذريّة، أن الطبيعة، وهي موضوع الفلسفة، بإمكانها أن تساهم في فهم الوحي الإلهي. الإيمان لا يخشى إذن العقل بل يلتمسه ويثق به. وكما أن النعمة تفترض الطبيعة وتكمّلها[45]، كذلك الإيمان يفترض العقل ويكمّله. العقل المستنير بالإيمان يتحرّر من الأوهان والمحدوديات الناجمة عن عصيان الخطيئة، ويجد القوّة اللازمة للارتقاء إلى معرفة سر الله الواحد والثالوث. الملفان الملائكي، مع تنويهه بما يتصف به الإيمان من طابع يتخطىّ الطبيعة، لم يُغفِل ما يتميّز به الإيمان أيضاً من طابع عقلاني، بل عرف بالعكس أن يستقصي معنى هذه العقلانية ويستجليها. والواقع أن الإيمان هو، نوعاً ما، «رياضة للفكر»؛ وذلك بأن العقل البشري لا يتلاشى ولا يُقهر عندما يذعن لمحتوى الإيمان. هذا المحتوى إنما ندركه بفعل خيار حرّ ومسؤول[46].
لهذا السبب دأبت الكنيسة بحق على أن تقترح القديس توما معلّم فكر ونموذجاً صحيحاً من نماذج العمل اللاهوتي. ويطيب لي أن أذكّر، في هذا السياق، بما كتبه سلفي خادم الله بولس السادس بمناسبة الذكرى المئوية السابعة لوفاة الملفان الملائكي: «لا شك أن القديس توما قد تحلّى بأعلى درجة من الشجاعة في قولة الحق وحرّية الفكر في مواجهة المعضلات الجديدة، والنـزاهة الفكريّة في رفض كل تلوث للمسيحية بالفلسفة الدنيويّة، ولكن بدون رفض الفلسفة رفضاً اعطباطياً. ولذا فهو يُعدُّ في تاريخ الفكر المسيحي «من روّاد الطريقة الفلسفية الجديدة والثقافة الشاملة. النقطة المركزية ونواة الحلّ الذي عالج به، بحدسه النبوي والعبقري، معضلة التواجه الجديد بين العقل والإيمان، هي ضرورة التوفيق بين دنيوية العالم وجذرّية الإنجيل، فتجنّب بذلك تلك النـزعة اللاطبيعيّة المتنكرّة للعالم وقيمه، من دون أن يُخِلَّ بالنظام العلوي ومقتضياته الصارمة»[47].
44. من الومضات الفكرية الكبرى التي تميّز بها القديس توما دورُ الروح القدس في إنضاج المعرفة البشريّة والارتقاء بها إلى مرتبة الحكمة الحقيقية. ففي أولى صفحات الخلاصة اللاهوتية[48]، أراد الأكويني أن ينوّه بأوَّليّة الحكمة التي هي موهبة من مواهب الروح القدس، والتي تُدخِل الإنسان إلى معرفة الحقائق الإلهية. لاهوت الأكويني يُمكِّن من فهم خصوصية الحكمة في ارتباطها الوثيق بالإيمان وبالمعرفة الإلهية. هذه الحكمة تتميّز بمعرفة فطريّة، وتفترض الإيمان وتتوصل إلى استنباط حكم صائب انطلاقاً من الإيمان نفسه: «الحكمة المعدودة موهبة من مواهب الروح القدس هي غير الحكمة المعدودة فضيلة فكرية مكتسبة: فهذه يكتسبها الإنسان بجهده وأما تلك «فتنحدر من العلاء» على حدّ قول الرسول يعقوب. وهي لذلك تختلف عن الإيمان، لأن الإيمان يذعن للحقيقة الإلهية في حدّ ذاتها، وأمّا موهبة الحكمة فمزيتها أن تحكم طبقاً للحقيقة الإلهية»[49].
اعتراف الملفان الملائكي بأوّلية هذه الحكمة لا ينسيه وجود شكلين متكاملين من الحكمة: الحكمة الفلسفية التي ترتكز على قدرة العقل على التماس الحقيقة ضمن حدوده الفطرية، و الحكمة اللاهوتيّة التي ترتكز على الوحي والتي تفحص محتوى الإيمان لتصل إلى سرّ الله ذاته.
لقد كان القديس توما مقتنعاً كل الاقتناع من القول المأثور: «كل حقيقة أيّاً كان قائلها، هي من الروح القدس»[50]، فكان هاوياً للحقيقة بطريقة مجرّدة، وبحث عنها أينما تجلّت وبذل كل ما في وسعه للتنويه بشموليتها. السلطة التعليمية في الكنيسة أقرّت وأعجبت بما كان لديه من شغف بالحقيقة؛ والواقع أنه قد توصل بفكره إلى ذرىً لم يكن العقل البشري ليحلم بالوصول إليها، وذلك لأنه استمرّ دائماً في اتجاه الحقيقة الشاملة والموضوعية والسامية»[51]؛ ولأنه كان يبحث عن الحقيقة بدون تحفظ، عرف، في نظرته الواقعية[52]، أن يعترف بما يميّزها من طابعٍ موضوعيٍ؛ وبالتالي ففلسفته هي، بالحقيقة، فلسفة الكائن لا فلسفة الظاهر
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 10:10 pm
مأساة الفصل بين الإيمان والعقل
45. مع ظهور الجامعات الأولى، كان لا بدّ للاهوت من أن يواجه، بطريقة مباشرة، أشكالاً أخرى من البحث والمعرفة العلمية. وكان القديس ألبرتس الكبير والقديس توما في طليعة المعترفين بضرورة التسليم باستقلالية الفلسفة والعلم في مجالات أبحاثهما، مع المحافظة على العلاقة العضوية بين اللاهوت والفلسفة. ولكن مع نهاية العصر الوسيط، أخذ الفرق الشرعي بين علمي اللاهوت والفلسفة يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى انفصال مشؤوم. فبسبب ما كان هنالك من روح عقلانية متشدّدة عند بعض المفكرين، تحجّرت المواقف إلى حدّ الوصول، فعلياً، إلى فلسفة معزولة ومستقلّة مطلقاً عن محتوى الإيمان: وبدأت تنمو في النفوس أيضاً، بنتيجة هذا الانفصام، عاطفة متنامية من الحذر تجاه العقل ذاته، فأخذ البعض ينادون بموقف شامل من الحذر والريبة واللاأدرية، وذلك إمّا ليفسحوا للإيمان مجالاً أوسع وإمّا ليندّدوا بكلِّ مرجعيّة عقلانية للإيمان.
وخلاصة القول أن ما توصّل إليه الفكر الآبائي والوسيطي من إقامة وحدة عميقة وفاعلة تُولِّد معرفة قادرة على الوصول إلى أرقى أشكال الفكر النظري، هذا كله قد انهار، عملياً، تحت وطأة المذاهب المنادية بمعرفة عقليّة مفصولة عن الإيمان وتحلّ محلّه.
46. أكثر هذه التصلبات هيمنةً باتت معروفة وظاهرة، وبخاصة في تاريخ الغرب. ولا نغالي في القول إن معظم الفكر الفلسفي المعاصر قد تطوّر متباعداً شيئاً فشيئاً عن الوحي المسيحي إلى حدّ معارضته بطريقة سافرة. وهذا التيار بلغ شأوه في القرن الفائت. بعض ممثلي الفلسفة المثالية سعوا، بكل الطرق، إلى تحويل الإيمان ومحتواه، بما في ذلك سرّ موت يسوع المسيح وقيامته، إلى مقولات جدلية في متناول الإدراك العقلي. هذه الفكرة تصدّت لها بعض أشكالٍ من الأنسِية الملحدة المبنيّة فلسفياً التي صوّرت الإيمان بصورة الخطر الوبيل الذي يتهدّد العقلانيّة في تطوّرها الكامل. هذه التيارات لم تخش الظهور للناس بمظهر ديانات جديدة أمست مرتكزات لخططٍ سياسية واجتماعية أدّت إلى قيام أنظمة توتالية خلّفت للبشرية صدمة عنيفة.
في إطار البحث العلمي توصّلت تلك المذاهب الفلسفية إلى فرض ذهنية وضعيّة لم تكتفِ بالابتعـاد عن كل نظرة مسيحية إلى العالم، بل أهملت أيضاً وخصوصاً كل مرجعيّة إلى أي رؤية ميتافيزيقية وأخلاقية. وبالتالي، فهناك قبضة من رجال العلم فقدوا كل مرجعيّة أدبيّة فلم يعد الإنسان ومجمل حياته محور اهتمامهم. وينضاف إلى ذلك أن بعضاً منهم، لعلمهم بالطاقات المخزونة في التطوّر التكنولوجي، أخذوا ينقادون لا لمقتضيات السوق بل لما تسوّله لهم نفوسهم من تسلّط مقتدر على الطبيعة وعلى الكائن البشري نفسه.
هناك أخيراً العدمية التي جاءت نتيجة أزمة العقلانية. وقد أفلحت، بوصفها فلسفة العدم، في أن تخلب أذهان معاصرينا. ويعتنق مناصروها نظرية البحث لأجل البحث، بدون أملٍ وبدون أي إمعان للتوصل إلى الحقيقة. في نظر التأويل العدمي، ليس الوجود سوى سانحة يختبر فيها الإنسان من الأحاسيس والخبرات ما يجعل للفانيات المكان الأول. العدمية هي مصدر العقلية الشائعة والقاضية بأن على الإنسان ألاّ يتقيّد بالتزام دائم. ولا غرو فكل شيء عابر ووقتي.
47. ويجب ألاّ ننسى، من جهة أخرى، أن دور الفلسفة نفسه قد تغيّر في الثقافة المعاصرة؛ فمن كونها حكمة وعلماً شاملاً انحدرت شيئاً فشيئاً لتمسي مجرّد حيّز من حيّزات المعرفة البشرية الكثيرة، لا بل قُصِرت مهمتها، في بعض وجوهها، إلى مجرّد دور هامشي. في هذه الأثناء، ترسَّخت أشكال أخرى من النشاط العقلاني بقوة متزايدة، وهدفها التركيز على هامشية العلم الفلسفي. هذه الأشكال العقلانية تنـزع أو بإمكانها أن تنـزع إلى أن تكون «وسيلة وظيفية» في خدمة الأهداف المنفعية، أهداف الامتلاك أو التسلط، بدلاً من أن تتجه إلى تأمل الحقيقة والبحث عن الغاية الأخيرة ومعنى الحياة.
في أولى رسائلي العامة لفتُّ النظر إلى خطر اعتبار هذه الطريقة أمراً مطلقاً، وكتبت في هذا الشأن: «إنسان اليوم يبدو دائماً مهدّداً بما يصنعه، أي بنتيجة عمل يديه، وبالأكثر بعمل ذهنه ونزعات إرادته. ثمار هذه النشاطات المتنوّعة التي يقوم بها الإنسان لا تُنتزع فقط من بين يديه، بطريقة سريعة وغير منتظرة، بل ترتدّ أحياناً بنتائجها على الإنسان نفسه ولو بطريقة جزئية وغير مباشرة، فتتوجه أو يمكن أن تتوجه ضده. على هذا يقوم ربما الفصل الأساسي من مأساة الوجود البشري اليوم في بعده الأوسع والأشمل. فالإنسان يعيش أكثر فأكثر في دوامة الخوف؛ إنه يخشى أن ترتد عليه منتوجاته، لا كلها طبعاً ولا معظمها بل بعضها، وبخاصة تلك التي تتضمن جزءاً ملحوظاً من عبقريته وقدرته الخلاقة»[53].
من جراء هذه التغيّرات الثقافيّة، أعرَض بعض الفلاسفة عن التماس الحقيقة في ذاتها واتخذوا لهم هدفاً وحيداً الحصول على يقين شخصي أو على منفعة عملية؛ فنتج عن ذلك ادلهمام العقل في كرامته الحقيقية وعجزُه عن معرفة الحق والبحث عن المطلق.
48. إن ما يتبيّن من هذه الحقبة الأخيرة من تاريخ الفلسفة هو الفصام المتزايد بين الإيمان والعقل الفلسفي. ومع ذلك لا يخفى على المراقب المتنبّه ما يبدو أحياناً، حتى عند الفلاسفة الذين ساهموا في توسيع الهوّة بين الإيمان والعقل، من بذور فكرية نفيسة بإمكانها أن تساعد في الكشف عن طريق الحقيقة، إذا مُحِّصت وطُوِّرت باستقامة ذهن ونزاهة قلب. هذه البذور الفكرية نقع عليها، مثلاً، في التحاليل العميقة في شأن الإدراك والخبرة والمخيّلة واللاوعي والشخصية والتبادل الشخصي، والحريّة والقيم، والزمان والتاريخ. وحتى فكرة الموت بإمكانها أن تصبح لكل مفكّر نداءً ملحاً للبحث في مطاوي ذاته. ولكن هذا لا يمنع من أن العلاقة الراهنة بين الإيمان والعقل لا تزال تقتضي جهداً تمحيصيّاً متيقظاً، لأن العقل والإيمان كلاهما قد افتقرا وضعُفا الواحد تجاه الآخر. فالعقل الذي حُرِم رِفد الوحي راح يخبط في دروب جانبية بإمكانها أن تثنيه عن رؤية هدفه الأخير. والإيمان، بدون العقل، أخذ يركّز على الإحساس والاختبار، متعرّضاً لأن تسقط عنه ميزته الشمولية. من العبث إذن التفكير بأن الإيمان يقوى بإزاء عقل ضعيف؛ بل هو يتعرض، بالعكس، لأن يمسي مجرّد أسطورة أو خرافة. وكذلك العقل، إذا لم يواكبه إيمان بالغ، لا يعود يهتم لما هو جديد وجذري في الحياة.
يجب أذن ألاّ يُعتبر نافلاً أن أطلق نداءً قوياً وملِحاًّ ليعود الإيمان والعقل إلى سابق ما كانا عليه من وحدة عميقة تجعلهما متناغمين مع طبيعتيهما مع احترام استقلالية كل منهما. «دالّة» الإيمان توازيها جرأة العقل.
45. مع ظهور الجامعات الأولى، كان لا بدّ للاهوت من أن يواجه، بطريقة مباشرة، أشكالاً أخرى من البحث والمعرفة العلمية. وكان القديس ألبرتس الكبير والقديس توما في طليعة المعترفين بضرورة التسليم باستقلالية الفلسفة والعلم في مجالات أبحاثهما، مع المحافظة على العلاقة العضوية بين اللاهوت والفلسفة. ولكن مع نهاية العصر الوسيط، أخذ الفرق الشرعي بين علمي اللاهوت والفلسفة يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى انفصال مشؤوم. فبسبب ما كان هنالك من روح عقلانية متشدّدة عند بعض المفكرين، تحجّرت المواقف إلى حدّ الوصول، فعلياً، إلى فلسفة معزولة ومستقلّة مطلقاً عن محتوى الإيمان: وبدأت تنمو في النفوس أيضاً، بنتيجة هذا الانفصام، عاطفة متنامية من الحذر تجاه العقل ذاته، فأخذ البعض ينادون بموقف شامل من الحذر والريبة واللاأدرية، وذلك إمّا ليفسحوا للإيمان مجالاً أوسع وإمّا ليندّدوا بكلِّ مرجعيّة عقلانية للإيمان.
وخلاصة القول أن ما توصّل إليه الفكر الآبائي والوسيطي من إقامة وحدة عميقة وفاعلة تُولِّد معرفة قادرة على الوصول إلى أرقى أشكال الفكر النظري، هذا كله قد انهار، عملياً، تحت وطأة المذاهب المنادية بمعرفة عقليّة مفصولة عن الإيمان وتحلّ محلّه.
46. أكثر هذه التصلبات هيمنةً باتت معروفة وظاهرة، وبخاصة في تاريخ الغرب. ولا نغالي في القول إن معظم الفكر الفلسفي المعاصر قد تطوّر متباعداً شيئاً فشيئاً عن الوحي المسيحي إلى حدّ معارضته بطريقة سافرة. وهذا التيار بلغ شأوه في القرن الفائت. بعض ممثلي الفلسفة المثالية سعوا، بكل الطرق، إلى تحويل الإيمان ومحتواه، بما في ذلك سرّ موت يسوع المسيح وقيامته، إلى مقولات جدلية في متناول الإدراك العقلي. هذه الفكرة تصدّت لها بعض أشكالٍ من الأنسِية الملحدة المبنيّة فلسفياً التي صوّرت الإيمان بصورة الخطر الوبيل الذي يتهدّد العقلانيّة في تطوّرها الكامل. هذه التيارات لم تخش الظهور للناس بمظهر ديانات جديدة أمست مرتكزات لخططٍ سياسية واجتماعية أدّت إلى قيام أنظمة توتالية خلّفت للبشرية صدمة عنيفة.
في إطار البحث العلمي توصّلت تلك المذاهب الفلسفية إلى فرض ذهنية وضعيّة لم تكتفِ بالابتعـاد عن كل نظرة مسيحية إلى العالم، بل أهملت أيضاً وخصوصاً كل مرجعيّة إلى أي رؤية ميتافيزيقية وأخلاقية. وبالتالي، فهناك قبضة من رجال العلم فقدوا كل مرجعيّة أدبيّة فلم يعد الإنسان ومجمل حياته محور اهتمامهم. وينضاف إلى ذلك أن بعضاً منهم، لعلمهم بالطاقات المخزونة في التطوّر التكنولوجي، أخذوا ينقادون لا لمقتضيات السوق بل لما تسوّله لهم نفوسهم من تسلّط مقتدر على الطبيعة وعلى الكائن البشري نفسه.
هناك أخيراً العدمية التي جاءت نتيجة أزمة العقلانية. وقد أفلحت، بوصفها فلسفة العدم، في أن تخلب أذهان معاصرينا. ويعتنق مناصروها نظرية البحث لأجل البحث، بدون أملٍ وبدون أي إمعان للتوصل إلى الحقيقة. في نظر التأويل العدمي، ليس الوجود سوى سانحة يختبر فيها الإنسان من الأحاسيس والخبرات ما يجعل للفانيات المكان الأول. العدمية هي مصدر العقلية الشائعة والقاضية بأن على الإنسان ألاّ يتقيّد بالتزام دائم. ولا غرو فكل شيء عابر ووقتي.
47. ويجب ألاّ ننسى، من جهة أخرى، أن دور الفلسفة نفسه قد تغيّر في الثقافة المعاصرة؛ فمن كونها حكمة وعلماً شاملاً انحدرت شيئاً فشيئاً لتمسي مجرّد حيّز من حيّزات المعرفة البشرية الكثيرة، لا بل قُصِرت مهمتها، في بعض وجوهها، إلى مجرّد دور هامشي. في هذه الأثناء، ترسَّخت أشكال أخرى من النشاط العقلاني بقوة متزايدة، وهدفها التركيز على هامشية العلم الفلسفي. هذه الأشكال العقلانية تنـزع أو بإمكانها أن تنـزع إلى أن تكون «وسيلة وظيفية» في خدمة الأهداف المنفعية، أهداف الامتلاك أو التسلط، بدلاً من أن تتجه إلى تأمل الحقيقة والبحث عن الغاية الأخيرة ومعنى الحياة.
في أولى رسائلي العامة لفتُّ النظر إلى خطر اعتبار هذه الطريقة أمراً مطلقاً، وكتبت في هذا الشأن: «إنسان اليوم يبدو دائماً مهدّداً بما يصنعه، أي بنتيجة عمل يديه، وبالأكثر بعمل ذهنه ونزعات إرادته. ثمار هذه النشاطات المتنوّعة التي يقوم بها الإنسان لا تُنتزع فقط من بين يديه، بطريقة سريعة وغير منتظرة، بل ترتدّ أحياناً بنتائجها على الإنسان نفسه ولو بطريقة جزئية وغير مباشرة، فتتوجه أو يمكن أن تتوجه ضده. على هذا يقوم ربما الفصل الأساسي من مأساة الوجود البشري اليوم في بعده الأوسع والأشمل. فالإنسان يعيش أكثر فأكثر في دوامة الخوف؛ إنه يخشى أن ترتد عليه منتوجاته، لا كلها طبعاً ولا معظمها بل بعضها، وبخاصة تلك التي تتضمن جزءاً ملحوظاً من عبقريته وقدرته الخلاقة»[53].
من جراء هذه التغيّرات الثقافيّة، أعرَض بعض الفلاسفة عن التماس الحقيقة في ذاتها واتخذوا لهم هدفاً وحيداً الحصول على يقين شخصي أو على منفعة عملية؛ فنتج عن ذلك ادلهمام العقل في كرامته الحقيقية وعجزُه عن معرفة الحق والبحث عن المطلق.
48. إن ما يتبيّن من هذه الحقبة الأخيرة من تاريخ الفلسفة هو الفصام المتزايد بين الإيمان والعقل الفلسفي. ومع ذلك لا يخفى على المراقب المتنبّه ما يبدو أحياناً، حتى عند الفلاسفة الذين ساهموا في توسيع الهوّة بين الإيمان والعقل، من بذور فكرية نفيسة بإمكانها أن تساعد في الكشف عن طريق الحقيقة، إذا مُحِّصت وطُوِّرت باستقامة ذهن ونزاهة قلب. هذه البذور الفكرية نقع عليها، مثلاً، في التحاليل العميقة في شأن الإدراك والخبرة والمخيّلة واللاوعي والشخصية والتبادل الشخصي، والحريّة والقيم، والزمان والتاريخ. وحتى فكرة الموت بإمكانها أن تصبح لكل مفكّر نداءً ملحاً للبحث في مطاوي ذاته. ولكن هذا لا يمنع من أن العلاقة الراهنة بين الإيمان والعقل لا تزال تقتضي جهداً تمحيصيّاً متيقظاً، لأن العقل والإيمان كلاهما قد افتقرا وضعُفا الواحد تجاه الآخر. فالعقل الذي حُرِم رِفد الوحي راح يخبط في دروب جانبية بإمكانها أن تثنيه عن رؤية هدفه الأخير. والإيمان، بدون العقل، أخذ يركّز على الإحساس والاختبار، متعرّضاً لأن تسقط عنه ميزته الشمولية. من العبث إذن التفكير بأن الإيمان يقوى بإزاء عقل ضعيف؛ بل هو يتعرض، بالعكس، لأن يمسي مجرّد أسطورة أو خرافة. وكذلك العقل، إذا لم يواكبه إيمان بالغ، لا يعود يهتم لما هو جديد وجذري في الحياة.
يجب أذن ألاّ يُعتبر نافلاً أن أطلق نداءً قوياً وملِحاًّ ليعود الإيمان والعقل إلى سابق ما كانا عليه من وحدة عميقة تجعلهما متناغمين مع طبيعتيهما مع احترام استقلالية كل منهما. «دالّة» الإيمان توازيها جرأة العقل.
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 10:12 pm
الفصل الخامس
تدخلات السلطة التعليمية
في نطاق-الفلسفة
السلطة التعليمية في خدمة الحقيقة
49. الكنيسة لا تقترح فلسفتها الخاصة ولا تكرّس أي فلسفة على حساب الفلسفات الأخرى[54]. إن ما يعلّل في العمق هذا التحفّظ هو أن الفلسفة، حتى في علاقتها باللاهوت، يجب أن تعتمد وسائلها وقواعدها الخاصة؛ وإلاّ لم يبق لها ما يضمن شخوصها إلى الحقيقة ونزوعها إليها بأسلوب عقلاني يمكن التحقق منه. كل فلسفة لا تسير في ضؤ العقل، طبقاً لمبادئها الخاصة وأساليبها المميّزة، لا تجدي نفعاً كثيراً. وقصارى القول أن الاستقلالية التي تنعم بها الفلسفة مصدرها كون العقل، بطبيعته، مشدوداً إلى الحقيقة، ويملك من الوسائل ما يمكنّه من الوصول إليها. كل فلسفة تعي «نظامها التكويني» لا يمكنها إلاّ أن تحترم أيضاً مقتضيات الحقيقة الموحاة ومسلماتها.
ولكن التاريخ أظهر ما ارتطم به مراراً الفكر الفلسفي، وبخاصة الفكر المعاصر، من انحرافات وأخطاء. ليس من مهمات السلطة التعليميّة ولا من صلاحياتها أن تردم ثغرات خطاب فلسفي متعثر. إلاّ أن من واجبها أن تتصدى بقوّة ووضوح لكل طرح فلسفي مشبوه يهدّد فهم الوحي بوجه صحيح ولكل نظرية مزيَّفة ومنحازة تنشر من الأضاليل الخطيرة ما يبلبل إيمان شعب الله ويعكّر صفوه وبساطته.
50. السلطة التعليمية في الكنيسة بإمكانها إذن بل من واجبها أن تمارس، في ضؤ الإيمان، ما أوتيت من سلطة التمييز والنقد، تجاه الفلسفات والنظريات التي تناقض العقيدة المسيحية[55]. من حق السلطة التعليمية أن تحدّد، قبل كل شيء، ما هي المفترضات وما هي الخلاصات التي لا تتناغم مع الحقيقة الموحاة، وتوضح، بالتالي، المقتضيات التي تُلزم الفلسفة من وجهة نظر الإيمان. وينضاف إلى ذلك ما ظهر، في تطوّر العلم الفلسفي، من مدارس فكرية متنوعة. هذه التعدّدية تضع السلطة التعليمية تجاه مسؤوليتها في التعبير عن حكمها في شأن النظريات الأساسية التي تعتمدها هذه المدارس ومدى تناغمها أو تنافرها مع مقتضيات كلام الله والفكر اللاهوتي.
من واجب الكنيسة أن تبيّن ما يمكن أن يبدو منافياً للإيمان في كل نظام فلسفي. هناك قضايا فلسفية كثيرة كقضية الله مثلاً والإنسان وحريته ومسلكيته تمسّ الكنيسة مباشرة بسبب علاقتها بالحقيقة الموحاة التي أقيمت عليها وكيلة. عندما نضطلع بواجب هذا التمييز، نحن الأساقفة، علينا أن نكون «شهود الحقيقة» في ممارسة خدمة متواضعة وحازمة يجب على كل فيلسوف أن يقدّرها حق قدرها لفائدة العقل السوي أي العقل الذي يعقل الحقيقة بطريقة صحيحة.
51. هذا التمييز يجب ألاّ يُفهم أولاًّ في صورته السلبية، كما لو كانت نية السلطة التعليميّة أن تلغي أو أن تقلّص كل وساطة ممكنة. تدخلاتها تهدف بالعكس وأوّلاً إلى حث الفكر الفلسفي وتعزيزه وتشجيعه. ثم إن الفلاسفة هم أول من يتفهم ضرورة النقد الذاتي وتصحيح ما هنالك من أخطاء، وكذلك ضرورة تخطي الحدود الضيقة التي انصهر فيها فكرهم. ولا بد من أن ندرك، بوجه خاصّ، أن الحقيقة واحدة وإن تأثرت تعابيرها ببصمات التاريخ، وإن كانت، بالإضافة إلى ذلك، من صنع عقل بشري جرحته الخطيئة وأضعفته. وينتج عن ذلك أن ليس هناك من شكل تاريخي من أشكال الفلسفة يمكنه أن يدّعي الإحاطة بالحقيقة كلها ولا أن يفسّر بطريقة وافية سرّ الكائن البشري والعالم والعلاقة بين الإنسان والله.
واليوم، بسبب تعدّد المذاهب والأنماط والمقولات والتدليلات الفلسفية المعقّدة إلى آخر حدود التعقيد، أصبح من الضرورة الملحة إجراء تمييز ناقد في ضؤ الإيمان. هذا التمييز ليس بالأمر السهل؛ فلئن كان من الصعب الإقرار بما يملكه العقل من طاقات فطرية راهنة، ومحدوديات تكوينية وتاريخية، فإنه من المشكل أكثر أن نميّز ما تقترحه النظريات الفلسفية الخاصة من طروحات قيّمة ونافعة بالنسبة إلى الإيمان، أو بالعكس، من مفاهيم خطيرة وزائفة. وعلى كلٍ، فالكنيسة تعلم أن «كنوز الحكمة والمعرفة» مكنونة في المسيح (قول 2، 4)، وهذا ما يدفعها إلى حث الفكر الفلسفي وتشجيعه، لئلاَّ يُسدَّ في وجهه طريق معرفة السرّ الإلهي.
52. وليس بدعاً أن تتدخل السلطة التعليمية للتعبير عن رأيها في بعض التعاليم الفلسفية المحدّدة. حسبنا التذكير ببعض الأمثلة عبر القرون، كالمواقف التي اتخذتها من النظريات القائلة بالنفوس السابقة الوجود[56] أو من مختلف أشكال عبادة الأصـنام والباطنيـة الخرافية المتضمنـة في طروحات علم الفلك[57]، هذا ما عدا النصوص المنهجية ضد بعض طروحات الرشدية اللاتينية، التي لا تتماشى مع الإيمان المسيحي[58].
لئن سُمع صوت السلطة التعليمية أكثر، منذ منتصف القرن الأخير، فذلك بأن كثيراً من الكاثوليك، في هذه الحقبة، شعروا بواجب التصدي لمختلف تيارات الفكر المعاصر ومواجهتها بفلسفتهم الخاصة. عند هذا الحدّ، أصبح من واجب السلطة التعليمية في الكنيسة أن تسهر على هذه الفلسفات وتحول دون انحرافها، هي أيضاً، في أشكال زائفة وسلبية. وهكذا ندّدت الكنيسة بطريقة متوازية: بالإيمانية[59] والتقليديّة الجذرية[60]، من جهة، وذلك بسبب ارتيابهما بقدرات العقل الطبيعية؛ وبالعقلانية[61] والأنطولوجية[62]، من جهة أخرى، لأنهما ينسبان إلى العقل الطبيعي ما لا يمكن معرفته إلاّ في ضؤ الإيمان. إن ما ترسّب من هذا الجدل من محتوى إيجابي كان موضوع بيان عضوي في الدستور العقائدي «ابن الإنسان» الذي عالج فية لأول مرة، وبطريقة رسمية، مجمعٌ مسكونيٌ–وهو المجمع الفاتيكاني الأول–العلاقات بين العقل والإيمان. إن ما ورد في هذا النص من تعليم قد دفع البحث الفلسفي، لدى الكثيرين من المؤمنين، دفعاً قوياً وإيجابياً، ولا يزال حتى اليوم مرجعاً وقاعدة لكل فكر مسيحي سليم ونظيم، في هذا المضمار الخاص.
53. تصريحات السلطة التعليمية لم تهتم بطروحات فلسفية خاصة بقدر اهتمامها بضرورة المعرفة العقلية، ومن ثم بضرورة السعي الفلسفي إلى مفهومية الإيمان. إن المجمع الفاتيكاني الأول الذي جَمَعَ وثبَّت رسمياً التعاليم التي عرضتها السلطة الحبرية على المؤمنين، بطريقة عادية ومستمرة، قد نوّه بأن معرفة الله الطبيعية والوحي وكذلك العقل والإيمان هما أمران متلازمان ومتمايزان في آن واحد. لقد انطلق المجمع من مقتضى أساسي يفترضه الوحي نفسه، وهو قدرة الإنسان على معرفة وجود الله، مبدأ وغاية كل شيء، معرفة طبيعية[63]، وخلص إلى الإعلان الرسمي الذي أوردناه سابقاً: «ثمة مرتبتان للمعرفة متميزتان لا بالمصدر وحسب بل بالموضوع أيضاً»[64]. كان لا بدّ إذن من التأكيد، خلافاً لكل شكل من أشكال العقلانية، على الفرق بين أسرار الإيمان والكشوف الفلسفية، وكذلك على سموّ وتقدّم الأولى على الثانية. وكان لا بدّ، من جهة أخرى، من أن تُؤَكَّد،َ ضد الإيمانية المتطرفة، وحدةُ الحقيقة، وبالتالي المساهمة الإيجابية التي بإمكان المعرفة العقلية، بل من واجبها أن ترفد بها المعرفة الإيمانية: «ولكن، مع أن الإيمان يعلو على العقل، لا يمكن أن يكون هناك البتة خلاف حقيقي بين الإيمان والعقل، وذلك بأن الله هو نفسه الذي يوحي الأسرار ويهب الإيمان والذي ينـزل على النفس البشرية نور العقل: فالله لا يمكن أن ينكر ذاته، ولا الحق أن ينكر الحق»[65].
54. في عصرنا أيضاً، عادت السلطة التعليمية مراراً إلى معالجة هذا الموضوع فحذَّرت المؤمنين من تجربة الوقوع في العقلانية. في مثل هذه القرائن يجب أن ندرج تعاليم البابا القديس بيوس العاشر الذي بيّن بوضوح ارتكاز العصرانية على المقولات الفلسفية السائرة في اتجاه الظهرانية واللاأديّة والحلولية[66]. ولا يمكن أن ننسى أيضاً رفض الكنيسة الكاثوليكية للفلسفة المركسية والشيوعية الملحدة[67].
وقد أسمع البابا بيوس الثاني عشر أيضاً صوتة عندما حذّر، في رسالته العامة «الجنس البشري»، من التآويل الزائفة المرتبطة بطروحات التطوريّة والوجودية والتاريخانية. وأوضح أن هذه الطروحات لم تكن من صوغ ولا من طرح رجال لاهوتيين، بل تسرَّبت من «خارج حظيرة المسـيح»[68]؛ وأضاف أن هذه الانحرافات لا يكفي انتباذها، بل يجب فحصها بطريقة نقدية: «إن اللاهوتيين والفلاسفة الكاثوليك الذين يحملون عبء الذود عن الحقيقة البشرية والإلهية لا يمكنهم أن يجهلوا ولا أن يُهملوا هذه النظرية التي تنأى قليلاً أو كثيراً عن السراط القويم. لا بل عليهم، فضلاً عن ذلك، أن يعرفوها حق المعرفة، وذلك أولاً لأن الأمراض لا تُعالَج إلاً إذا وُقِف على أمرها وقوفاً محكماً، وثانياً لأن المقولات الزائفة نفسها تنطوي أحياناً على بعضٍ من حقيقة، وأخيراً لأن هذه المقولات نفسها تدعو الذهن إلى تفحّص بعض الحقائق الفلسفية واللاهوتية وتأمُّلها بمزيد من العناية»[69].
في الحقبة الأخيرة، اضطُر مجمع عقيدة الإيمان، بحافزٍ من مسؤوليته المميّزة في خدمة السلطة التعليمية الشاملة التي ينعم بها الحبر الروماني[70]، أن يعمد أيضاً إلى التحذير من خطر التسليم، بلا نقد، من قبل بعض لاهوتيّي التحرير، بالطروحات والمنهجيات المنبثقة عن المركسية[71].
لقد مارست السلطة التعليمية إذن، في الماضي، مراراً وتكراراً، وبأساليب متنوعة، واجبها التمحيصي في المجال الفلسفي. وكل ما صدر عن أسلافي الأجلاء، في هذا الشأن، هو بمثابة مساهمة نفيسة لا يمكن أن ننساها.
55. إذا تفحَّصنا وضعنا الراهن، اتضح لنا أن معضلات الماضي تتكرّر، ولكن في أشكال جديدة. فنحن لم نعد بإزاء معضلات محصورة في أفراد أو فئات معيّنين، بل بإزاء يقينيات مبثوثة في المحيط في شبه ذهنيّة منتشرة. من قبيل ذلك مثلاً ما نلحظه من ارتياب تجاه العقل، في كثير من التطوّرات الحديثة في الأبحاث الفلسفية. وقد بدأ الحديث، من جهات متعدّدة، عن «نهاية الميتافيزياء»: وكأن المطلوب أن تكتفي الفلسفة بالمهمات المتواضعة، أي بمجرّد تأويل الوقائع، ومجرّد البحث في نطاقات محدّدة من المعرفة البشرية أو في بنياتها.
وحتى في نطاق اللاهوت، بدأت تطفو ثانية المسوّلات القديمة. ففي بعض النظريات اللاهوتية المعاصرة، مثلاً، أخذ يتطوّر ثانية شكل من أشكال العقلانية، وخصوصاً عندما أخذت بعض المقولات المحسوبة راسخة من الوجهة الفلسفية تُعتبر من قواعد البحث اللاهوتي. وهذا ما يحدث أولاً عندما يستسلم اللاهوتي، بسبب خللٍ في كفايته الفلسفية، وبمنأى عن كل نظرة نقديّة، لمزاعم أصبحت جزءاً لا يتجزأ من اللغة والثقافة السائدتين، مع كونهما براء من كل أساس عقلي كافٍ[72].
ونلحظ أيضاً أخطار الانضواء ثانية إلى الإيمانية، التي تنكر أهمية المعرفة العقلانيّة والخطاب الفلسفي لفهم الإيمان، بل حتى لإمكان الإيمان بالله. ومن أشكال هذه النـزعة الإيمانية المنتشرة اليوم، البيبلية التي تسعى إلى جعل قراءة الكتاب المقدس أو تفسيره المرجع الصحيح الأوحد. ويصبح هكذا كلام الله محصوراً في الكتاب المقدّس، ويسقط بذلك تعليم الكنيسة الذي ثبَّته المجمع الفاتيكاني الثاني بطريقة صريحة. فمن بعد أن ذكّر المجمع بأن كلام الله متضمّن، على السواء، في النصوص المقدّسة وفي التقليد[73]، عاد وأكد بقوة في الدستور العقائدي «كلمة الله»: «التقليد المقدّس والكتاب المقدّس هما المستودع المقدّس الأوحد لكلام الله الموكول إلى الكنيسة؛ فعندما يعتنقه الشعب المقدّس برمّته متحداً برعاته فهو يعبّر بذلك عن خالص تعلّقه بتعليم الرسل»[74]. فالكتاب المقدّس، في نظر الكنيسة، ليس هو المرجع الوحيد. «فقاعدة الإيمان العليا»[75] تستمدها من الوحدة التي حققها الروح بين التقليد المقدّس والكتاب المقدس والسلطة التعليمية في الكنيسة، بحيث لا يمكن لأيٍ من هذه المراجع الثلاثة أن يستمرّ بطريقة مستقلة»[76].
ويجب، بالإضافة إلى ذلك، ألاّ نقلّل من الخطر الكامن في استخراج حقيقة الكتاب المقدس عن طريق منهجيّة مفردة بصرف النظر عن ضرورة اعتماد طريقة تفسيريّة أوسع تمكّن من الوصول، مع الكنيسة كلها، إلى ملء معنى النصوص. إن الذين يتفرغون لدرس الكتب المقدّسة، يجب ألاّ يغيب عن ذهنهم أن المنهجيات التفسيرية المختلفة ترتكز هي أيضاً على نظرية ما من النظريات الفلسفية، يحسن فحصها وتمحيصها قبل تطبيقها على النصوص المقدّسة.
ثمة أشكال أخرى من الإيمانية المتسترة، تُعرف بقلة اعتبارها للاهوت النظري، كما تُعرف أيضاً بازدرائها للفلسفة الكلاسيكية، مع العلم بأن اللاهوت النظري والفلسفة الكلاسيكية هما النبع الذي استقت منه الكنيسة مفرداتها للتعبير عن المفاهيم العقائدية المعتمدة في فهم الإيمان. البابا بيوس الثاني عشر المطوّب الذكر قد حذّر من مثل هذا الإغضاء عن التقليد الفلسفي كما حذّر من مغبّة التخلي عن التعابير التقليدية[77].
56. خلاصة القول أننا نلحظ حذراً متواتراً من المقولات الجامعة والمطلقة، وخصوصاً من قبل الذين يعتقدون أن الحقيقة إنما هي نتيجة الإجماع لا نتيجة التطابق بين العقل والغرض الموضوعي. من المفهوم، ولا شك، أن نلقى شيئاً من الصعوبة، وسط عالم حافل بالتخصصات، في الإقرار بما تتميّز به الحياة من معنىً كامل وأخير، بات هو الغرض الذي توخَّته الفلسفة في سعيها التقليدي. ومع ذلك لا يسعني، في ضؤ الإيمان الذي يتوسّم في يسوع المسيح هذا المعنى الأخير، إلاّ أن أشجِّع الفلاسفة، المسيحيين وغيرهم، على أن يثقوا بقدرات العقل البشري وألاّ يكتفوا بأهداف متواضعة في تفكيرهم الفلسفي. أمثولة تاريخ هذا الألف الذي نشرف على نهايته تشهد بأن هذه هي الطريقة التي يجب انتهاجها: يجب ألاّ نفقد الشغف بالحقيقة القصوى والاندفاع في البحث مقرونين بالجرأة على ارتياد طرق جديدة. الإيمان هو الذي يحث العقل على أن يخرج من عزلته ويغامر في سبيل الجمال والجودة والحق. وهكذا يصبح الإيمان هو المحامي عن العقل مقتنعاً ومقنعاً.
اهتمام الكنيسة بالفلسفة
57. في كل الأحوال، لم تكتف السلطة التعليمية في الكنيسة بالتنبيه على الأخطاء والانحرافات في التعاليم الفلسفية، بل أرادت، بنفس الاهتمام، أن تُعيد التأكيد على المبادىء الأساسية لإجراء تجديد صحيح في الفكر الفلسفي، مع الإشارة إلى الطرق العملية التي يجب انتهاجها. في هذا المجال أنجز البابا لاون الثـالث عشر، في رسالته العامة «الآب الأزلي»، خطوة بات لها أثر تاريخي في حياة الكنيسة. هذا النصّ لا يزال حتى اليوم هو الوثيقة الحبريّة الوحيدة، بهذا المستوى، المكرّسة كليّاً للفلسفة. هذا الحبر العظيم استعاد وطوّر ما جاء في المجمع الفاتيكاني الأول في شأن العلاقات بين الإيمان والعقل، مبيّناً أن الفكر الفلسفي إنما هو رافد أساسي للإيمان والعلم اللاهوتي[78]. بعد أكثر من قرن، لا تزال عناصر كثيرة من محتويات هذا النص محتفظة بكل أهميتها من الناحية العملية كما من الناحية التربوية؛ وأهم هذه العناصر ما يتعلّق بفلسفة القديس توما (الأكويني). لقد بدا للبابا لاون الثالث عشر أن العودة إلى التنويه بفكر الملفان الملائكي هي أمثل طريق لنعود ونكتشف نمطاً في استعمال الفلسفة يتلاءم ومقتضيات الإيمان. فالقديس توما–على حدّ ما ورد في الرسالة - «في ذات اللحظة التي يميّز فيها، كما ينبغي، بين الإيمان والعقل تمييزاً كاملاً، نراه يربطهما بربط صداقة متبادلة، فيحفظ لكلٍ منهما حقوقه ويسهر على كرامته»[79].
58. نعلم أن هذا النداء الحبري قد حظي بكثير من النتائج الموفّقة. فالأبحاث في فكر القديس توما وبقيّة المؤلفين المدرسيين عرفت نهضة جديدة. والبحوث التاريخية تحركّت بقوّة، مستتبعة العودة إلى اكتشاف ثروات الفكر الوسيط التي كانت حتى ذاك مغمورة في معظم الأوساط؛ كما أدّت إلى تكوين مدارس توماوية جديدة. اعتماد المنهجية التاريخية أفضى إلى تقدّمات كبيرة في معرفة آثار القديس توما، وكثر عدد الباحثين الذين تجرأوا وأدخلوا التقليد التوماوي في البحوث الجارية على المعضلات الفلسفية واللاهوتية في ذلك العهد. إن أكثر اللاهوتيين الكاثوليك نفوذاً في عصرنا هذا، والذين ساهموا مساهمة جُلىَّ في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني بأفكارهم وبحوثهم، هم من أبناء هذا التجدّد في الفلسفة التوماوية. لقد استطاعت الكنيسة، في غضون القرن العشرين، أن تعوّل هكذا على رهط كبير من أفذاذ المفكرين الذين تربوا في مدرسة الملفان الملائكي.
59. مهما يكن من أمرٍ، فالتجدد التوماوي والتوماوي الجديد لم يكن الدلالة الوحيدة على استعادة الفكر الفلسفي في الثقافة المستلهمة من المسيحيّة. فقبل ذلك، وفي موازاة الدعوة التي أطلقها لاون الثالث عشر، ظهر عدد كبير من الفلاسفة الكاثوليك الذين التحقوا بتيارات فكرية حديثة، ووضعوا مؤلفات فلسفية بات لها أثر كبير وقيمة خالدة، متبّعين في ذلك منهجيّة خاصة. وقد وضع بعضهم خلاصات موصوفة لا تقلُّ أهمية عن المذاهب الكبرى في الفلسفة المثالية. وأرسى آخرون الأسس المعرفيّة في محاولة جديدة لمقاربة الإيمان في ضؤ تصوّر متجدّد للضمير الأدبي. وهناك من وضعوا فلسفة تنطلق من تحليل مبدأ المثولية للوصول إلى الكائن العلويّ. وهناك أخيراً من حاولوا التأليف ما بين مقتضيات الإيمان من زاوية المنهجيّة الظاهرانيّة. إن ما جرى، في الواقع، من ملاحظ مختلفة، إنما هو المثابرة في اعتناق نماذج من التنظير الفلسفي غايتها استمرارية الفكر المسيحي في تأكيد الوحدة بين الإيمان والعقل، وهو تقليد مسيحي كبير.
60. وقد أورد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، من جهته، تعليماً ثرياً وخصيباً جداً، في شأن الفلسفة. ولا يسعني أن أنسى، وبخاصة في هذا الموضع من الرسالة، أن فصلاً كاملاً من الدستور العقائدي «فرح ورجاء» يتضمن شبه ملخصٍ للأنتروبولوجيّة البيبلية نجد فيه أيضاً مصدر إلهام للفلسفة. هذه الصفحات تعالج قيمة الشخص البشري المخلوق على صورة الله، وتبيّن كرامته وسموّه على باقي الخلق وتُظهِر ما يتميّز به عقله من قدرة سامية[80]. وقد أتى الدستور العقائدي «فرح ورجاء» على ذكـر معـضلة الإلحاد وحدّد معالمها، وبخاصة بالنظر إلى ما يتمتع به الإنسان من كرامة وحريّة لا يرقى إليهما مساس[81]. هذه الصفحات تكتسي، ولا شك، في قمة مضامينها، معنىً فلسفياً عميقاً، استعَدتُه في رسالتي الأولى «فادي الإنسان» واعتبره من ثوابت مراجعي التعليميّة: «الواقع ان سرَّ الإنسان لا يستضيء حقاً إلاّ في سرّ الكلمة المتجسد. وذلك بأن آدم، الإنسان الأول، كان صورة الإنسان الآتي، أي المسيح الرب. إن آدم الجديد أي المسيح، عندما يكشف لنا سرّ الآب ومحبته، إنما يظهر للإنسان ملء ذاته ويكشف له دعوته السامية»[82].
تدخلات السلطة التعليمية
في نطاق-الفلسفة
السلطة التعليمية في خدمة الحقيقة
49. الكنيسة لا تقترح فلسفتها الخاصة ولا تكرّس أي فلسفة على حساب الفلسفات الأخرى[54]. إن ما يعلّل في العمق هذا التحفّظ هو أن الفلسفة، حتى في علاقتها باللاهوت، يجب أن تعتمد وسائلها وقواعدها الخاصة؛ وإلاّ لم يبق لها ما يضمن شخوصها إلى الحقيقة ونزوعها إليها بأسلوب عقلاني يمكن التحقق منه. كل فلسفة لا تسير في ضؤ العقل، طبقاً لمبادئها الخاصة وأساليبها المميّزة، لا تجدي نفعاً كثيراً. وقصارى القول أن الاستقلالية التي تنعم بها الفلسفة مصدرها كون العقل، بطبيعته، مشدوداً إلى الحقيقة، ويملك من الوسائل ما يمكنّه من الوصول إليها. كل فلسفة تعي «نظامها التكويني» لا يمكنها إلاّ أن تحترم أيضاً مقتضيات الحقيقة الموحاة ومسلماتها.
ولكن التاريخ أظهر ما ارتطم به مراراً الفكر الفلسفي، وبخاصة الفكر المعاصر، من انحرافات وأخطاء. ليس من مهمات السلطة التعليميّة ولا من صلاحياتها أن تردم ثغرات خطاب فلسفي متعثر. إلاّ أن من واجبها أن تتصدى بقوّة ووضوح لكل طرح فلسفي مشبوه يهدّد فهم الوحي بوجه صحيح ولكل نظرية مزيَّفة ومنحازة تنشر من الأضاليل الخطيرة ما يبلبل إيمان شعب الله ويعكّر صفوه وبساطته.
50. السلطة التعليمية في الكنيسة بإمكانها إذن بل من واجبها أن تمارس، في ضؤ الإيمان، ما أوتيت من سلطة التمييز والنقد، تجاه الفلسفات والنظريات التي تناقض العقيدة المسيحية[55]. من حق السلطة التعليمية أن تحدّد، قبل كل شيء، ما هي المفترضات وما هي الخلاصات التي لا تتناغم مع الحقيقة الموحاة، وتوضح، بالتالي، المقتضيات التي تُلزم الفلسفة من وجهة نظر الإيمان. وينضاف إلى ذلك ما ظهر، في تطوّر العلم الفلسفي، من مدارس فكرية متنوعة. هذه التعدّدية تضع السلطة التعليمية تجاه مسؤوليتها في التعبير عن حكمها في شأن النظريات الأساسية التي تعتمدها هذه المدارس ومدى تناغمها أو تنافرها مع مقتضيات كلام الله والفكر اللاهوتي.
من واجب الكنيسة أن تبيّن ما يمكن أن يبدو منافياً للإيمان في كل نظام فلسفي. هناك قضايا فلسفية كثيرة كقضية الله مثلاً والإنسان وحريته ومسلكيته تمسّ الكنيسة مباشرة بسبب علاقتها بالحقيقة الموحاة التي أقيمت عليها وكيلة. عندما نضطلع بواجب هذا التمييز، نحن الأساقفة، علينا أن نكون «شهود الحقيقة» في ممارسة خدمة متواضعة وحازمة يجب على كل فيلسوف أن يقدّرها حق قدرها لفائدة العقل السوي أي العقل الذي يعقل الحقيقة بطريقة صحيحة.
51. هذا التمييز يجب ألاّ يُفهم أولاًّ في صورته السلبية، كما لو كانت نية السلطة التعليميّة أن تلغي أو أن تقلّص كل وساطة ممكنة. تدخلاتها تهدف بالعكس وأوّلاً إلى حث الفكر الفلسفي وتعزيزه وتشجيعه. ثم إن الفلاسفة هم أول من يتفهم ضرورة النقد الذاتي وتصحيح ما هنالك من أخطاء، وكذلك ضرورة تخطي الحدود الضيقة التي انصهر فيها فكرهم. ولا بد من أن ندرك، بوجه خاصّ، أن الحقيقة واحدة وإن تأثرت تعابيرها ببصمات التاريخ، وإن كانت، بالإضافة إلى ذلك، من صنع عقل بشري جرحته الخطيئة وأضعفته. وينتج عن ذلك أن ليس هناك من شكل تاريخي من أشكال الفلسفة يمكنه أن يدّعي الإحاطة بالحقيقة كلها ولا أن يفسّر بطريقة وافية سرّ الكائن البشري والعالم والعلاقة بين الإنسان والله.
واليوم، بسبب تعدّد المذاهب والأنماط والمقولات والتدليلات الفلسفية المعقّدة إلى آخر حدود التعقيد، أصبح من الضرورة الملحة إجراء تمييز ناقد في ضؤ الإيمان. هذا التمييز ليس بالأمر السهل؛ فلئن كان من الصعب الإقرار بما يملكه العقل من طاقات فطرية راهنة، ومحدوديات تكوينية وتاريخية، فإنه من المشكل أكثر أن نميّز ما تقترحه النظريات الفلسفية الخاصة من طروحات قيّمة ونافعة بالنسبة إلى الإيمان، أو بالعكس، من مفاهيم خطيرة وزائفة. وعلى كلٍ، فالكنيسة تعلم أن «كنوز الحكمة والمعرفة» مكنونة في المسيح (قول 2، 4)، وهذا ما يدفعها إلى حث الفكر الفلسفي وتشجيعه، لئلاَّ يُسدَّ في وجهه طريق معرفة السرّ الإلهي.
52. وليس بدعاً أن تتدخل السلطة التعليمية للتعبير عن رأيها في بعض التعاليم الفلسفية المحدّدة. حسبنا التذكير ببعض الأمثلة عبر القرون، كالمواقف التي اتخذتها من النظريات القائلة بالنفوس السابقة الوجود[56] أو من مختلف أشكال عبادة الأصـنام والباطنيـة الخرافية المتضمنـة في طروحات علم الفلك[57]، هذا ما عدا النصوص المنهجية ضد بعض طروحات الرشدية اللاتينية، التي لا تتماشى مع الإيمان المسيحي[58].
لئن سُمع صوت السلطة التعليمية أكثر، منذ منتصف القرن الأخير، فذلك بأن كثيراً من الكاثوليك، في هذه الحقبة، شعروا بواجب التصدي لمختلف تيارات الفكر المعاصر ومواجهتها بفلسفتهم الخاصة. عند هذا الحدّ، أصبح من واجب السلطة التعليمية في الكنيسة أن تسهر على هذه الفلسفات وتحول دون انحرافها، هي أيضاً، في أشكال زائفة وسلبية. وهكذا ندّدت الكنيسة بطريقة متوازية: بالإيمانية[59] والتقليديّة الجذرية[60]، من جهة، وذلك بسبب ارتيابهما بقدرات العقل الطبيعية؛ وبالعقلانية[61] والأنطولوجية[62]، من جهة أخرى، لأنهما ينسبان إلى العقل الطبيعي ما لا يمكن معرفته إلاّ في ضؤ الإيمان. إن ما ترسّب من هذا الجدل من محتوى إيجابي كان موضوع بيان عضوي في الدستور العقائدي «ابن الإنسان» الذي عالج فية لأول مرة، وبطريقة رسمية، مجمعٌ مسكونيٌ–وهو المجمع الفاتيكاني الأول–العلاقات بين العقل والإيمان. إن ما ورد في هذا النص من تعليم قد دفع البحث الفلسفي، لدى الكثيرين من المؤمنين، دفعاً قوياً وإيجابياً، ولا يزال حتى اليوم مرجعاً وقاعدة لكل فكر مسيحي سليم ونظيم، في هذا المضمار الخاص.
53. تصريحات السلطة التعليمية لم تهتم بطروحات فلسفية خاصة بقدر اهتمامها بضرورة المعرفة العقلية، ومن ثم بضرورة السعي الفلسفي إلى مفهومية الإيمان. إن المجمع الفاتيكاني الأول الذي جَمَعَ وثبَّت رسمياً التعاليم التي عرضتها السلطة الحبرية على المؤمنين، بطريقة عادية ومستمرة، قد نوّه بأن معرفة الله الطبيعية والوحي وكذلك العقل والإيمان هما أمران متلازمان ومتمايزان في آن واحد. لقد انطلق المجمع من مقتضى أساسي يفترضه الوحي نفسه، وهو قدرة الإنسان على معرفة وجود الله، مبدأ وغاية كل شيء، معرفة طبيعية[63]، وخلص إلى الإعلان الرسمي الذي أوردناه سابقاً: «ثمة مرتبتان للمعرفة متميزتان لا بالمصدر وحسب بل بالموضوع أيضاً»[64]. كان لا بدّ إذن من التأكيد، خلافاً لكل شكل من أشكال العقلانية، على الفرق بين أسرار الإيمان والكشوف الفلسفية، وكذلك على سموّ وتقدّم الأولى على الثانية. وكان لا بدّ، من جهة أخرى، من أن تُؤَكَّد،َ ضد الإيمانية المتطرفة، وحدةُ الحقيقة، وبالتالي المساهمة الإيجابية التي بإمكان المعرفة العقلية، بل من واجبها أن ترفد بها المعرفة الإيمانية: «ولكن، مع أن الإيمان يعلو على العقل، لا يمكن أن يكون هناك البتة خلاف حقيقي بين الإيمان والعقل، وذلك بأن الله هو نفسه الذي يوحي الأسرار ويهب الإيمان والذي ينـزل على النفس البشرية نور العقل: فالله لا يمكن أن ينكر ذاته، ولا الحق أن ينكر الحق»[65].
54. في عصرنا أيضاً، عادت السلطة التعليمية مراراً إلى معالجة هذا الموضوع فحذَّرت المؤمنين من تجربة الوقوع في العقلانية. في مثل هذه القرائن يجب أن ندرج تعاليم البابا القديس بيوس العاشر الذي بيّن بوضوح ارتكاز العصرانية على المقولات الفلسفية السائرة في اتجاه الظهرانية واللاأديّة والحلولية[66]. ولا يمكن أن ننسى أيضاً رفض الكنيسة الكاثوليكية للفلسفة المركسية والشيوعية الملحدة[67].
وقد أسمع البابا بيوس الثاني عشر أيضاً صوتة عندما حذّر، في رسالته العامة «الجنس البشري»، من التآويل الزائفة المرتبطة بطروحات التطوريّة والوجودية والتاريخانية. وأوضح أن هذه الطروحات لم تكن من صوغ ولا من طرح رجال لاهوتيين، بل تسرَّبت من «خارج حظيرة المسـيح»[68]؛ وأضاف أن هذه الانحرافات لا يكفي انتباذها، بل يجب فحصها بطريقة نقدية: «إن اللاهوتيين والفلاسفة الكاثوليك الذين يحملون عبء الذود عن الحقيقة البشرية والإلهية لا يمكنهم أن يجهلوا ولا أن يُهملوا هذه النظرية التي تنأى قليلاً أو كثيراً عن السراط القويم. لا بل عليهم، فضلاً عن ذلك، أن يعرفوها حق المعرفة، وذلك أولاً لأن الأمراض لا تُعالَج إلاً إذا وُقِف على أمرها وقوفاً محكماً، وثانياً لأن المقولات الزائفة نفسها تنطوي أحياناً على بعضٍ من حقيقة، وأخيراً لأن هذه المقولات نفسها تدعو الذهن إلى تفحّص بعض الحقائق الفلسفية واللاهوتية وتأمُّلها بمزيد من العناية»[69].
في الحقبة الأخيرة، اضطُر مجمع عقيدة الإيمان، بحافزٍ من مسؤوليته المميّزة في خدمة السلطة التعليمية الشاملة التي ينعم بها الحبر الروماني[70]، أن يعمد أيضاً إلى التحذير من خطر التسليم، بلا نقد، من قبل بعض لاهوتيّي التحرير، بالطروحات والمنهجيات المنبثقة عن المركسية[71].
لقد مارست السلطة التعليمية إذن، في الماضي، مراراً وتكراراً، وبأساليب متنوعة، واجبها التمحيصي في المجال الفلسفي. وكل ما صدر عن أسلافي الأجلاء، في هذا الشأن، هو بمثابة مساهمة نفيسة لا يمكن أن ننساها.
55. إذا تفحَّصنا وضعنا الراهن، اتضح لنا أن معضلات الماضي تتكرّر، ولكن في أشكال جديدة. فنحن لم نعد بإزاء معضلات محصورة في أفراد أو فئات معيّنين، بل بإزاء يقينيات مبثوثة في المحيط في شبه ذهنيّة منتشرة. من قبيل ذلك مثلاً ما نلحظه من ارتياب تجاه العقل، في كثير من التطوّرات الحديثة في الأبحاث الفلسفية. وقد بدأ الحديث، من جهات متعدّدة، عن «نهاية الميتافيزياء»: وكأن المطلوب أن تكتفي الفلسفة بالمهمات المتواضعة، أي بمجرّد تأويل الوقائع، ومجرّد البحث في نطاقات محدّدة من المعرفة البشرية أو في بنياتها.
وحتى في نطاق اللاهوت، بدأت تطفو ثانية المسوّلات القديمة. ففي بعض النظريات اللاهوتية المعاصرة، مثلاً، أخذ يتطوّر ثانية شكل من أشكال العقلانية، وخصوصاً عندما أخذت بعض المقولات المحسوبة راسخة من الوجهة الفلسفية تُعتبر من قواعد البحث اللاهوتي. وهذا ما يحدث أولاً عندما يستسلم اللاهوتي، بسبب خللٍ في كفايته الفلسفية، وبمنأى عن كل نظرة نقديّة، لمزاعم أصبحت جزءاً لا يتجزأ من اللغة والثقافة السائدتين، مع كونهما براء من كل أساس عقلي كافٍ[72].
ونلحظ أيضاً أخطار الانضواء ثانية إلى الإيمانية، التي تنكر أهمية المعرفة العقلانيّة والخطاب الفلسفي لفهم الإيمان، بل حتى لإمكان الإيمان بالله. ومن أشكال هذه النـزعة الإيمانية المنتشرة اليوم، البيبلية التي تسعى إلى جعل قراءة الكتاب المقدس أو تفسيره المرجع الصحيح الأوحد. ويصبح هكذا كلام الله محصوراً في الكتاب المقدّس، ويسقط بذلك تعليم الكنيسة الذي ثبَّته المجمع الفاتيكاني الثاني بطريقة صريحة. فمن بعد أن ذكّر المجمع بأن كلام الله متضمّن، على السواء، في النصوص المقدّسة وفي التقليد[73]، عاد وأكد بقوة في الدستور العقائدي «كلمة الله»: «التقليد المقدّس والكتاب المقدّس هما المستودع المقدّس الأوحد لكلام الله الموكول إلى الكنيسة؛ فعندما يعتنقه الشعب المقدّس برمّته متحداً برعاته فهو يعبّر بذلك عن خالص تعلّقه بتعليم الرسل»[74]. فالكتاب المقدّس، في نظر الكنيسة، ليس هو المرجع الوحيد. «فقاعدة الإيمان العليا»[75] تستمدها من الوحدة التي حققها الروح بين التقليد المقدّس والكتاب المقدس والسلطة التعليمية في الكنيسة، بحيث لا يمكن لأيٍ من هذه المراجع الثلاثة أن يستمرّ بطريقة مستقلة»[76].
ويجب، بالإضافة إلى ذلك، ألاّ نقلّل من الخطر الكامن في استخراج حقيقة الكتاب المقدس عن طريق منهجيّة مفردة بصرف النظر عن ضرورة اعتماد طريقة تفسيريّة أوسع تمكّن من الوصول، مع الكنيسة كلها، إلى ملء معنى النصوص. إن الذين يتفرغون لدرس الكتب المقدّسة، يجب ألاّ يغيب عن ذهنهم أن المنهجيات التفسيرية المختلفة ترتكز هي أيضاً على نظرية ما من النظريات الفلسفية، يحسن فحصها وتمحيصها قبل تطبيقها على النصوص المقدّسة.
ثمة أشكال أخرى من الإيمانية المتسترة، تُعرف بقلة اعتبارها للاهوت النظري، كما تُعرف أيضاً بازدرائها للفلسفة الكلاسيكية، مع العلم بأن اللاهوت النظري والفلسفة الكلاسيكية هما النبع الذي استقت منه الكنيسة مفرداتها للتعبير عن المفاهيم العقائدية المعتمدة في فهم الإيمان. البابا بيوس الثاني عشر المطوّب الذكر قد حذّر من مثل هذا الإغضاء عن التقليد الفلسفي كما حذّر من مغبّة التخلي عن التعابير التقليدية[77].
56. خلاصة القول أننا نلحظ حذراً متواتراً من المقولات الجامعة والمطلقة، وخصوصاً من قبل الذين يعتقدون أن الحقيقة إنما هي نتيجة الإجماع لا نتيجة التطابق بين العقل والغرض الموضوعي. من المفهوم، ولا شك، أن نلقى شيئاً من الصعوبة، وسط عالم حافل بالتخصصات، في الإقرار بما تتميّز به الحياة من معنىً كامل وأخير، بات هو الغرض الذي توخَّته الفلسفة في سعيها التقليدي. ومع ذلك لا يسعني، في ضؤ الإيمان الذي يتوسّم في يسوع المسيح هذا المعنى الأخير، إلاّ أن أشجِّع الفلاسفة، المسيحيين وغيرهم، على أن يثقوا بقدرات العقل البشري وألاّ يكتفوا بأهداف متواضعة في تفكيرهم الفلسفي. أمثولة تاريخ هذا الألف الذي نشرف على نهايته تشهد بأن هذه هي الطريقة التي يجب انتهاجها: يجب ألاّ نفقد الشغف بالحقيقة القصوى والاندفاع في البحث مقرونين بالجرأة على ارتياد طرق جديدة. الإيمان هو الذي يحث العقل على أن يخرج من عزلته ويغامر في سبيل الجمال والجودة والحق. وهكذا يصبح الإيمان هو المحامي عن العقل مقتنعاً ومقنعاً.
اهتمام الكنيسة بالفلسفة
57. في كل الأحوال، لم تكتف السلطة التعليمية في الكنيسة بالتنبيه على الأخطاء والانحرافات في التعاليم الفلسفية، بل أرادت، بنفس الاهتمام، أن تُعيد التأكيد على المبادىء الأساسية لإجراء تجديد صحيح في الفكر الفلسفي، مع الإشارة إلى الطرق العملية التي يجب انتهاجها. في هذا المجال أنجز البابا لاون الثـالث عشر، في رسالته العامة «الآب الأزلي»، خطوة بات لها أثر تاريخي في حياة الكنيسة. هذا النصّ لا يزال حتى اليوم هو الوثيقة الحبريّة الوحيدة، بهذا المستوى، المكرّسة كليّاً للفلسفة. هذا الحبر العظيم استعاد وطوّر ما جاء في المجمع الفاتيكاني الأول في شأن العلاقات بين الإيمان والعقل، مبيّناً أن الفكر الفلسفي إنما هو رافد أساسي للإيمان والعلم اللاهوتي[78]. بعد أكثر من قرن، لا تزال عناصر كثيرة من محتويات هذا النص محتفظة بكل أهميتها من الناحية العملية كما من الناحية التربوية؛ وأهم هذه العناصر ما يتعلّق بفلسفة القديس توما (الأكويني). لقد بدا للبابا لاون الثالث عشر أن العودة إلى التنويه بفكر الملفان الملائكي هي أمثل طريق لنعود ونكتشف نمطاً في استعمال الفلسفة يتلاءم ومقتضيات الإيمان. فالقديس توما–على حدّ ما ورد في الرسالة - «في ذات اللحظة التي يميّز فيها، كما ينبغي، بين الإيمان والعقل تمييزاً كاملاً، نراه يربطهما بربط صداقة متبادلة، فيحفظ لكلٍ منهما حقوقه ويسهر على كرامته»[79].
58. نعلم أن هذا النداء الحبري قد حظي بكثير من النتائج الموفّقة. فالأبحاث في فكر القديس توما وبقيّة المؤلفين المدرسيين عرفت نهضة جديدة. والبحوث التاريخية تحركّت بقوّة، مستتبعة العودة إلى اكتشاف ثروات الفكر الوسيط التي كانت حتى ذاك مغمورة في معظم الأوساط؛ كما أدّت إلى تكوين مدارس توماوية جديدة. اعتماد المنهجية التاريخية أفضى إلى تقدّمات كبيرة في معرفة آثار القديس توما، وكثر عدد الباحثين الذين تجرأوا وأدخلوا التقليد التوماوي في البحوث الجارية على المعضلات الفلسفية واللاهوتية في ذلك العهد. إن أكثر اللاهوتيين الكاثوليك نفوذاً في عصرنا هذا، والذين ساهموا مساهمة جُلىَّ في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني بأفكارهم وبحوثهم، هم من أبناء هذا التجدّد في الفلسفة التوماوية. لقد استطاعت الكنيسة، في غضون القرن العشرين، أن تعوّل هكذا على رهط كبير من أفذاذ المفكرين الذين تربوا في مدرسة الملفان الملائكي.
59. مهما يكن من أمرٍ، فالتجدد التوماوي والتوماوي الجديد لم يكن الدلالة الوحيدة على استعادة الفكر الفلسفي في الثقافة المستلهمة من المسيحيّة. فقبل ذلك، وفي موازاة الدعوة التي أطلقها لاون الثالث عشر، ظهر عدد كبير من الفلاسفة الكاثوليك الذين التحقوا بتيارات فكرية حديثة، ووضعوا مؤلفات فلسفية بات لها أثر كبير وقيمة خالدة، متبّعين في ذلك منهجيّة خاصة. وقد وضع بعضهم خلاصات موصوفة لا تقلُّ أهمية عن المذاهب الكبرى في الفلسفة المثالية. وأرسى آخرون الأسس المعرفيّة في محاولة جديدة لمقاربة الإيمان في ضؤ تصوّر متجدّد للضمير الأدبي. وهناك من وضعوا فلسفة تنطلق من تحليل مبدأ المثولية للوصول إلى الكائن العلويّ. وهناك أخيراً من حاولوا التأليف ما بين مقتضيات الإيمان من زاوية المنهجيّة الظاهرانيّة. إن ما جرى، في الواقع، من ملاحظ مختلفة، إنما هو المثابرة في اعتناق نماذج من التنظير الفلسفي غايتها استمرارية الفكر المسيحي في تأكيد الوحدة بين الإيمان والعقل، وهو تقليد مسيحي كبير.
60. وقد أورد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، من جهته، تعليماً ثرياً وخصيباً جداً، في شأن الفلسفة. ولا يسعني أن أنسى، وبخاصة في هذا الموضع من الرسالة، أن فصلاً كاملاً من الدستور العقائدي «فرح ورجاء» يتضمن شبه ملخصٍ للأنتروبولوجيّة البيبلية نجد فيه أيضاً مصدر إلهام للفلسفة. هذه الصفحات تعالج قيمة الشخص البشري المخلوق على صورة الله، وتبيّن كرامته وسموّه على باقي الخلق وتُظهِر ما يتميّز به عقله من قدرة سامية[80]. وقد أتى الدستور العقائدي «فرح ورجاء» على ذكـر معـضلة الإلحاد وحدّد معالمها، وبخاصة بالنظر إلى ما يتمتع به الإنسان من كرامة وحريّة لا يرقى إليهما مساس[81]. هذه الصفحات تكتسي، ولا شك، في قمة مضامينها، معنىً فلسفياً عميقاً، استعَدتُه في رسالتي الأولى «فادي الإنسان» واعتبره من ثوابت مراجعي التعليميّة: «الواقع ان سرَّ الإنسان لا يستضيء حقاً إلاّ في سرّ الكلمة المتجسد. وذلك بأن آدم، الإنسان الأول، كان صورة الإنسان الآتي، أي المسيح الرب. إن آدم الجديد أي المسيح، عندما يكشف لنا سرّ الآب ومحبته، إنما يظهر للإنسان ملء ذاته ويكشف له دعوته السامية»[82].
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 10:14 pm
وقد اهتم المجمع أيضاً بتعليم الفلسفة الذي يجب أن يتفرّغ له المرشحون للكهنوت. هذه التوصيات يجب أن تشمل التعليم المسيحي في مجمله. وقد صرّح المجمع في ذلك: «تدرّس العلوم الفلسفية تدريساً يقود الطلاب أولاً إلى تحصيل معرفة عميقة ومتلاحمة الأجزاء للإنسان والعالم والله، معتمدين على التراث الفلسفي ذي القيمة الخالدة، ولا تُغفل البحوث الفلسفية المعاصرة»[83].
هذه التوجيهات جرى تثبيتها وتوضيحها مراراً في وثائق أخرى من السلطة التعليمية، لضمان تنشئة فلسفية متينة وبخاصة للمستعدين للدروس اللاهوتية. وأما أنا فقد نوّهت مراراً كثيرة بأهمية هذه التنشئة الفلسفية لمن يجب عليهم يوماً، في الحياة الرعويّة، أن يواجهوا أحداث العالم المعاصر ويفهموا أسباب بعض التصرفات للردّ عليها بطريقة ميسّرة[84].
61. لئن وجب التدخل في شأن هذا الموضوع، في ظروف مختلفة، مع التأكيد على قيمة الأفكار التي طرحها الملفان الملائكي، وضرورة اقتباس فكره، فقد ارتبط ذلك غالباً بعدم التقيد دائماً بتوجيهات السلطة التعليمية بالطواعية المرجوة. في كثير من المدارس الكاثوليكية، في غضون السنوات التي عقبت المجمع الفاتيكاني الثاني، لوحظ، في هذا الشأن، بعض الذبول الناجم عن تراجع لا في تقدير قيمة الفلسفة المدرسية وحسب، بل بوجه أشمل، في تقدير دراسة الفلسفة ذاتها حق قدرها. لا بدّ لي من أن ألحظ، بشيء من الاستغراب والأسف، أن عدداً من اللاهوتيين ينتحلون هذه اللامبالاة بدرس الفلسفة.
هذه اللامبالاة تعلّلها أسباب متنوعة، لا بدّ من أن نذكر منها أولاً ما يُبديه جزء كبير من الفلسفة المعاصرة من حذرٍ تجاه العقل، مهملاً إهمالاً ذريعاً كل بحث ميتافيزيقي في القضايا الإنسانية القصوى، مع التركيز على المعضلات الخاصة أو المحلية وحتى الشكليّة منها أحياناً. ويجب أن نضيف، علاوة على ذلك، ما حصل خصوصاً من التباس بالنسبة إلى «العلوم الإنسانية». لقد ذكّر المجمع الفاتيكاني الثاني غير مرة بالقيمة الإيجابيّة الناجمة عن كل بحث علمي يتوخى التعمق في سرّ الإنسان[85]. إن الدعوة الموجهة إلى اللاهوتيين ليقفوا على هذه العلوم ويطبّقوها، عند اقتضاء الأمر، تطبيقاً صحيحاً في بحوثهم، يجب ألاّ تفسّر بأنها ترخيص ضمني بتهميش الفلسفة أو بالاستعاضة عنها في التنشئة الرعويّة وفي التمهيد للإيمان. ولا يسوغ لنا أخيراً أن ننسى ما جدّ في عصرنا من اهتمامٍ بانثقاف الإيمان. وقد أتاحت لنا حياة الكنائس الفتية، بوجه خاص، أن نكتشف لا أشكالاً فكرية متطوّرة وحسب، بل وجود مجموعة من تعابير الحكمة الشعبية، تكوّن تراثاً حقيقياً من الثقافات والتقاليد. بيد أن الإكباب على الأعراف التقليدية يجب أن يتماشى مع البحث الفلسفي الذي يمكّننا من إبراز الملامح الإيجابيّة التي تتسم بها الحكمة الشعبية وخلق رُبُطٍ ملزمة بينها وبين البشارة بالإنجيل[86].
62. أود أن أذكِّر بحزمٍ أن درس الفلسفة يكتسي طابعاً أساسياً وأنه لا يسوغ إلغاؤه من بنية الدروس اللاهوتية وتنشئة المرشحين للكهنوت. وليس من باب الصدفة أن تسبق دورةَ الدروس اللاهوتية فترةٌ ينصرف فيها الإكليريكيون إلى درس الفلسفة خصوصاً. هذا الخيار الذي ثبّته المجمع اللاتراني الخامس[87]، تمتد جذوره إلى الخبرة التي نضجت في القرن الوسيط، حيث تبيّنت أهمية العمل على إقامة بنية متناغمة بين العلم الفلسفي والعلم اللاهوتي. نظام الدروس هذا قد طبع وسهّل وحفز، وإن بطريقة غير مباشرة، جزءاً كبيراً من تطوّر الفلسفة المعاصرة. ولنا في ذلك مثال بليغ في الأثر الذي خلّفته «المناظرات الميتافيزيقية» لفرنشسكوا سواريز التي وجدت لها مكاناً حتى في الجامعات اللوثرية الألمانية؛ وبالعكس، فقد أحدث الاستغناء عن هذه المنهجية ثغراتٍ خطيرة في التنشئة الكهنوتية كما في البحث اللاهوتي. ويكفي التفكير، مثلاً، باللامبالاة بالفكـر والثقافة المعاصرَين وما أدّت إليه من انغلاق على كل شكل من أشكال الحوار أو من استسلام لكل فلسفة بدون تمحيص.
إني آمل من صميم قلبي أن نتخطىّ هذه العقبات بفضل تنشئة فلسفية ولاهوتية واعية يجب ألاّ تنحجب البتّة عن الكنيسة.
63. نظراً إلى الأسباب التي أوردتها، أرى من المُلِحِّ أن أذكّر، في هذه الرسالة، بما تخصّ به الكنيسة الفلسفة من اهتمام كبير، كما أودّ أن أذكّر أيضا،ً بالإضافة إلى ذلك، بالرباط العميق القائم بين العمل اللاهوتي والبحث الفلسفي عن الحقيقة. من هنا واجب السلطة التعليمية أن تحدّد وتشجع نمطاً من الفكر الفلسفي لا ينافي الإيمان. عليَّ أن أقترح من المبادىء والضوابط ما أراه ضرورياً لإقامة علاقة متناغمة وفاعلة بين اللاهوت والفلسفة. في ضؤ هذه المبادىء والضوابط يصبح بالإمكان أن نوضّح العلاقات بين اللاهوت ومختلف النظريات والمقولات الفلسفية المطروحة في العالم المعاصر، وكيف يجب أن تكون هذه العلاقات.
هذه التوجيهات جرى تثبيتها وتوضيحها مراراً في وثائق أخرى من السلطة التعليمية، لضمان تنشئة فلسفية متينة وبخاصة للمستعدين للدروس اللاهوتية. وأما أنا فقد نوّهت مراراً كثيرة بأهمية هذه التنشئة الفلسفية لمن يجب عليهم يوماً، في الحياة الرعويّة، أن يواجهوا أحداث العالم المعاصر ويفهموا أسباب بعض التصرفات للردّ عليها بطريقة ميسّرة[84].
61. لئن وجب التدخل في شأن هذا الموضوع، في ظروف مختلفة، مع التأكيد على قيمة الأفكار التي طرحها الملفان الملائكي، وضرورة اقتباس فكره، فقد ارتبط ذلك غالباً بعدم التقيد دائماً بتوجيهات السلطة التعليمية بالطواعية المرجوة. في كثير من المدارس الكاثوليكية، في غضون السنوات التي عقبت المجمع الفاتيكاني الثاني، لوحظ، في هذا الشأن، بعض الذبول الناجم عن تراجع لا في تقدير قيمة الفلسفة المدرسية وحسب، بل بوجه أشمل، في تقدير دراسة الفلسفة ذاتها حق قدرها. لا بدّ لي من أن ألحظ، بشيء من الاستغراب والأسف، أن عدداً من اللاهوتيين ينتحلون هذه اللامبالاة بدرس الفلسفة.
هذه اللامبالاة تعلّلها أسباب متنوعة، لا بدّ من أن نذكر منها أولاً ما يُبديه جزء كبير من الفلسفة المعاصرة من حذرٍ تجاه العقل، مهملاً إهمالاً ذريعاً كل بحث ميتافيزيقي في القضايا الإنسانية القصوى، مع التركيز على المعضلات الخاصة أو المحلية وحتى الشكليّة منها أحياناً. ويجب أن نضيف، علاوة على ذلك، ما حصل خصوصاً من التباس بالنسبة إلى «العلوم الإنسانية». لقد ذكّر المجمع الفاتيكاني الثاني غير مرة بالقيمة الإيجابيّة الناجمة عن كل بحث علمي يتوخى التعمق في سرّ الإنسان[85]. إن الدعوة الموجهة إلى اللاهوتيين ليقفوا على هذه العلوم ويطبّقوها، عند اقتضاء الأمر، تطبيقاً صحيحاً في بحوثهم، يجب ألاّ تفسّر بأنها ترخيص ضمني بتهميش الفلسفة أو بالاستعاضة عنها في التنشئة الرعويّة وفي التمهيد للإيمان. ولا يسوغ لنا أخيراً أن ننسى ما جدّ في عصرنا من اهتمامٍ بانثقاف الإيمان. وقد أتاحت لنا حياة الكنائس الفتية، بوجه خاص، أن نكتشف لا أشكالاً فكرية متطوّرة وحسب، بل وجود مجموعة من تعابير الحكمة الشعبية، تكوّن تراثاً حقيقياً من الثقافات والتقاليد. بيد أن الإكباب على الأعراف التقليدية يجب أن يتماشى مع البحث الفلسفي الذي يمكّننا من إبراز الملامح الإيجابيّة التي تتسم بها الحكمة الشعبية وخلق رُبُطٍ ملزمة بينها وبين البشارة بالإنجيل[86].
62. أود أن أذكِّر بحزمٍ أن درس الفلسفة يكتسي طابعاً أساسياً وأنه لا يسوغ إلغاؤه من بنية الدروس اللاهوتية وتنشئة المرشحين للكهنوت. وليس من باب الصدفة أن تسبق دورةَ الدروس اللاهوتية فترةٌ ينصرف فيها الإكليريكيون إلى درس الفلسفة خصوصاً. هذا الخيار الذي ثبّته المجمع اللاتراني الخامس[87]، تمتد جذوره إلى الخبرة التي نضجت في القرن الوسيط، حيث تبيّنت أهمية العمل على إقامة بنية متناغمة بين العلم الفلسفي والعلم اللاهوتي. نظام الدروس هذا قد طبع وسهّل وحفز، وإن بطريقة غير مباشرة، جزءاً كبيراً من تطوّر الفلسفة المعاصرة. ولنا في ذلك مثال بليغ في الأثر الذي خلّفته «المناظرات الميتافيزيقية» لفرنشسكوا سواريز التي وجدت لها مكاناً حتى في الجامعات اللوثرية الألمانية؛ وبالعكس، فقد أحدث الاستغناء عن هذه المنهجية ثغراتٍ خطيرة في التنشئة الكهنوتية كما في البحث اللاهوتي. ويكفي التفكير، مثلاً، باللامبالاة بالفكـر والثقافة المعاصرَين وما أدّت إليه من انغلاق على كل شكل من أشكال الحوار أو من استسلام لكل فلسفة بدون تمحيص.
إني آمل من صميم قلبي أن نتخطىّ هذه العقبات بفضل تنشئة فلسفية ولاهوتية واعية يجب ألاّ تنحجب البتّة عن الكنيسة.
63. نظراً إلى الأسباب التي أوردتها، أرى من المُلِحِّ أن أذكّر، في هذه الرسالة، بما تخصّ به الكنيسة الفلسفة من اهتمام كبير، كما أودّ أن أذكّر أيضا،ً بالإضافة إلى ذلك، بالرباط العميق القائم بين العمل اللاهوتي والبحث الفلسفي عن الحقيقة. من هنا واجب السلطة التعليمية أن تحدّد وتشجع نمطاً من الفكر الفلسفي لا ينافي الإيمان. عليَّ أن أقترح من المبادىء والضوابط ما أراه ضرورياً لإقامة علاقة متناغمة وفاعلة بين اللاهوت والفلسفة. في ضؤ هذه المبادىء والضوابط يصبح بالإمكان أن نوضّح العلاقات بين اللاهوت ومختلف النظريات والمقولات الفلسفية المطروحة في العالم المعاصر، وكيف يجب أن تكون هذه العلاقات.
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 10:16 pm
الفصل السادس
التفاعل بين اللاهوت والفلسفة
علم الإيمان ومقتضيات العقل الفلسفي
64. إن الله يتوجه بكلامه إلى كل إنسان في كل زمن وفي كل الأرض؛ فالإنسان فيلسوف بالطبع. ولا يستطيع اللاهوت، من جهته، من حيث هو صياغة فكرية وعلمية لفهم كلام الله في ضؤ الإيمان، أن يقطع علاقته بالفلسفات التي تكوّنت فعلياً على مدى التاريخ، بالنسبة إلى بعض تطوّراتها كما بالنسبة إلى تحقيق أهدافها الخاصة. لا أبغي أن أعرض على اللاهوتيين منهجيات خاصة ليست من صلاحيات السلطة التعليمية؛ وإنما أودّ أن أذكر بعض المهمّات الداخلة في صلب اللاهوت، والتي تقتضي الاستعانة بالفكر الفلسفي، بداعي طبيعة الكلام الموحى نفسه.
65. ينتظم اللاهوت، بصفته علم الإيمان، في ضؤ مبدإ منهجيّ مزدوج: سماع الإيمان وفهـم الإيمان. تطبيقاً للمبدأ الأول، يتناول اللاهوت محتوى الوحي كما تطوّر شيئاً فشيئاً في التقليد المقدّس والكتب المقدّسة والتعليم الحيّ في الكنيسة[88]. من منطلق المبدإ الثاني، يهدف اللاهوت إلى تلبية مقتضيات العقل، باللجؤ إلى الفكر النظري.
في شأن الإعداد لسماع الإيمان، تؤديّ الفلسفة للاَّهوت مساهمتها المميّزة، عندما تتفحّص جهاز المعرفة والتبادل الشخصي، وبخاصة لغة الكلام في أشكالها ووظائفها المتنوّعة. رفد الفلسفة لا يقلّ أهميّة في ما يتعلّق بالتقليد الكنسي والوقوف عليه وقوفاً متماسكاً، وفي ما يتعلّق كذلك بتصريحات السلطة التعليمية وأحكام كبار معلّمي اللاهوت: هذه العناصر المتنوعة يُعبَّر عنها غالباً بمفاهيم وأشكال فكريّة مأخوذة من تقليد فلسفي معيّن. في هذه الحال، يجب على اللاهوتي ألاّ يكتفي بأن يعرض مفاهيم وتعابير تركن إليها الكنيسة في تفكيرها وتكوين تعليمها، بل عليه أيضاً أن يحيط إحاطة عميقة بالمذاهب الفلسفية التي يمكن أن تكون قد أثرت في المفاهيم والألفاظ.
66. أما في شأن فهم الإيمان، فيجب أن نلحظ قبل كل شيء ان الحقيقة الإلهية «المتضمنة في الكتب المقدّسة والمفهومة فهماً صحيحاً، حسب تعليم الكنيسة»[89]، تتمتع بمفهومية خاصة، وبتماسك منطقي يجعلانها بمثابة علم حقيقي. فهم الإيمان يشرح هذه الحقيقة، ليس فقط بالوقوف على البنى المنطقية والتصوّرية للطروحات التي تعتمدها الكنيسة في تعليمها، بل أيضاً وخصوصاً بإظهار المعنى الخلاصي الذي تتضمنه هذه الطروحات لفائدة الأفراد والبشرية. إنطلاقاً من مجموع هذه الطروحات، يتوصل المؤمن إلى معرفة تاريخ الخلاص الذي يبلغ ذروته في شخص يسوع المسيح وفي سرّه الفصحي، ويشترك في هذا السرّ بإذعانه للإيمان.
وأمّا اللاهوت العقائدي فعليه أن يتمكّن من فهم سرّ الله الواحد والثالوث في معناه الشامل، وفهم التدبير الخلاصي، إمّا بالطريقة السرديّة وإمّا خصوصاً بالطريقة البرهانية. وعلى اللاهوت العقائدي أن يقوم بهذه المهمة عبر توسعات فكرية يصوغها بطريقة نقديّة وتكون في متناول الجميع. بدون رفد الفلسفة يستحيل الخوض في قضايا لاهوتية كالكلام عن الله، مثلاً، أو كالعلاقات الشخصية داخل الثالوث، وعمل الله الخلاق في العالم، والعلاقة بين الله والإنسان، وهوية المسيح الإله التام والإنسان التام. هذه الاعتبارات تصِحُّ أيضاً في غير قضية من قضايا اللاهوت الأدبي الذي يقتضي الركون مباشرة إلى مفاهيم تتعلّق بالشريعة الأخلاقية والضمير والحرية والمسؤولية الشخصية والخطيئة…وكلها تتحدّد على صعيد المناقبية الفلسفية.
لا بدّ إذن من أن يتزوّد عقل المؤمن بمعرفة طبيعية حقيقية ومتماسكة في شأن الخلائق والعالم والإنسان، وهي كلها موضوع الوحي الإلهي. وعلى العقل، علاوة على ذلك، أن يتمكّن من أن يعبّر عن هذه المعرفة بطريقة ذهنية وبشكل برهاني. ومن ثمَّ، فاللاهوت العقائدي النظري يفترض ويستلزم فلسفة مبنيّة على الحقيقة الموضوعيّة، في كل ما يتعلّق بالإنسان والعالم والكيان.
67. بسبب ما يتميّز به اللاهوت الأساسي من مهمّة الدفاع عن الإيمان (1 بط 3، 15) عليه أن يبذل جهده في تبرير وتوضيح العلاقة بين الإيمان والفكر الفلسفي. وكان المجمع الفاتيكاني الأول قد نبّه في حينه، مستشهداً بالقديس بولس، (را روم 1، 19-20) إلى أن هناك من الحقائق ما يمكن معرفته طبيعياً ومن ثمّ فلسفياً. معرفة هذه الحقائق شرط لا بدّ منه لتقبل الوحي الإلهي. عندما يُقبل اللاهوت الأساسي على دراسة الوحي ومصداقيتة متلازمة مع فعل الإيمان الذي يوازيه، عليه أن يبيّن كيف تظهر، في ضؤ المعرفة الإيمانية، بعض الحقائق التي يدركها العقل في طريقة بحثه المستقلة. هذه الحقائق يفرغ عليها الإيمان كامل معانيها ويوجّهها نحو ثروة السرّ الموحي حيث تصيب غايتها الأخيرة. حسبنا التفكير مثلاً في معرفة الله الطبيعية، وإمكان التمييز بين الوحي الإلهي وما هنالك من ظاهرات أخرى، والتحقُّق من مصداقية الوحي وقدرة الكلام البشري على التعبير، بطريقة بليغة وصحيحة، حتى عن الأمور التي تتخطى الخبرة البشرية. من خلال هذه الحقائق كلها يتوصّل الذهن إلى التحقق من وجود طريقة تؤهب الإنسان حقاً لقبول الإيمان، ويمكن أن تفضي به إلى قبول الوحي، من دون أن يناقض العقل مبادئه الخاصة واستقلاليته المميّزة[90].
على اللاهوت الأساسي أن يبرهن، بنفس الطريقة، عن التناغم العميق بين الإيمان وما يقتضيه الإيمان من تفسير وتوضيح بواسطة العقل، ليتمكن من أن يذعن للحقيقة بملء حريته. وهكذا يستطيع الإيمان أن «يبيّن الطريق جلياً لكل عقل مخلصٍ في البحث عن الحقيقة. وهكذا يتضح أيضاً أن الإيمان–وهو عطية من الله–وإن لم يرتكز على العقل، لا يستطيع مع ذلك أن يستغني عنه. ويتضح، في الوقت نفسه، أن العقل بحاجة إلى أن يستند إلى الإيمان ليستشرف الآفاق التي لا يستطيع الوصول إليها بجهده الخاص»[91].
68. اللاهوت الأدبيقد يكون بحاجة أشدّ إلى الرفد الفلسفي. والواقع أن الحياة البشرية، في العهد الجديد، لم تنظّم بمراسيم، بمثل ما نظمت به في العهد القديم. الحياة في الروح تقود المؤمنين إلى حريّة ومسؤولية تتخطَّيان الشريعة ذاتها. بيد أن الإنجيل والنصوص الرسولية توافينا إمّا بمبادىء عامة في المسلكية المسيحية وإمّا بوصايا محدّدة. لكي يتمكن المسيحي من أن يطبّقها على الظروف الخاصة، في حياته الفردية أو الاجتماعية، عليه أن يحكّم فيها كل ضميره وكل ما عنده من طاقات الفكر. ويعني ذلك، بتعبير آخر، أن اللاهوت الأدبي يجب أن يستعين بنظرية فلسفية سليمة في شأن الطبيعة البشرية والمجتمع كما في شأن المبادىء العامة التي يجب أن يحتكم إليها القرار الأخلاقي.
69. رُبّ معترضٍ على أن اللاهوتي، في القرائن الراهنة، بدلاً من أن يحتكم إلى الفلسفة، عليه أن يستعين بأشكال أخرى من العلم البشري كالتاريخ مثلاً والعلوم التي يُجمع الناس على الإعجاب بما حققته، في أيامنا، من تطورات خارقة. هناك من يؤكد، من منطلق تحسّس متزايد للعلاقة بين الإيمان والثقافة، أن اللاهوتي يجب أن يُؤْثِر التوجهَ إلى التراثات الحكمية التقليدية على التوجه إلى الفلسفة الصادرة من بلاد الإغريق أو أوروبا الوسطى. وهناك أيضاً من ينطلق من تصوّر خاطىء لتعدّدية الثقافات فينكر على التراث الفلسفي المعتَمَد في الكنيسة كل قيمة شمولية.
العناصر التي حدّدناها سابقاً والتي اوردها التعليم المجمعي[92] تتضمّن شيئاً من الحقيقة. الاستعانة بالعلوم مع فائدتها في ظروف كثيرة، لكونها تتيح معرفة أكمل لموضوع الدرس، يجب مع ذلك ألاّ تذهلنا عما لا بدّ منه من وساطة فكرٍ فلسفي محض ناقد وشامل، يجب الركون إليها في كل الأحوال، لتبادلٍ مثمر بين الثقافات. وأودّ أن أشدّد على ضرورة عدم التوقف على النواحي الفرديّة والجزئية، مع ما يستتبع ذلك من التغاضي عن المهمة الأولى وهي تبيان الطابع الشمولي لمحتوى الإيمان. ويجب ألا ننسى أيضاً أن الرفد الخاص الذي نجده في الفكر الفلسفي يمكّننا من أن نمحِّص، في مختلف رؤى الحياة كما في مختلف الثقافات، «لا ما يتصوّره الناس بل ما هي الحقيقة الموضوعية»[93]. فليست الآراء البشريّة المتنوعة هي التي تعود بالفائدة على اللاهوت، بل الحقيقة ليس إلاّ.
70. موضوع العلاقة بالثقافات جدير بأن يُدرس بطريقة مميّزة، حتى وإن لم يستوف هذا الدرس حتماً غرضه، وذلك بسبب ما ينجم عن درس تلك العلاقة من لواحق على صعيد الفلسفة كما على صعيد اللاهوت. تاريخ اللقاء والتواجه مع الثقافات اختبار عاشته الكنيسة منذ بدء مناداتها بالإنجيل. أمر المسيح إلى تلاميذه بأن يذهبوا إلى كل مكان «وحتى أقاصي الأرض» (رسل 1، 8) لينقلوا الحقيقة الموحاة بواسطته، أتاح للجماعة المسيحية أن تتحقق سريعاً جداً من شمولية البشارة والعوائق الناجمة عن تعدّدية الثقافات. ثمة نص في رسالة القديس بولس إلى المسيحيين في أفسس يمكّننا من أن نفهم كيف واجهت الجماعة المسيحية الأولى هذه المعضلة. كتب الرسول: «أمّا الآن، في المسيح يسوع، فأنتم الذين كانوا قبلاّ بعيدين قد صرتم قريبين بدم المسيح، لأنه هو سلامنا، هو الذي جعل من الشعبين واحداً إذ نقض الحائط الحاجز بينهما، أي العداوة» (2، 13-14).
في ضؤ هذا النص، يمتد تفكيرنا إلى التحوّل الذي جرى في الأمم عندما قبلوا الإيمان. بإزاء غِنى الخلاص الذي حققه المسيح، سقطت الحواجز القائمة بين مختلف الثقافات. وعد الله في المسيح أصبح الآن عطية شاملة: فهو لم يعد محصوراً في خصوصية شعب ولغته وأعرافه بل امتدّ ليشمل الجميع، وأصبح مثل تراث يستطيع كل إنسان أن يغرف منه كما يشاء. من مختلف الأمكنة والتقاليد، الجميع مدعوون في المسيح إلى المشاركة في وحدة أسرة أبناء الله. المسيح هو الذي أتاح للشعبين أن يصيرا «واحداً». من كانوا هم «البعيدين» أصبحوا هم «القريبين» بفضل الجدّة التي تحققت في السرّ الفصحي. لقد هدم يسوع حواجز التفرقة وحقَّق الوحدة بطريقة مبتكرة وراقية، بالمشاركة في سرّه. هذه الوحدة هي من العمق بحيث تستطيع الكنيسة أن تردّد قول القديس بولس: «لستم بعد غرباء ولا نزلاء بل أنتم من أبناء وطن القديسـين، ومن أهل بيت الله» (أف 2، 19).
بمثل هذا الكلام البسيط عبّر بولس عن حقيقة كبرى: اللقاء بين الإيمان ومختلف الثقافات قد ولّد، في الحقيقة، واقعاً جديداً. عندما تكون هذه الثقافات عميقة التأصّل في الطبيعة البشرية، فهي تحمل دلالة ما يتميّز به الإنسان من انفتاح على الشمولية وعلى الألوهية. بيد أن هذه الثقافات هي على مسافات متفاوتة من الحقيقة يتجلّى من خلالها ما يعود على الإنسان من فائدة لا ريب فيها، وما تُقدِّم له من قيمٍ بإمكانها أن تجعل حياته أكثر إنسانية[94]. هذه الثقافات المتصلة بقيم التقاليد القديمة مرتبطة–بطريقـة ضمنيـة ولكن حقيقية–بتجلّي الله في الطبيعة، على حدّ ما ذكرناه سابقاً، في كلامنا عن النصوص الحكمية وتعليم القديس بولس.
71. هذه الثقافات، بسبب علاقتها الوثقى بالناس وبتاريخ الناس، تشارك في الديناميّات المنعكسة في الزمن البشري. هناك إذن تحولات وتطوّرات مصدرها اللقاءات بين البشر والتبادلات التي يحققونها في طرائق حياتهم. وهكذا تتغذى الثقافات بالمشاركة في القيم، وتظل حيّة ومستمرّة بمقدار انفتاحها على الحداثة. كيف نفسّر هذه الديناميات؟ كل إنسان ينتمي إلى ثقافة ما، يخضع لها ويؤثر فيها؛ فالإنسان هو، في آنٍ واحد، مولِّد الثقافة التي ينتمي اليها ووليدها. وفي كل تعبير من تعابير حياته، يحمل في ذاته ما يميّزه وسط الخليقة، وهو انفتاحه الدائم على السرّ وعطشه المتوقد إلى المعرفة. ومن ثم، فكل ثقافة تحمل نزعة إلى الاكتمال مطبوعة في ذاتها وشفّافة. يسوغ إذن القول ان الثقافة تنطوي على أهبة الانفتاح على الوحي الإلهي.
الطريقة التي يعيش فيها المسيحيون إيمانهم مشبعة، هي أيضا،ً بثقافة المحيط، وتساهم بدورها في تكوين ميزاتها شيئاً فشيئاً. يجلب المسيحيون إلى كل ثقافة حقيقة الله الثابتة التي أوحى بها في التاريخ وفي ثقافة كل شعب. الحدث الذي شاهده الحجّاج الوافدون على أورشليم، يوم العنصرة، لا يزال يتكرّر عبر الأجيال. لقد تساءلوا، بعد سماعهم الرسل: «أليس هؤلاء المتكلمون جميعهم جليليين؟ فكيف نسمع كلٌّ منا لغته التي وُلدَ فيها؟ نحن الفرثيين والمادّيين والعيلاميين وسكان ما بين النهرين واليهودية وكباذوكية والبنطس وآسيـة وفريجية وبمفيلية ومصر ونواحي ليبية عند القيروان والرومانيين المستوطنين ههنا واليهود والدخلاء والكريتيين والعرب، نسمعهم ينطقون بألسنتنا بعظائم الله» (رسل 2، 7-11). إعلان الإنجيل في مختلف الثقافات، وإن اقتضى من أصحابها اعتناق الإيمان، إلاّ أنه لا يمنعهم من المحافظة على هويتهم الثقافية الخاصة؛ وهذا لا يسبّب أي انقسام لأن شعب المعمّدين يتميّز بشمولية مُشرْعةٍ على كل ثقافة، وتساعد في تطوير ما تتضمنه كل ثقافة من عناصر تقود ضمنياً إلى ملء تفسير الحقيقة.
وبالتالي، ليس ثمة من ثقافة يمكن اعتبارها مقياساً للحكم، وبأولى حجة مقياساً أخيراً للحقيقة في شأن الوحي الإلهي. الإنجيل لا يتعارض وأيّاً من أشكال الثقافة، كما لو كان من أهدافه، عندما يلتقيها، أن ينتزع منها ما تمتلكه، ويرغمها على اعتناق أشكالِ من الخارج لا تلائمها: بل بالعكس! فالبشارة التي يحملها الـمؤمن الى العالم وإلى الحضارات هي الشكل الحقيقي لتحريرها من كل فوضى اقحمتها الخطيئة، وهي، في الوقت نفسه، دعوة إلى الحقيقة برمتها. من نتائج هذا اللقاء أن الثقافات لا تُحرم شيئاً مما لديها، بل تجد فيه ما يحفزها على الانفتاح على جدّة الحقيقة الإنجيلية لتتمكن من التطوّر لاحقاً.
التفاعل بين اللاهوت والفلسفة
علم الإيمان ومقتضيات العقل الفلسفي
64. إن الله يتوجه بكلامه إلى كل إنسان في كل زمن وفي كل الأرض؛ فالإنسان فيلسوف بالطبع. ولا يستطيع اللاهوت، من جهته، من حيث هو صياغة فكرية وعلمية لفهم كلام الله في ضؤ الإيمان، أن يقطع علاقته بالفلسفات التي تكوّنت فعلياً على مدى التاريخ، بالنسبة إلى بعض تطوّراتها كما بالنسبة إلى تحقيق أهدافها الخاصة. لا أبغي أن أعرض على اللاهوتيين منهجيات خاصة ليست من صلاحيات السلطة التعليمية؛ وإنما أودّ أن أذكر بعض المهمّات الداخلة في صلب اللاهوت، والتي تقتضي الاستعانة بالفكر الفلسفي، بداعي طبيعة الكلام الموحى نفسه.
65. ينتظم اللاهوت، بصفته علم الإيمان، في ضؤ مبدإ منهجيّ مزدوج: سماع الإيمان وفهـم الإيمان. تطبيقاً للمبدأ الأول، يتناول اللاهوت محتوى الوحي كما تطوّر شيئاً فشيئاً في التقليد المقدّس والكتب المقدّسة والتعليم الحيّ في الكنيسة[88]. من منطلق المبدإ الثاني، يهدف اللاهوت إلى تلبية مقتضيات العقل، باللجؤ إلى الفكر النظري.
في شأن الإعداد لسماع الإيمان، تؤديّ الفلسفة للاَّهوت مساهمتها المميّزة، عندما تتفحّص جهاز المعرفة والتبادل الشخصي، وبخاصة لغة الكلام في أشكالها ووظائفها المتنوّعة. رفد الفلسفة لا يقلّ أهميّة في ما يتعلّق بالتقليد الكنسي والوقوف عليه وقوفاً متماسكاً، وفي ما يتعلّق كذلك بتصريحات السلطة التعليمية وأحكام كبار معلّمي اللاهوت: هذه العناصر المتنوعة يُعبَّر عنها غالباً بمفاهيم وأشكال فكريّة مأخوذة من تقليد فلسفي معيّن. في هذه الحال، يجب على اللاهوتي ألاّ يكتفي بأن يعرض مفاهيم وتعابير تركن إليها الكنيسة في تفكيرها وتكوين تعليمها، بل عليه أيضاً أن يحيط إحاطة عميقة بالمذاهب الفلسفية التي يمكن أن تكون قد أثرت في المفاهيم والألفاظ.
66. أما في شأن فهم الإيمان، فيجب أن نلحظ قبل كل شيء ان الحقيقة الإلهية «المتضمنة في الكتب المقدّسة والمفهومة فهماً صحيحاً، حسب تعليم الكنيسة»[89]، تتمتع بمفهومية خاصة، وبتماسك منطقي يجعلانها بمثابة علم حقيقي. فهم الإيمان يشرح هذه الحقيقة، ليس فقط بالوقوف على البنى المنطقية والتصوّرية للطروحات التي تعتمدها الكنيسة في تعليمها، بل أيضاً وخصوصاً بإظهار المعنى الخلاصي الذي تتضمنه هذه الطروحات لفائدة الأفراد والبشرية. إنطلاقاً من مجموع هذه الطروحات، يتوصل المؤمن إلى معرفة تاريخ الخلاص الذي يبلغ ذروته في شخص يسوع المسيح وفي سرّه الفصحي، ويشترك في هذا السرّ بإذعانه للإيمان.
وأمّا اللاهوت العقائدي فعليه أن يتمكّن من فهم سرّ الله الواحد والثالوث في معناه الشامل، وفهم التدبير الخلاصي، إمّا بالطريقة السرديّة وإمّا خصوصاً بالطريقة البرهانية. وعلى اللاهوت العقائدي أن يقوم بهذه المهمة عبر توسعات فكرية يصوغها بطريقة نقديّة وتكون في متناول الجميع. بدون رفد الفلسفة يستحيل الخوض في قضايا لاهوتية كالكلام عن الله، مثلاً، أو كالعلاقات الشخصية داخل الثالوث، وعمل الله الخلاق في العالم، والعلاقة بين الله والإنسان، وهوية المسيح الإله التام والإنسان التام. هذه الاعتبارات تصِحُّ أيضاً في غير قضية من قضايا اللاهوت الأدبي الذي يقتضي الركون مباشرة إلى مفاهيم تتعلّق بالشريعة الأخلاقية والضمير والحرية والمسؤولية الشخصية والخطيئة…وكلها تتحدّد على صعيد المناقبية الفلسفية.
لا بدّ إذن من أن يتزوّد عقل المؤمن بمعرفة طبيعية حقيقية ومتماسكة في شأن الخلائق والعالم والإنسان، وهي كلها موضوع الوحي الإلهي. وعلى العقل، علاوة على ذلك، أن يتمكّن من أن يعبّر عن هذه المعرفة بطريقة ذهنية وبشكل برهاني. ومن ثمَّ، فاللاهوت العقائدي النظري يفترض ويستلزم فلسفة مبنيّة على الحقيقة الموضوعيّة، في كل ما يتعلّق بالإنسان والعالم والكيان.
67. بسبب ما يتميّز به اللاهوت الأساسي من مهمّة الدفاع عن الإيمان (1 بط 3، 15) عليه أن يبذل جهده في تبرير وتوضيح العلاقة بين الإيمان والفكر الفلسفي. وكان المجمع الفاتيكاني الأول قد نبّه في حينه، مستشهداً بالقديس بولس، (را روم 1، 19-20) إلى أن هناك من الحقائق ما يمكن معرفته طبيعياً ومن ثمّ فلسفياً. معرفة هذه الحقائق شرط لا بدّ منه لتقبل الوحي الإلهي. عندما يُقبل اللاهوت الأساسي على دراسة الوحي ومصداقيتة متلازمة مع فعل الإيمان الذي يوازيه، عليه أن يبيّن كيف تظهر، في ضؤ المعرفة الإيمانية، بعض الحقائق التي يدركها العقل في طريقة بحثه المستقلة. هذه الحقائق يفرغ عليها الإيمان كامل معانيها ويوجّهها نحو ثروة السرّ الموحي حيث تصيب غايتها الأخيرة. حسبنا التفكير مثلاً في معرفة الله الطبيعية، وإمكان التمييز بين الوحي الإلهي وما هنالك من ظاهرات أخرى، والتحقُّق من مصداقية الوحي وقدرة الكلام البشري على التعبير، بطريقة بليغة وصحيحة، حتى عن الأمور التي تتخطى الخبرة البشرية. من خلال هذه الحقائق كلها يتوصّل الذهن إلى التحقق من وجود طريقة تؤهب الإنسان حقاً لقبول الإيمان، ويمكن أن تفضي به إلى قبول الوحي، من دون أن يناقض العقل مبادئه الخاصة واستقلاليته المميّزة[90].
على اللاهوت الأساسي أن يبرهن، بنفس الطريقة، عن التناغم العميق بين الإيمان وما يقتضيه الإيمان من تفسير وتوضيح بواسطة العقل، ليتمكن من أن يذعن للحقيقة بملء حريته. وهكذا يستطيع الإيمان أن «يبيّن الطريق جلياً لكل عقل مخلصٍ في البحث عن الحقيقة. وهكذا يتضح أيضاً أن الإيمان–وهو عطية من الله–وإن لم يرتكز على العقل، لا يستطيع مع ذلك أن يستغني عنه. ويتضح، في الوقت نفسه، أن العقل بحاجة إلى أن يستند إلى الإيمان ليستشرف الآفاق التي لا يستطيع الوصول إليها بجهده الخاص»[91].
68. اللاهوت الأدبيقد يكون بحاجة أشدّ إلى الرفد الفلسفي. والواقع أن الحياة البشرية، في العهد الجديد، لم تنظّم بمراسيم، بمثل ما نظمت به في العهد القديم. الحياة في الروح تقود المؤمنين إلى حريّة ومسؤولية تتخطَّيان الشريعة ذاتها. بيد أن الإنجيل والنصوص الرسولية توافينا إمّا بمبادىء عامة في المسلكية المسيحية وإمّا بوصايا محدّدة. لكي يتمكن المسيحي من أن يطبّقها على الظروف الخاصة، في حياته الفردية أو الاجتماعية، عليه أن يحكّم فيها كل ضميره وكل ما عنده من طاقات الفكر. ويعني ذلك، بتعبير آخر، أن اللاهوت الأدبي يجب أن يستعين بنظرية فلسفية سليمة في شأن الطبيعة البشرية والمجتمع كما في شأن المبادىء العامة التي يجب أن يحتكم إليها القرار الأخلاقي.
69. رُبّ معترضٍ على أن اللاهوتي، في القرائن الراهنة، بدلاً من أن يحتكم إلى الفلسفة، عليه أن يستعين بأشكال أخرى من العلم البشري كالتاريخ مثلاً والعلوم التي يُجمع الناس على الإعجاب بما حققته، في أيامنا، من تطورات خارقة. هناك من يؤكد، من منطلق تحسّس متزايد للعلاقة بين الإيمان والثقافة، أن اللاهوتي يجب أن يُؤْثِر التوجهَ إلى التراثات الحكمية التقليدية على التوجه إلى الفلسفة الصادرة من بلاد الإغريق أو أوروبا الوسطى. وهناك أيضاً من ينطلق من تصوّر خاطىء لتعدّدية الثقافات فينكر على التراث الفلسفي المعتَمَد في الكنيسة كل قيمة شمولية.
العناصر التي حدّدناها سابقاً والتي اوردها التعليم المجمعي[92] تتضمّن شيئاً من الحقيقة. الاستعانة بالعلوم مع فائدتها في ظروف كثيرة، لكونها تتيح معرفة أكمل لموضوع الدرس، يجب مع ذلك ألاّ تذهلنا عما لا بدّ منه من وساطة فكرٍ فلسفي محض ناقد وشامل، يجب الركون إليها في كل الأحوال، لتبادلٍ مثمر بين الثقافات. وأودّ أن أشدّد على ضرورة عدم التوقف على النواحي الفرديّة والجزئية، مع ما يستتبع ذلك من التغاضي عن المهمة الأولى وهي تبيان الطابع الشمولي لمحتوى الإيمان. ويجب ألا ننسى أيضاً أن الرفد الخاص الذي نجده في الفكر الفلسفي يمكّننا من أن نمحِّص، في مختلف رؤى الحياة كما في مختلف الثقافات، «لا ما يتصوّره الناس بل ما هي الحقيقة الموضوعية»[93]. فليست الآراء البشريّة المتنوعة هي التي تعود بالفائدة على اللاهوت، بل الحقيقة ليس إلاّ.
70. موضوع العلاقة بالثقافات جدير بأن يُدرس بطريقة مميّزة، حتى وإن لم يستوف هذا الدرس حتماً غرضه، وذلك بسبب ما ينجم عن درس تلك العلاقة من لواحق على صعيد الفلسفة كما على صعيد اللاهوت. تاريخ اللقاء والتواجه مع الثقافات اختبار عاشته الكنيسة منذ بدء مناداتها بالإنجيل. أمر المسيح إلى تلاميذه بأن يذهبوا إلى كل مكان «وحتى أقاصي الأرض» (رسل 1، 8) لينقلوا الحقيقة الموحاة بواسطته، أتاح للجماعة المسيحية أن تتحقق سريعاً جداً من شمولية البشارة والعوائق الناجمة عن تعدّدية الثقافات. ثمة نص في رسالة القديس بولس إلى المسيحيين في أفسس يمكّننا من أن نفهم كيف واجهت الجماعة المسيحية الأولى هذه المعضلة. كتب الرسول: «أمّا الآن، في المسيح يسوع، فأنتم الذين كانوا قبلاّ بعيدين قد صرتم قريبين بدم المسيح، لأنه هو سلامنا، هو الذي جعل من الشعبين واحداً إذ نقض الحائط الحاجز بينهما، أي العداوة» (2، 13-14).
في ضؤ هذا النص، يمتد تفكيرنا إلى التحوّل الذي جرى في الأمم عندما قبلوا الإيمان. بإزاء غِنى الخلاص الذي حققه المسيح، سقطت الحواجز القائمة بين مختلف الثقافات. وعد الله في المسيح أصبح الآن عطية شاملة: فهو لم يعد محصوراً في خصوصية شعب ولغته وأعرافه بل امتدّ ليشمل الجميع، وأصبح مثل تراث يستطيع كل إنسان أن يغرف منه كما يشاء. من مختلف الأمكنة والتقاليد، الجميع مدعوون في المسيح إلى المشاركة في وحدة أسرة أبناء الله. المسيح هو الذي أتاح للشعبين أن يصيرا «واحداً». من كانوا هم «البعيدين» أصبحوا هم «القريبين» بفضل الجدّة التي تحققت في السرّ الفصحي. لقد هدم يسوع حواجز التفرقة وحقَّق الوحدة بطريقة مبتكرة وراقية، بالمشاركة في سرّه. هذه الوحدة هي من العمق بحيث تستطيع الكنيسة أن تردّد قول القديس بولس: «لستم بعد غرباء ولا نزلاء بل أنتم من أبناء وطن القديسـين، ومن أهل بيت الله» (أف 2، 19).
بمثل هذا الكلام البسيط عبّر بولس عن حقيقة كبرى: اللقاء بين الإيمان ومختلف الثقافات قد ولّد، في الحقيقة، واقعاً جديداً. عندما تكون هذه الثقافات عميقة التأصّل في الطبيعة البشرية، فهي تحمل دلالة ما يتميّز به الإنسان من انفتاح على الشمولية وعلى الألوهية. بيد أن هذه الثقافات هي على مسافات متفاوتة من الحقيقة يتجلّى من خلالها ما يعود على الإنسان من فائدة لا ريب فيها، وما تُقدِّم له من قيمٍ بإمكانها أن تجعل حياته أكثر إنسانية[94]. هذه الثقافات المتصلة بقيم التقاليد القديمة مرتبطة–بطريقـة ضمنيـة ولكن حقيقية–بتجلّي الله في الطبيعة، على حدّ ما ذكرناه سابقاً، في كلامنا عن النصوص الحكمية وتعليم القديس بولس.
71. هذه الثقافات، بسبب علاقتها الوثقى بالناس وبتاريخ الناس، تشارك في الديناميّات المنعكسة في الزمن البشري. هناك إذن تحولات وتطوّرات مصدرها اللقاءات بين البشر والتبادلات التي يحققونها في طرائق حياتهم. وهكذا تتغذى الثقافات بالمشاركة في القيم، وتظل حيّة ومستمرّة بمقدار انفتاحها على الحداثة. كيف نفسّر هذه الديناميات؟ كل إنسان ينتمي إلى ثقافة ما، يخضع لها ويؤثر فيها؛ فالإنسان هو، في آنٍ واحد، مولِّد الثقافة التي ينتمي اليها ووليدها. وفي كل تعبير من تعابير حياته، يحمل في ذاته ما يميّزه وسط الخليقة، وهو انفتاحه الدائم على السرّ وعطشه المتوقد إلى المعرفة. ومن ثم، فكل ثقافة تحمل نزعة إلى الاكتمال مطبوعة في ذاتها وشفّافة. يسوغ إذن القول ان الثقافة تنطوي على أهبة الانفتاح على الوحي الإلهي.
الطريقة التي يعيش فيها المسيحيون إيمانهم مشبعة، هي أيضا،ً بثقافة المحيط، وتساهم بدورها في تكوين ميزاتها شيئاً فشيئاً. يجلب المسيحيون إلى كل ثقافة حقيقة الله الثابتة التي أوحى بها في التاريخ وفي ثقافة كل شعب. الحدث الذي شاهده الحجّاج الوافدون على أورشليم، يوم العنصرة، لا يزال يتكرّر عبر الأجيال. لقد تساءلوا، بعد سماعهم الرسل: «أليس هؤلاء المتكلمون جميعهم جليليين؟ فكيف نسمع كلٌّ منا لغته التي وُلدَ فيها؟ نحن الفرثيين والمادّيين والعيلاميين وسكان ما بين النهرين واليهودية وكباذوكية والبنطس وآسيـة وفريجية وبمفيلية ومصر ونواحي ليبية عند القيروان والرومانيين المستوطنين ههنا واليهود والدخلاء والكريتيين والعرب، نسمعهم ينطقون بألسنتنا بعظائم الله» (رسل 2، 7-11). إعلان الإنجيل في مختلف الثقافات، وإن اقتضى من أصحابها اعتناق الإيمان، إلاّ أنه لا يمنعهم من المحافظة على هويتهم الثقافية الخاصة؛ وهذا لا يسبّب أي انقسام لأن شعب المعمّدين يتميّز بشمولية مُشرْعةٍ على كل ثقافة، وتساعد في تطوير ما تتضمنه كل ثقافة من عناصر تقود ضمنياً إلى ملء تفسير الحقيقة.
وبالتالي، ليس ثمة من ثقافة يمكن اعتبارها مقياساً للحكم، وبأولى حجة مقياساً أخيراً للحقيقة في شأن الوحي الإلهي. الإنجيل لا يتعارض وأيّاً من أشكال الثقافة، كما لو كان من أهدافه، عندما يلتقيها، أن ينتزع منها ما تمتلكه، ويرغمها على اعتناق أشكالِ من الخارج لا تلائمها: بل بالعكس! فالبشارة التي يحملها الـمؤمن الى العالم وإلى الحضارات هي الشكل الحقيقي لتحريرها من كل فوضى اقحمتها الخطيئة، وهي، في الوقت نفسه، دعوة إلى الحقيقة برمتها. من نتائج هذا اللقاء أن الثقافات لا تُحرم شيئاً مما لديها، بل تجد فيه ما يحفزها على الانفتاح على جدّة الحقيقة الإنجيلية لتتمكن من التطوّر لاحقاً.
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 10:17 pm
72. لا شك أن مهمة البشارة قد التقت أولاً، في طريقها، الفلسفة الإغريقية. ولكن هذا اللقاء لا يستتبع، ولا بوجه من الوجوه، حُجة لاستبعاد المقاربات الأخرى. فاليوم، بمقدار ما يتصل الإنجيل بمساحاتٍ ثقافية بقيت حتى الآن خارج نطاق الإشعاع المسيحي، تنفتح مجالات جديدة للانثقاف. المعضلات التي واجهتها الكنيسة في القرون الأولى من تاريخها تواجه مثلها في أيامنا.
إني أتوجه بالفكر عفوياً إلى البلاد الشرقية الغنية بتقاليد دينية وفلسفية عريقة. بلاد الهند لها بينها مكانة خاصة. يبحث الفكر الهندي، بحافزٍ روحي كبير، عن اختبارٍ يحرّر الروح من قيود الزمن والمكان، ويتمتع بقيمة مطلقة. في دينامية هذا السعي إلى التحرّر تندرج نظريات ميتافيزيقية عظيمة.
على المسيحيين اليوم، وبخاصة المسيحيين في الهند، أن يستخرجوا من هذا التراث الثري العناصر التي تتناغم مع إيمانهم، فيثري بها الفكر المسيحي. في هذا العمل التمحيصي المستلهم من البيان المجمعي في «العلاقات بالأديان غير المسيحية» يجب على المسيحيين أن يتقيدوا بعدد من المقاييس: المقياس الأول هو شمولية العقل البشري الذي نجد مقتضياته الأساسية متشابهة في مختلف الثقافات. والثاني الذي ينجم عن الأول قوامه ما يلي: عندما تتصل الكنيسة بالثقافات العظمى التي لم تلتقها من قبل، لا يسعها أن تتخلّى عما اكتسبته بانثقافها في الفكر الإغريقي-اللاتيني. التنكر لهذا التراث يناقض قصد العناية الإلهية التي تقود الكنيسة في دروب الزمان والتاريخ. وعلى كلٍ، فهذا المقياس، في نظر الكنيسة، يصحُّ في كل زمان، وسوف يصح في كنيسة الغد التي سوف تقدّر ثروة المكاسب المحققة بفضل ما يجري اليوم من تقارب مع الثقافات الشرقية، وتجد في هذا التراث عناصر جديدة للدخول في حوارٍ مثمر مع الثقافات التي ستفرزها البشرية في طريقها نحو المستقبل. ويجب الاحتراز، ثالثاً، من الخلط بين المطالبة الشرعية بما يتمتع به الفكر الهندي من فرادة وأصالة، والمبدأ القائل بأن كل تقليد ثقافي يجب أن ينغلق على مزيّته ويثبّت هويته بتعارضه مع التقاليد الأخرى، وهذا يناقض العقل البشري في صميم طبيعته.
وما نقوله هنا في الهند يصح أيضاً في تراث الثقافات الكبرى في الصين واليابان وسائر البلاد الآسيوية الأخرى، كما يصح أيضاً في بعض ثروات التقاليد الإفريقية، وبخاصة المنقولة منها شفهياً.
73. في ضؤ هذه الأفكار، يتضح لنا أن العلاقة التي يجب أن نقيمها بطريقة ملائمة بين اللاهوت والفلسفة، لا بدّ من أن تخضع لمبدأ الدائرية. فبالنسبة إلى اللاهوت نعلم أن المنطلق والمصدر الأصيل هما دائماً كلام الله الموحى في التاريخ، بينما الهدف الأخير إنما هو فهم هذا الكلام واكتناهه على مدى الأجيال. ومن جهة أخرى، ما دام كلام الله هو الحقيقة (را يو، 17، 17)، فلكي نُحسن فهم هذا الكلام، لا يسعنا ألاّ أن نستعين بالبحث البشري عن الحقيقة، أي بالمسعى الفلسفي بشرط أن يتم في احترام قوانينه الخاصّة. ولا يعني ذلك أن نستعين فقط، في الخطاب اللاهوتي، ببعض مقولات البنية الفلسفية أو بعض أجزائها: فإنه من باب الضرورة الجوهرية أن يمارس عقل المؤمن طاقاته الفكرية في البحث عن الحقيقة، ضمن حركة تنطلق من كلام الله وتسعى إلى التوصل إلى فهمه بطريقة أفضل. ومن الواضح، من جهة أخرى، أن العقل في تنقله بين هذين القطبين–أي كلام الله ومعرفته بوجه أفضل–يحظى بشبه تنبيه وتوجيه، ليتحاشى دروباً تنحرف به خارج الحقيقة الموحاة، وفي آخر المطاف، خارج الحقيقة في كل بساطتها. والعقل مدعوّ أيضاً إلى ريادة طرق ليس بإمكانه أن يتصوّر اجتيازها وحده. من هذه العلاقة الدائرية بكلام الله، تخرج الفلسفة ثريّة، لأن العقل يكتشف بفضلها آفاقاً جديدة لم يكن ليحلم بها.
74. دليل ما تؤتيه هذه العلاقة من ثمار، نجده في تاريخ بعض عظماء اللاهوتيين المسيحيين الذين كانوا أيضاً من طراز الفلاسفة العظام، وذلك بأنهم خلَّفوا آثاراً تتميّز بقيمة فكريّة راقية تجعلهم، بحق، في مستوى أقطاب الفلسفة القديمة. ويصح هذا في آباء الكنيسة ومن بينهم، على الأقل، القديس غوريغوريوس النـزينـزي والقديس أوغسطينوس، وكذلك ملافنة العصر الوسيط ومن بينهم خصوصاً الثلاثي المشهور: القديس أنسلموس، والقديس بونافنتورا والقديس توما الأكويني. العلاقة المثمرة بين الفلسفة وكلام الله تظهر أيضاً في البحث الجريء الذي قام به مفكرون حديثون، يطيب لي أن أذكر من بينهم، في الغرب، شخصيات من مثل جون هنري نيومن، وأنطونيو روزميني، وجاك ماريتان، وإتيان جلسون وإديث شتين؛ وفي الشرق مفكرين من طراز فلاديمير س. سولوفييف، وبافل أ. فلورنسكي، وبيتر ج. زادائيف، وفلاديمير ن. لوسكي. ومن الواضح أنني عندما أذكر هؤلاء المؤمنين–الذين يمكن أن أضيف إليهم آخرين–لا أريد أن أوافق على جميع ملامح فكرهم، بل أن أورد فقط نماذج بليغة في نمط من البحث الفلسفي استفاد كثيراً من مقارنته بمعطيات الإيمان. هناك أمر أكيد: التنبّه للمسيرة الروحية التي حققها هؤلاء المعلمون، لا يمكن إلاّ أن يدعم التقدّم في البحث عن الحقيقة وفي تطويع نتائجها لخدمة الإنسان. ويجب أن نأمل أن يجد هذا التقليد الفلسفي-اللاهوتي، اليوم وغداً، أشخاصاً يواصلونه ويستثمرونه لخير الكنيسة والبشرية.
الفلسفة في مختلف أوضاعها
75. بنتيجة ما أتينا على ذكره، بطريقة مقتضبة، من تاريخ العلاقات بين الإيمان والفلسفة، بإمكاننا أن نميّز بعض أوضاع الفلسفة بالنسبة إلى الإيمان المسيحي. الوضع الأول هو وضع الفلسفة المستقلة تماماً عن الوحي الإنجيلي. هو حالة الفلسفة التي تكوّنت تاريخياً في الحقب التي سبقت ميلاد الفادي، وتالياً، في المناطق التي لم يصل إليها الإنجيل بعد. في هذا الوضع، نجد في الفلسفة توقاً شرعياً إلى أن تكون مستقلة في مسعاها، أي أن تجري بموجب قوانينها الخاصة ولا تستعين إلاّ بقدرات العقل. هذا التوق يحسن أن ندعمه ونعزّزه مع اعتبار المحدودية الخطيرة الناجمة عن ضعف العقل البشري في فطرته. والواقع أن المسعى الفلسفي، وهو البحث الطبيعي عن الحقيقة، يبقى ضمنياً مشرعاً على ما هو فوق الطبيعة.
وحتى عندما يستعين الخطاب اللاهوتي بمقولات وأدلّة فلسفية، لا بدّ من أن نحترم ما يتطلبه الفكر من استقلالية صحيحة. فالتدليل الذي يتمّ بموجب ضوابط عقلية صارمة هو، ولا شك، ضمانة للوصول إلى نتائج مقبولة عند الجميع. وهنا يتحقق أيضاً المبدأ القائل بأن النعمة لا تلغي بل تكمّل الطبيعة: الإذعان الإيماني الذي يلزم العقل والإرادة لا يلغي بل يكمّل حريّة الخيار عند كل مؤمن يقبل الوحي.
النظرية الفلسفية المعروفة بالفلسفة «المفصولة» والتي تبناها عدد من الفلاسفة المعاصرين، تبتعد ابتعاداً واضحاً عن هذا المقتضى السليم. هذه النظرية لا تكتفي بالتأكيد على الاستقلالية الصحيحة لكلٍ مسعى فلسفي، بل تطالب بأن يتمتع الفكر بالاكتفاء الذاتي، وهي مطالبة لا شرعية واضحة: فكل رفضٍ لما تزوّدنا به الحقيقة النابعة من الوحي الإلهي يعني الحؤول دون الوصول إلى مزيدٍ من العمق في معرفة الحقيقة، وذلك على حساب الفلسفة نفسها.
76. ثمة وضع آخر من أوضاع الفلسفة وهو ما يصفه الكثيرون بالفلسفة المسيحية. هذه التسمية مشروعة في حدّ ذاتها، على ألاّ يقع عليها الالتباس: فهي لا تشير إلى وجود فلسفة رسمية في الكنيسة، ما دام الإيمان، في حدّ ذاته، ليس فلسفة. هذه التسمية تعني إذن نهجاً فلسفياً مسيحياً وتنظيراً فلسفياً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإيمان. نحن لسنا إذن بإزاء فلسفة من وضع فلاسفة مسيحيين لم يشاؤوا التعرّض للإيمان في بحثهم. فعندما نتكلم عن فلسفة مسيحية، نريد أن نشمل، بهذه العبارة، ما أحرزه الفكر الفلسفي من تطوّرات هامة لم يكن بالإمكان أن تتحقق لولا ما رفدها به الإيمان المسيحي، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ثمة إذن وجهان في الفلسفة المسيحية: وجه ذاتي قوامه تنقية العقل بالإيمان. فالإيمان، من حيث هو فضيلة إلهية، يحرّر العقل من الزهو، وهو نقيصة نموذجية يتعرض لها الفلاسفة كثيراً، وقد ندّد بها القديس بولس في أيامه وأباء الكنيسة وفلاسفة آخرون أقرب منا، من أمثال باسكال وكيركيغارد. بالتواضع يحرز الفيلسوف ما يحتاجه من جرأة ليجابه بعض المسائل التي لا يسعه أن يحلّها بسهولة، من دون أن يراعي معطيات الوحي. حسبنا، مثلاً، أن نفكّر بمعضلات الشر والعذاب وهوّية الله الشخصية ومعنى الحياة أو، بطريقة مباشرة، المعضلة الميتافيزيقية الجذرية: «لماذا ثمة شيء؟».
هناك أيضاً الوجه الموضوعي المتعلق بمحتوى الفلسفة المسيحية: فالوحي يعرض علينا بوضوح بعض الحقائق التي لم يكن بإمكان العقل أن يكتشفها وحده، وإن كانت من طبيعتها غير مستعصية عليه. في هذه الرؤية نجد بعض الحقائق من مثل وجود إله شخصي حرّ وخالق، وقد بات لهذه الحقيقة أهمية كـبرى في تطوير الفكر الفلسفي، وبخاصة في تطوير فلسفة الكينونة. في هذا النطاق يدخل أيضاً واقع الخطيئة كما يبدو في ضؤ الإيمان الذي يساعدنا في طرح معضلة الشر بطريقة فلسفية مناسبة. فكرة الشخص ككائن روحي هي أيضاً من مبتكرات الإيمان: فالمناداة المسيحية بكرامة البشر ومساواتهم وحريتهمم قد أثرت، بدون ريب، في الفكر الفلسفي عند أبناء عصرنا. بإمكاننا أن نذكر، من بين الأحداث القريبة منا، اكتشاف الأهمية التي يتميّز بها، في نظر الفلسفة أيضاً، الوحي المسيحي، بوصفه الحدث التاريخي المركزي. وليس من باب الصدفة أن يصبح هذا الحدث محور تاريخ فلسفة أصبح شبه فصل جديد من فصول البحث البشري عن الحقيقة.
من بين العناصر الموضوعية في الفلسفة المسيحية نجد أيضاً ضرورة البحث في معقولية بعض الحقائق الواردة في الكتب المقدّسة، من بينها، مثلاً، ما أُكرِم به الإنسان من دعوة تفوق الطبيعة، وقضيةُ الخطيئة الأصلية نفسها. هذه المهمّات تحث العقل على الاعتراف بوجود ما هو حقُّ وعقلاني خارج الحدود الحصريّة التي قد ينـزوي فيها العقل. هذه القضايا توسّع، في الواقع، نطاق النشاط العقلاني.
لم يصبح الفلاسفة لاهوتيين في تنظيرهم في هذه العناصر، وذلك بمقدار ما تحاشوا العمل على فهم وشرح حقائق الإيمان انطلاقاً من الوحي. لقد استمرُّوا في العمل ضمن نطاقهم الخاصّ وبمنهجيتهم العقلانية البحت، ولكنهم وسّعوا أبحاثهم إلى مساحات جديدة من الحقيقة. ويسوغ القول إِن جزءاً كبيراً من الفلسفة الحديثة والمعاصرة لم يكن ليتحقق لولا كلام الله وأثره الحافز. هذا الواقع يحتفظ بكامل صدقيته، حتى تجاه ما نلحظه، بخيبة أمل، من إعراض عددٍ من مفكرّي القرون الأخيرة عن الأرثوذكسيّة المسيحيّة.
77. نجد للفلسفة وضعاً لافتاً آخر، عندما يركن اللاهوت نفسه إلى الفلسفة. الواقع أن اللاهوت قد احتاج ولا يزال يحتاج إلى الرفد الفلسفي. فالعمل اللاهوتي، بصفته نشاطاً من نشاطات العقل الناقد في ضؤ الإيمان، يفترض ويقتضي، في كل سعيه، عقلاً مدرّياً ومثقفاً على صعيد المفاهيم الفكرية والطرائق البرهانية. ثم إن اللاهوت بحاجة إلى الفلسفة كطرفٍ محاورٍ للتحقق من مفهومية تأكيداته وحقيقتها الشاملة. وليس من باب الصدفة أن يكون آباء الكنيسة ولاهوتيوُّ القرون الوسطى قد استعانوا بفلاسفة غير مسيحيين لهذه الوظيفة التفسيرية. هذا الواقع التاريخي ينوّه بقيمة الاستقلالية التي تحتفظ بها الفلسفة حتى في هذا الوضع الثالث، ولكنه يلفتنا أيضاً إلى ما يجب أن تخضع له الفلسفة من تطويرات عميقة.
إن ما أدته الفلسفة للاهوت من رفدٍ ضروري ورفيع هو الذي استحق لها، منذ زمن الآباء، لقب «خادمة اللاهوت». بيد أن هذا اللقب لم يطبَّق عليها للتعبير عن خضوع ذليل أو عن دور وظيفي بحت للفلسفة تجاه اللاهوت، ولكنه استُعمل في المعنى الذي توخّاه أرسطو في حديثه عن العلوم الاختبارية المستعملة في «خدمة» «الفلسفة الأولى». هذا التعبير الذي يصعب استعماله اليوم بسبب مبادىء الاستقلالية التي أتينا على ذكرها قد استُخدم، على مدى التاريخ، للدلالة على ضرورة العلاقة بين هذين العلمين واستحالة الفصل بينهما.
إذا أبى اللاهوتي أن يستعين بالفلسفة، فإنه يتعرّض لأن «يتفلسف» من غير أن يدري، وينحصر ضمن بنيات فكرية لا تساعد كثيراً في فهم الإيمان. وكذلك الفيلسوف إذا نفى كل علاقة باللاهوت، ظن نفسه ملزماً بأن يحتكر لذاته محتوى الإيمان المسيحي، كما جرى لبعضٍ من الفلاسفة الحديثين. في كلا الحالتين يتراءى خطر القضاء على المبادىء الأساسيّة المطالبة بالاستقلالية التي يجب أن يتمسَّك بها كلٌّ من الفلسفة واللاهوت.
وضع الفلسفة الذي نبحث فيه الآن يجب أن يخضع مباشرة، مع اللاهوت، لإشراف السلطة التعليمية ورقابتها، كما أشرت إلى ذلك قبلاً، وذلك بسبب ما لها من انعكاسات على استيعاب الوحي. فهناك حقائق إيمانية تنبثق من المقتضيات المحدّدة التي يجب على الفلسفة أن تراعيها كل مرّة تدخل في علاقة مع اللاهوت.
78. بنتيجة هذه الاعتبارات نفهم، بلا عناء، لماذا أثنت السلطة التعليمية مراراً على الفوائد النابعة من فكر القديس توما وجعلت من هذا الفكر دليلاً ونموذجاً للدروس اللاهوتية. ولم يكن موضوع اهتمام الكنيسة أن تتخذ موقفاً من المسائل الفلسفية البحتة ولا أن تفرض اعتناق قضايا فكرية خاصة. لقد كان هدف السلطة التعليمية ولا يزال أن تجعل من القديس توما نموذجاً صحيحاً لكلِ من يبحث عن الحقيقة. والواقع أن مقتضى العقل وقوة الإيمان قد وجدا في فكر القديس توما أرقى خلاصة استطاع الفكر أن يحققها، وذلك بأنه عرف كيف يحافظ على ما جاء به الوحي من بَدْعٍ جذريّ من دون أن يقلّل من قيمة النهج العقلاني.
79. أودّ أن أتوسّع في ما سلف من مضمون التعليم الكنسي، وأبيّن في هذا الجزء الأخير بعض المقتضيات التي يطرحها اللاهوت في أيامنا _ وما يطرحه كلام الله أولاً _ على الفكر الفلسفي وعلى الفلسفات المعاصرة. على الفيلسوف أن يعوّل _ كما أكدّت ذلك آنفاً _ على قواعد خاصة وأن يرتكز على مبادئه الخاصة. ولكن الحقيقة لا يمكن إلاّ أن تكون واحدة. ومن ثم لا يستطيع الوحي أبداً، مع مضمونه، أن ينتقص من قيمة العقل في اكتشافاته وفي استقلاليته المشروعة. ولكن العقل، من جهة، يجب ألا يفقد قدرته على التساؤل وطرح الأسئلة، عارفاً أنه لا يستطيع أن يحسب ذاته قيمة مطلقة وفريدة. الحقيقة الموحاة تضع الكائن في وضح النور النابع من سنى الكائن الأسمى القائم بذاته، وتنير الطريق أمام الفكر الفلسفي. وخلاصة القول أن الوحي المسيحي هو، في الحقيقة، نقطة التلاقي والتواجه بين الفكر الفلسفي والفكر اللاهوتي في علاقاتهما المتبادلة. ما نتمناه إذن على اللاهوتيين والفلاسفة أن يهتدوا بهدي سلطة الحقيقة الواحدة، فيصوغوا فلسفة تتجانس مع كلام الله. هذه الفلسفة تكون هي فسحة اللقاء بين الثقافات والإيمان المسيحي، ومكان التوافق بين المؤمنين وغير المؤمنين، ويكون ذلك دعماً للمسيحيين ليقتنعوا اقتناعاً أعمق من أن عمق الإيمان وسلامته يقويان عندما يرتبط الإيمان بفكر لا يتخلّى عنه. وأوكّد، مرة أخرى، أن آباء الكنيسة هم الذين يوجهوننا في هذا اليقين: «الإيمان نفسه ليس سوى فكر يعبّر عن إذعان . . . من يؤمن يعقل وعندما يعقل يؤمن . . . فإذا كان الإيمان لا يرتكز على العقل، فليس الإيمان شيئاً»[95]. وأيضاً: «إذا حذفنا الإذعان، حذفنا الإيمان، فبدون الإذعان ليس من إيمان»[96].
إني أتوجه بالفكر عفوياً إلى البلاد الشرقية الغنية بتقاليد دينية وفلسفية عريقة. بلاد الهند لها بينها مكانة خاصة. يبحث الفكر الهندي، بحافزٍ روحي كبير، عن اختبارٍ يحرّر الروح من قيود الزمن والمكان، ويتمتع بقيمة مطلقة. في دينامية هذا السعي إلى التحرّر تندرج نظريات ميتافيزيقية عظيمة.
على المسيحيين اليوم، وبخاصة المسيحيين في الهند، أن يستخرجوا من هذا التراث الثري العناصر التي تتناغم مع إيمانهم، فيثري بها الفكر المسيحي. في هذا العمل التمحيصي المستلهم من البيان المجمعي في «العلاقات بالأديان غير المسيحية» يجب على المسيحيين أن يتقيدوا بعدد من المقاييس: المقياس الأول هو شمولية العقل البشري الذي نجد مقتضياته الأساسية متشابهة في مختلف الثقافات. والثاني الذي ينجم عن الأول قوامه ما يلي: عندما تتصل الكنيسة بالثقافات العظمى التي لم تلتقها من قبل، لا يسعها أن تتخلّى عما اكتسبته بانثقافها في الفكر الإغريقي-اللاتيني. التنكر لهذا التراث يناقض قصد العناية الإلهية التي تقود الكنيسة في دروب الزمان والتاريخ. وعلى كلٍ، فهذا المقياس، في نظر الكنيسة، يصحُّ في كل زمان، وسوف يصح في كنيسة الغد التي سوف تقدّر ثروة المكاسب المحققة بفضل ما يجري اليوم من تقارب مع الثقافات الشرقية، وتجد في هذا التراث عناصر جديدة للدخول في حوارٍ مثمر مع الثقافات التي ستفرزها البشرية في طريقها نحو المستقبل. ويجب الاحتراز، ثالثاً، من الخلط بين المطالبة الشرعية بما يتمتع به الفكر الهندي من فرادة وأصالة، والمبدأ القائل بأن كل تقليد ثقافي يجب أن ينغلق على مزيّته ويثبّت هويته بتعارضه مع التقاليد الأخرى، وهذا يناقض العقل البشري في صميم طبيعته.
وما نقوله هنا في الهند يصح أيضاً في تراث الثقافات الكبرى في الصين واليابان وسائر البلاد الآسيوية الأخرى، كما يصح أيضاً في بعض ثروات التقاليد الإفريقية، وبخاصة المنقولة منها شفهياً.
73. في ضؤ هذه الأفكار، يتضح لنا أن العلاقة التي يجب أن نقيمها بطريقة ملائمة بين اللاهوت والفلسفة، لا بدّ من أن تخضع لمبدأ الدائرية. فبالنسبة إلى اللاهوت نعلم أن المنطلق والمصدر الأصيل هما دائماً كلام الله الموحى في التاريخ، بينما الهدف الأخير إنما هو فهم هذا الكلام واكتناهه على مدى الأجيال. ومن جهة أخرى، ما دام كلام الله هو الحقيقة (را يو، 17، 17)، فلكي نُحسن فهم هذا الكلام، لا يسعنا ألاّ أن نستعين بالبحث البشري عن الحقيقة، أي بالمسعى الفلسفي بشرط أن يتم في احترام قوانينه الخاصّة. ولا يعني ذلك أن نستعين فقط، في الخطاب اللاهوتي، ببعض مقولات البنية الفلسفية أو بعض أجزائها: فإنه من باب الضرورة الجوهرية أن يمارس عقل المؤمن طاقاته الفكرية في البحث عن الحقيقة، ضمن حركة تنطلق من كلام الله وتسعى إلى التوصل إلى فهمه بطريقة أفضل. ومن الواضح، من جهة أخرى، أن العقل في تنقله بين هذين القطبين–أي كلام الله ومعرفته بوجه أفضل–يحظى بشبه تنبيه وتوجيه، ليتحاشى دروباً تنحرف به خارج الحقيقة الموحاة، وفي آخر المطاف، خارج الحقيقة في كل بساطتها. والعقل مدعوّ أيضاً إلى ريادة طرق ليس بإمكانه أن يتصوّر اجتيازها وحده. من هذه العلاقة الدائرية بكلام الله، تخرج الفلسفة ثريّة، لأن العقل يكتشف بفضلها آفاقاً جديدة لم يكن ليحلم بها.
74. دليل ما تؤتيه هذه العلاقة من ثمار، نجده في تاريخ بعض عظماء اللاهوتيين المسيحيين الذين كانوا أيضاً من طراز الفلاسفة العظام، وذلك بأنهم خلَّفوا آثاراً تتميّز بقيمة فكريّة راقية تجعلهم، بحق، في مستوى أقطاب الفلسفة القديمة. ويصح هذا في آباء الكنيسة ومن بينهم، على الأقل، القديس غوريغوريوس النـزينـزي والقديس أوغسطينوس، وكذلك ملافنة العصر الوسيط ومن بينهم خصوصاً الثلاثي المشهور: القديس أنسلموس، والقديس بونافنتورا والقديس توما الأكويني. العلاقة المثمرة بين الفلسفة وكلام الله تظهر أيضاً في البحث الجريء الذي قام به مفكرون حديثون، يطيب لي أن أذكر من بينهم، في الغرب، شخصيات من مثل جون هنري نيومن، وأنطونيو روزميني، وجاك ماريتان، وإتيان جلسون وإديث شتين؛ وفي الشرق مفكرين من طراز فلاديمير س. سولوفييف، وبافل أ. فلورنسكي، وبيتر ج. زادائيف، وفلاديمير ن. لوسكي. ومن الواضح أنني عندما أذكر هؤلاء المؤمنين–الذين يمكن أن أضيف إليهم آخرين–لا أريد أن أوافق على جميع ملامح فكرهم، بل أن أورد فقط نماذج بليغة في نمط من البحث الفلسفي استفاد كثيراً من مقارنته بمعطيات الإيمان. هناك أمر أكيد: التنبّه للمسيرة الروحية التي حققها هؤلاء المعلمون، لا يمكن إلاّ أن يدعم التقدّم في البحث عن الحقيقة وفي تطويع نتائجها لخدمة الإنسان. ويجب أن نأمل أن يجد هذا التقليد الفلسفي-اللاهوتي، اليوم وغداً، أشخاصاً يواصلونه ويستثمرونه لخير الكنيسة والبشرية.
الفلسفة في مختلف أوضاعها
75. بنتيجة ما أتينا على ذكره، بطريقة مقتضبة، من تاريخ العلاقات بين الإيمان والفلسفة، بإمكاننا أن نميّز بعض أوضاع الفلسفة بالنسبة إلى الإيمان المسيحي. الوضع الأول هو وضع الفلسفة المستقلة تماماً عن الوحي الإنجيلي. هو حالة الفلسفة التي تكوّنت تاريخياً في الحقب التي سبقت ميلاد الفادي، وتالياً، في المناطق التي لم يصل إليها الإنجيل بعد. في هذا الوضع، نجد في الفلسفة توقاً شرعياً إلى أن تكون مستقلة في مسعاها، أي أن تجري بموجب قوانينها الخاصة ولا تستعين إلاّ بقدرات العقل. هذا التوق يحسن أن ندعمه ونعزّزه مع اعتبار المحدودية الخطيرة الناجمة عن ضعف العقل البشري في فطرته. والواقع أن المسعى الفلسفي، وهو البحث الطبيعي عن الحقيقة، يبقى ضمنياً مشرعاً على ما هو فوق الطبيعة.
وحتى عندما يستعين الخطاب اللاهوتي بمقولات وأدلّة فلسفية، لا بدّ من أن نحترم ما يتطلبه الفكر من استقلالية صحيحة. فالتدليل الذي يتمّ بموجب ضوابط عقلية صارمة هو، ولا شك، ضمانة للوصول إلى نتائج مقبولة عند الجميع. وهنا يتحقق أيضاً المبدأ القائل بأن النعمة لا تلغي بل تكمّل الطبيعة: الإذعان الإيماني الذي يلزم العقل والإرادة لا يلغي بل يكمّل حريّة الخيار عند كل مؤمن يقبل الوحي.
النظرية الفلسفية المعروفة بالفلسفة «المفصولة» والتي تبناها عدد من الفلاسفة المعاصرين، تبتعد ابتعاداً واضحاً عن هذا المقتضى السليم. هذه النظرية لا تكتفي بالتأكيد على الاستقلالية الصحيحة لكلٍ مسعى فلسفي، بل تطالب بأن يتمتع الفكر بالاكتفاء الذاتي، وهي مطالبة لا شرعية واضحة: فكل رفضٍ لما تزوّدنا به الحقيقة النابعة من الوحي الإلهي يعني الحؤول دون الوصول إلى مزيدٍ من العمق في معرفة الحقيقة، وذلك على حساب الفلسفة نفسها.
76. ثمة وضع آخر من أوضاع الفلسفة وهو ما يصفه الكثيرون بالفلسفة المسيحية. هذه التسمية مشروعة في حدّ ذاتها، على ألاّ يقع عليها الالتباس: فهي لا تشير إلى وجود فلسفة رسمية في الكنيسة، ما دام الإيمان، في حدّ ذاته، ليس فلسفة. هذه التسمية تعني إذن نهجاً فلسفياً مسيحياً وتنظيراً فلسفياً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإيمان. نحن لسنا إذن بإزاء فلسفة من وضع فلاسفة مسيحيين لم يشاؤوا التعرّض للإيمان في بحثهم. فعندما نتكلم عن فلسفة مسيحية، نريد أن نشمل، بهذه العبارة، ما أحرزه الفكر الفلسفي من تطوّرات هامة لم يكن بالإمكان أن تتحقق لولا ما رفدها به الإيمان المسيحي، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ثمة إذن وجهان في الفلسفة المسيحية: وجه ذاتي قوامه تنقية العقل بالإيمان. فالإيمان، من حيث هو فضيلة إلهية، يحرّر العقل من الزهو، وهو نقيصة نموذجية يتعرض لها الفلاسفة كثيراً، وقد ندّد بها القديس بولس في أيامه وأباء الكنيسة وفلاسفة آخرون أقرب منا، من أمثال باسكال وكيركيغارد. بالتواضع يحرز الفيلسوف ما يحتاجه من جرأة ليجابه بعض المسائل التي لا يسعه أن يحلّها بسهولة، من دون أن يراعي معطيات الوحي. حسبنا، مثلاً، أن نفكّر بمعضلات الشر والعذاب وهوّية الله الشخصية ومعنى الحياة أو، بطريقة مباشرة، المعضلة الميتافيزيقية الجذرية: «لماذا ثمة شيء؟».
هناك أيضاً الوجه الموضوعي المتعلق بمحتوى الفلسفة المسيحية: فالوحي يعرض علينا بوضوح بعض الحقائق التي لم يكن بإمكان العقل أن يكتشفها وحده، وإن كانت من طبيعتها غير مستعصية عليه. في هذه الرؤية نجد بعض الحقائق من مثل وجود إله شخصي حرّ وخالق، وقد بات لهذه الحقيقة أهمية كـبرى في تطوير الفكر الفلسفي، وبخاصة في تطوير فلسفة الكينونة. في هذا النطاق يدخل أيضاً واقع الخطيئة كما يبدو في ضؤ الإيمان الذي يساعدنا في طرح معضلة الشر بطريقة فلسفية مناسبة. فكرة الشخص ككائن روحي هي أيضاً من مبتكرات الإيمان: فالمناداة المسيحية بكرامة البشر ومساواتهم وحريتهمم قد أثرت، بدون ريب، في الفكر الفلسفي عند أبناء عصرنا. بإمكاننا أن نذكر، من بين الأحداث القريبة منا، اكتشاف الأهمية التي يتميّز بها، في نظر الفلسفة أيضاً، الوحي المسيحي، بوصفه الحدث التاريخي المركزي. وليس من باب الصدفة أن يصبح هذا الحدث محور تاريخ فلسفة أصبح شبه فصل جديد من فصول البحث البشري عن الحقيقة.
من بين العناصر الموضوعية في الفلسفة المسيحية نجد أيضاً ضرورة البحث في معقولية بعض الحقائق الواردة في الكتب المقدّسة، من بينها، مثلاً، ما أُكرِم به الإنسان من دعوة تفوق الطبيعة، وقضيةُ الخطيئة الأصلية نفسها. هذه المهمّات تحث العقل على الاعتراف بوجود ما هو حقُّ وعقلاني خارج الحدود الحصريّة التي قد ينـزوي فيها العقل. هذه القضايا توسّع، في الواقع، نطاق النشاط العقلاني.
لم يصبح الفلاسفة لاهوتيين في تنظيرهم في هذه العناصر، وذلك بمقدار ما تحاشوا العمل على فهم وشرح حقائق الإيمان انطلاقاً من الوحي. لقد استمرُّوا في العمل ضمن نطاقهم الخاصّ وبمنهجيتهم العقلانية البحت، ولكنهم وسّعوا أبحاثهم إلى مساحات جديدة من الحقيقة. ويسوغ القول إِن جزءاً كبيراً من الفلسفة الحديثة والمعاصرة لم يكن ليتحقق لولا كلام الله وأثره الحافز. هذا الواقع يحتفظ بكامل صدقيته، حتى تجاه ما نلحظه، بخيبة أمل، من إعراض عددٍ من مفكرّي القرون الأخيرة عن الأرثوذكسيّة المسيحيّة.
77. نجد للفلسفة وضعاً لافتاً آخر، عندما يركن اللاهوت نفسه إلى الفلسفة. الواقع أن اللاهوت قد احتاج ولا يزال يحتاج إلى الرفد الفلسفي. فالعمل اللاهوتي، بصفته نشاطاً من نشاطات العقل الناقد في ضؤ الإيمان، يفترض ويقتضي، في كل سعيه، عقلاً مدرّياً ومثقفاً على صعيد المفاهيم الفكرية والطرائق البرهانية. ثم إن اللاهوت بحاجة إلى الفلسفة كطرفٍ محاورٍ للتحقق من مفهومية تأكيداته وحقيقتها الشاملة. وليس من باب الصدفة أن يكون آباء الكنيسة ولاهوتيوُّ القرون الوسطى قد استعانوا بفلاسفة غير مسيحيين لهذه الوظيفة التفسيرية. هذا الواقع التاريخي ينوّه بقيمة الاستقلالية التي تحتفظ بها الفلسفة حتى في هذا الوضع الثالث، ولكنه يلفتنا أيضاً إلى ما يجب أن تخضع له الفلسفة من تطويرات عميقة.
إن ما أدته الفلسفة للاهوت من رفدٍ ضروري ورفيع هو الذي استحق لها، منذ زمن الآباء، لقب «خادمة اللاهوت». بيد أن هذا اللقب لم يطبَّق عليها للتعبير عن خضوع ذليل أو عن دور وظيفي بحت للفلسفة تجاه اللاهوت، ولكنه استُعمل في المعنى الذي توخّاه أرسطو في حديثه عن العلوم الاختبارية المستعملة في «خدمة» «الفلسفة الأولى». هذا التعبير الذي يصعب استعماله اليوم بسبب مبادىء الاستقلالية التي أتينا على ذكرها قد استُخدم، على مدى التاريخ، للدلالة على ضرورة العلاقة بين هذين العلمين واستحالة الفصل بينهما.
إذا أبى اللاهوتي أن يستعين بالفلسفة، فإنه يتعرّض لأن «يتفلسف» من غير أن يدري، وينحصر ضمن بنيات فكرية لا تساعد كثيراً في فهم الإيمان. وكذلك الفيلسوف إذا نفى كل علاقة باللاهوت، ظن نفسه ملزماً بأن يحتكر لذاته محتوى الإيمان المسيحي، كما جرى لبعضٍ من الفلاسفة الحديثين. في كلا الحالتين يتراءى خطر القضاء على المبادىء الأساسيّة المطالبة بالاستقلالية التي يجب أن يتمسَّك بها كلٌّ من الفلسفة واللاهوت.
وضع الفلسفة الذي نبحث فيه الآن يجب أن يخضع مباشرة، مع اللاهوت، لإشراف السلطة التعليمية ورقابتها، كما أشرت إلى ذلك قبلاً، وذلك بسبب ما لها من انعكاسات على استيعاب الوحي. فهناك حقائق إيمانية تنبثق من المقتضيات المحدّدة التي يجب على الفلسفة أن تراعيها كل مرّة تدخل في علاقة مع اللاهوت.
78. بنتيجة هذه الاعتبارات نفهم، بلا عناء، لماذا أثنت السلطة التعليمية مراراً على الفوائد النابعة من فكر القديس توما وجعلت من هذا الفكر دليلاً ونموذجاً للدروس اللاهوتية. ولم يكن موضوع اهتمام الكنيسة أن تتخذ موقفاً من المسائل الفلسفية البحتة ولا أن تفرض اعتناق قضايا فكرية خاصة. لقد كان هدف السلطة التعليمية ولا يزال أن تجعل من القديس توما نموذجاً صحيحاً لكلِ من يبحث عن الحقيقة. والواقع أن مقتضى العقل وقوة الإيمان قد وجدا في فكر القديس توما أرقى خلاصة استطاع الفكر أن يحققها، وذلك بأنه عرف كيف يحافظ على ما جاء به الوحي من بَدْعٍ جذريّ من دون أن يقلّل من قيمة النهج العقلاني.
79. أودّ أن أتوسّع في ما سلف من مضمون التعليم الكنسي، وأبيّن في هذا الجزء الأخير بعض المقتضيات التي يطرحها اللاهوت في أيامنا _ وما يطرحه كلام الله أولاً _ على الفكر الفلسفي وعلى الفلسفات المعاصرة. على الفيلسوف أن يعوّل _ كما أكدّت ذلك آنفاً _ على قواعد خاصة وأن يرتكز على مبادئه الخاصة. ولكن الحقيقة لا يمكن إلاّ أن تكون واحدة. ومن ثم لا يستطيع الوحي أبداً، مع مضمونه، أن ينتقص من قيمة العقل في اكتشافاته وفي استقلاليته المشروعة. ولكن العقل، من جهة، يجب ألا يفقد قدرته على التساؤل وطرح الأسئلة، عارفاً أنه لا يستطيع أن يحسب ذاته قيمة مطلقة وفريدة. الحقيقة الموحاة تضع الكائن في وضح النور النابع من سنى الكائن الأسمى القائم بذاته، وتنير الطريق أمام الفكر الفلسفي. وخلاصة القول أن الوحي المسيحي هو، في الحقيقة، نقطة التلاقي والتواجه بين الفكر الفلسفي والفكر اللاهوتي في علاقاتهما المتبادلة. ما نتمناه إذن على اللاهوتيين والفلاسفة أن يهتدوا بهدي سلطة الحقيقة الواحدة، فيصوغوا فلسفة تتجانس مع كلام الله. هذه الفلسفة تكون هي فسحة اللقاء بين الثقافات والإيمان المسيحي، ومكان التوافق بين المؤمنين وغير المؤمنين، ويكون ذلك دعماً للمسيحيين ليقتنعوا اقتناعاً أعمق من أن عمق الإيمان وسلامته يقويان عندما يرتبط الإيمان بفكر لا يتخلّى عنه. وأوكّد، مرة أخرى، أن آباء الكنيسة هم الذين يوجهوننا في هذا اليقين: «الإيمان نفسه ليس سوى فكر يعبّر عن إذعان . . . من يؤمن يعقل وعندما يعقل يؤمن . . . فإذا كان الإيمان لا يرتكز على العقل، فليس الإيمان شيئاً»[95]. وأيضاً: «إذا حذفنا الإذعان، حذفنا الإيمان، فبدون الإذعان ليس من إيمان»[96].
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 10:19 pm
الفصل السابع
المقتضيات والمسؤوليات في أيامنا
كلام الله ومقتضياته الملزمة
80. يحتوي الكتاب المقدّس، بطريقة ظاهرة أو متضمنة، على مجموعة من العناصر تمكّننا من الوصول إلى تصوّر للإنسان والعالم يتميّز بكثافة فلسفية حقيقية. لقد أدرك المسيحيون شيئاً فشيئاً غنى هذه النصوص المقدّسة. وما يتضح من ذلك أن الواقع الذي نختبره ليس بالأمر المطلق: فلا هو غير مخلوق، ولا يتولّد من ذاته. الله وحده مطلق. ثم إن صفحات الكتاب المقدّس ترسم لنا الإنسان مخلوقاً على صورة الله، مع ما تتضمنه هذه الرؤية من عناصر محدّدة تتناول كيانه وحرّيته وخلود روحه. وبما أن العالمَ لا يحظى باكتفاء ذاتي فكل وهم استقلالي يتجاهل العلاقة الجوهرية التي تنيط كل خليقة والإنسان نفسه بالله، يفضي حتماً إلى أوضاع مأساويّة تلغي البحث العقلاني عمّا يميز الوجود البشري من تناغم ومعنى.
معضلة الشرّ الأدبي ـ وهي أتعس أشكال الشر _ يعالجها الكتاب المقدّس أيضاً، مؤكداً أن الشرّ لا ينجم عن نقصٍ في المادّة بل عن جرحٍ في الإنسان مصدره انحراف في استعمال الحريّة البشرية. ونجد في كلام الله أخيراً إيضاحاً لمعنى الوجود وجواباً يوجه الإنسان إلى يسوع المسيح كلمةِ الله المتجسّد، وفيه ملء كمال الوجود البشري. ثمة نواحٍ أخرى يمكن تفسيرها انطلاقاً من قراءة النص المقدّس. وعلى كل، فما ينتج عن ذلك كله إنما هو رفض كل شكل من أشكال النسبويّة والماديّة والحلولية.
القناعة الأساسيّة في هذه الفلسفة المتضمنة في الكتاب المقدّس هو أن الحياة البشرية والعالم لهما معنى وتوجُّهٌ نحو اكتمالهما في يسوع المسيح. وسيبقى سرّ التجسّد دائماً هو المحور الذي يجب أن نتخذه منطلقاً لفهم لغز الوجود البشري والعالم المخلوق والله نفسه. في هذا السرّ لا بدّ للفلسفة من أن تواجه تحديّات قصوى، وذلك بأن العقل مدعوّ إلى أن يعتنق منطقاً يتخطى الحدود التي قد ينحصر ضمنها. ولكن تلك هي الطريقة الوحيدة التي تفضي بنا إلى قمة معنى الوجود. والواقع أن صميم جوهر الله وصميم جوهر الإنسان يصبحان في متناول العقل: ففي سرّ الكلمة المتجسّد تُصان كل من الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، وتبقى كل منهما مع استقلاليتها، وتتجلّى، في الوقت نفسه، الصلة الفريدة في علاقتهما المتبادلة من غير اختلاط ولا تشويش[97].
81. لا بدّ من أن نلحظ أن وجهاً من أبرز وجوه وضعنا الراهن هو «أزمة المعنى». إن وجهات النظر في الحياة والعالم _ وأكثرها ذو طابع علمي _ قد تكاثرت بحيث نشهد تفاقماً في ظاهرة تصدّع المعرفة. وهذا، بالتحديد، ما يعسّر ويجهض البحث عن معنى الحياة. وهناك ما هو أخطر: ففي هذا التشابك في المعطيات والأحداث الذي نعيش فيه والذي يبدو كأنه يكوّن نسيج الوجود، كثيرون يتساءلون: هل هناك بعد من معنىً للتساؤل عن المعنى. إن تعدّد النظريات المتنافسة في الجواب واختلاف النظريات في تفسير الكون وحياة الإنسان يثيران الشك في النفوس ويفضيان إلى الوقوع في الريبية واللامبالاة أو في مختلف أشكال العدمية. وينجم عن هذا كله أن العقل البشري يغشاه من اللَّبس والغموض في نمط تفاسيره ما يدفعه إلى مزيد من التقوقع على ذاته، ضمن حدود داخليّة، بمعزلِ عن كل مرجعيّة عُلْويّة. كل فلسفة لا تتساءل عن معنى الوجود تتعرض لخطر تحجيم العقل وحصره في الوظائف الأداتية بمنأىً عن كل شغفٍ بالبحث عن الحقيقة.
لكي تكون الفلسفة في تناغم مع كلام الله، لا بدّ لها من أن تكتسب، قبل كل شيء، بُعدَها الحكمي، وقدرتها على البحث في الحياة بمعناها الأخير والشامل. هذا المقتضى الأول هو، بعد الفحص والاستقصاء، بمثابة حافز مفيد جداً للفلسفة، لتكون منسجمة مع طبيعتها. بهذه الطريقة لا تكون الفلسفة مجرّد محكمة نقديّة حاسمة تبيّن لمختلف مجالات المعرفة العلمية مرتكزاتها وحدودها، بل تكون أيضاً المرجعيّة الأخيرة لتوحيد العلم والعمل الإنساني وتوجيههما نحو هدف ومعنىً أخيرين. هذا البعد الحكمي هو اليوم في غاية اللزوم لما نلحظه من تفاقم في القدرة التقنية البشريّة يتطلب وعياً متيقظاً ومتجدداً للقيم الأخيرة. فإذا كانت هذه الوسائل التقنية لا تتوخى إلاّ الأغراض المنفعية البحتة، فسرعان ما تظهر بربريتها وتتحوّل إلى طاقة هدامّة للجنس البشري[98].
كلام الله يكشف لنا غاية الإنسان الأخيرة ويضفي على تصرفاته في هذا العالم معنىً شاملاً. ومن ثم فهو يدعو الفلسفة إلى التطوّع للبحث عن هذا المعنى في مرتكزه الطبيعي وهو التوق الديني الذي يكوّن شخصية الإنسان. وكل فلسفة ترفض إمكانية وجود معنىً أخير وشامل، فهي ليست فلسفة نابية وحسب، بل فلسفة ضالة.
82. هذا الدور الحكمي، لا تستطيع أن تضطلع به أي فلسفة ليست هي نفسها علماً حقيقياً وصحيحاً يعالج الواقع في جوانبه الخاصة والنسبية _ سواء أكانت وظيفية أم شكليّة أم منفعيّة _ ولا يتناول حقيقته الكلية والنهائية، أي موضوع المعرفة في صميمه. هذا إذن مقتضىً ثانٍ: وهو أن نتثبَّت من قدرة الإنسان على الوصول إلى معرفة الحقيقة، معرفة تبلغ إلى الحقيقة الموضوعيّة، من منطلق مبدأ المعادلة بين الحقيقة والعقل الذي ارتكز عليه ملافنة الفلسفة المدرسية[99]. هذا المقتضى _ وهو من خصائص الإيمان _ قد ثبَّته صراحة المجمع الفاتيكاني الثاني: «لا يقتصر العقل في عمله على الظاهرات بل يستطيع أن يتعداها إلى الحقائق المعقولة، يدركها إدراكاً ثابتاً ولو اعترضه، في إدراكه، بعض الغموض والضعف، من جراء آثار الخطيئة»[100].
كل فلسفة ممعنة في الظاهرانية أو النسبوية لن تساعد في التعمّق في غنى كلام الله. فالكتاب المقدّس يفترض دائماً أن الإنسان، وإن ثبت عليه النفاق والبهتان، قادر على أن يدرك الحقيقة في صفائها وبساطتها. وإننا نجد في الكتب المقدّسة وبخاصة في العهد الجديد نصوصاً ومقولات ذات طابع أونطولوجي بحت. فالكتّاب الملهمون أرادوا أن يعبّروا عن مقولات حقيقية قادرة على أداء الحقيقة الموضوعية. ولا يمكن القول إن التقليد الكاثوليكي قد حاد عن الصواب عندما فهم بعض النصوص الواردة في كتابات القديس يوحنا والقديس بولس على أنها مقولات في كيان المسيح نفسه. عندما يسعى اللاهوت إلى فهم هذه المقولات وشرحها فهو بحاجة إلى رفد فلسفة لا تنكر على الإنسان إمكان معرفة تتميّز بحقيقتها الموضوعية، وإن كانت قابلة دوماً للاكتمال. وما جئنا على ذكره الآن يصحُّ أيضاً في أحكام الضمير الأدبي التي يفترض الكتاب المقدّس أنها تملك حقيقة موضوعيّة[101].
83. المقتضيان اللذان أتينا على ذكرهما يلحقهما مقتضىً ثالث: ضرورة فلسفة تتَّسم بقيمة ميتافيزيقية حقيقية، بإمكانها أن تتخطى المعطيات الاختبارية للوصول، في سعيها إلى الحقيقة، إلى ما هو مطلق ونهائي وأساسي. ذلك مقتضىً ضمني سواء في المعرفة الروحيّة أم في المعرفة التحليلية. وهو، خصوصاً، من مزايا معرفة الخير الأدبي الذي مرتكزه هو الخير الأسمى أي الله نفسه. ليس بوديّ أن أتحدّث هنا عن الميتافيزيقية من حيث هي مدرسة محدّدة أو تيار تاريخي خاص. أودّ فقط أن أصرّح أن الواقع والحقيقة يتخطيان الأمور الحدثانية والاختبارية، وأتمنّى أن أثبِّت قدرة الإنسان على معرفة هذا البعد العلوي والميتافيزيقي معرفة صحيحة وثابتة، وإن ناقصة وعلى سبيل القياس. ويجب، في هذا الصدد، ألاّ نحسب الميتافيزيقية بديلاً من الانتروبولوجية، لأن الميتافيزيقية هي التي تتيح إرساء مفهوم كرامة الإنسان انطلاقاً من طبيعته الروحية. ولا شك أن الإنسان هو المخوّل، في الطليعة وبطريقة خاصة، أن يدرك ماهية الكيان وينصرف من ثم إلى الفكر الميتافيزيقي.
حيثما يوجس الإنسان نداءً إلى المطلق والعلوي، يتراءى له الوجود في بعده الميتافيزيقي: أي في الحقيقة والجمال والقيم الأخلاقيّة وفي شخص الغير، في الكيان نفسه وفي الله. ثمة تحدٍّ كبير نواجهه اليوم في نهاية هذا الألف، وهو القدرة على الانتقال _ وهو أمر ضروري وملح _ من الظاهر إلى الأساس. ليس بالإمكان أن نتوقف على الاختبار وحسب، حتى عندما يعبّر هذا الاختبار ويكشف عن باطن الإنسان وروحيّته؛ لا بدّ للعقل المفكر من أن يبلغ الجوهر الروحاني والأساسي الذي يرسو عليه. الفكر الفلسفي الذي يرفض كل انفتاح ميتافيزيقي ليس مؤهلاً البتة لأن يضطلع بمهمة الوساطة في فهم الوحي.
كلام الله في علاقة دائمة مع ما يتخطّى الاختبار وحتى الفكر البشري نفسه. ولكن هذا «السرّ» لا يمكن أن يُكشف ولا اللاهوت بإمكانه أن يخوّلنا بعض فهمه[102]، إذا اقتصرت المعرفة البشريّة قطعاً على عالم الاختبار الحسّي. البحث الميتافيزيقي يظهر إذن بمثابة وساطة مميّزة في البحث اللاهوتي. كل لاهوت خالٍ من النظرة الميتافيزيقية لا يمكنه أن يذهب إلى أبعد من تحليل الاختبار الديني، ولا يتيح التعبير، بطريقة منطقية، عن الحقيقة الموحاة وما تتميّز به من قيمة شاملة وعلوّية.
إذا كنتُ أُلح على العنصر الميتافيزيقي فلأني مقتنع من أنه هو الوسيلة الضرورية للتغلّب على حالة التأزم التي تمتّد اليوم إلى قطاعات واسعة في الفلسفة ولتصحيح بعض التصرفات الشائعة في مجتمعنا.
84. أهميّة المعالجة الميتافيزيقية تزداد وضوحاً إذا اعتبرنا ما وصلت إليه العلوم التفسيريّة والبحوث اللغويّة في أيامنا. نتائج هذه الدراسات يمكن أن تفيد كثيراً في فهم الإيمان، وذلك بمقدار ما تساعدنا في استجلاء تركيبتنا الفكريّة وتعابيرنا اللغوية وكذلك المعاني التي تتناقلها اللغة؛ إلاّ أن هناك من المختصين بهذه العلوم من ينـزعون، في أبحاثهم، إلى الاكتفاء بالطريقة التي تُفهَم فيها الحقيقة وتُقال، ويتحاشون التحقيق في الطاقات التي يملكها العقل لاكتشاف ماهيتها. كيف لا نرى في مثل هذا الموقف الدليل على أزمة الثقة التي يجتازها عصرنا تجاه الطاقات التي ينعم بها العقل؟ وعندما تنـزع هذه الطروحات، بسبب المسلّمات المسبقة، إلى تعكير محتوى الإيمان أو إلى نفي صحته الشاملة فهي لا تخفض من قيمة العقل وحسب بل تضع ذاتها هي أيضاً خارج اللعبة. والواقع أن الإيمان يفترض جلياً أن اللغة البشرية بوسعها أن تعبّر عن الحقيقة الإلهية والعلويّة[103] بتعابير تشبيهية ولكنها لا تقلّ بلاغة عن غيرها. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كان بوسع كلام الله _ وهو دائماً كلام إلهي بلغة بشريّة _ أن يقول شيئاً عن الله. تفسير هذا الكلام لا يمكن أن يتنقل بنا فقط من تفسير إلى آخر من غير أن يتيح لنا الوصول إلى مقولة حقيقية في بساطتها؛ وإلاّ لم يكن ثمة من وحي إلهي، بل مجرّد تعبير عن مفاهيم بشريّة في شأنه تعالى أو ما نفترض أنه يفكّر في شأننا.
85. إني أعلم حق العلم أن هذه المقتضيات التي يفرضها كلام الله على الفلسفة قد تبدو صارمة في نظر الكثيرين ممن يعيشون الوضع الراهن في سياق البحث الفلسفي. وهذا بالضبط ما يحدوني إلى أن أتبنى ما لا يزال يردّده الأحبار العظام في تعليمهم منذ أجيال وأجيال وما كرّره المجمع الفاتيكاني الثاني، معبّراً بشدّة عن الاقتناع من أن الإنسان قادر على الوصول إلى تصوّر للمعرفة موحّد وعضوي. وهذه مهمة يجب على الفكر المسيحي أن يضطلع بها على مدى الألف المقبل من التاريخ المسيحي. تفتُّت المعرفة يحول دون ما يجب أن يكون عليه الإنسان المعاصر من وحدة باطنية، لأن هذا التفتُّت يجرّ عليه إلماماً بالحقيقة مصدّعاً، ومن ثم تصدّعاً في اكتناه المعنى. كيف تطيق الكنيسة ألاّ تهتمّ لهذا الخطر؟ هذه المهمة المنوطة بالرعاة على الصعيد الحكمي تنبع تواً من الإنجيل ولا يسعهم أن يستعفوا من واجب القيام بها.
أرى أن الذين يودون الاستجابة فلسفياً للمقتضيات التي يفرضها كلام الله على الفكر البشري، عليهم أن يبنوا خطابهم مرتكزاً على هذه المسلّمات ويضعوا ذواتهم في خطّ متماسك ومنسجم مع التقليد الكبير الذي ابتدأه القدامى وتابعه آباء الكنيسة ومعلّمو الفلسفة المدرسيّة واندمج أخيراً في المكاسب الجوهرية التي أحرزها الفكر الحديث والمعاصر. إذا عرف الفيلسوف كيف يغرف من هذا التقليد ويستلهمه، فلن يخلو من أن يكون وفياً لمقتضى استقلالية الفكر الفلسفي.
من اللافت، في هذا الصدد، وفي القرائن الراهنة، أن يقوم بعض الفلاسفة رواداً يعملون على إعادة اكتشاف التقليد ودوره الحاسم في الوصول إلى صيغة معتدلة في المعرفة. والواقع أن الركون إلى التقليد ليس مجرَّد تذكير بالماضي، بل هو الإقرار بقيمة تراث ثقافي هو ملك البشرية كلها. ويمكن القـول أيضاً إننا نحن المعنيّون بالتقليد وأنه لا يسوغ لنا أن نتلاعب به كما نشاء. ارتدادنا إلى جذور التقليد هو الذي يتيح لنا التعبير عن فكر مبتكر وجديد وشاخص إلى المستقبل. مثل هذا التذكير يصح أكثر في اللاهوت، ليس فقط لأن اللاهوت يعتمد التقليد الكنسي الحيّ ويغرف من معينه الأصلي[104]، بل لأنه يتوجب عليه، بسبب ذلك، أن يكون قادراً على اكتشاف التقليد اللاهوتي العميق الذي واكب الحقب السابقة وكذلك التقليد الفلسفي الثابت الذي استطاع، في حكمته الخالصة، أن يتخطى حدود الزمان والمكان.
86. الإلحاح على ضرورة علاقة تواصل وثيقة بين الفكر الفلسفي المعاصر والفكر الذي أفرزه التقليد المسيحي، يهدف إلى اتقاء الأخطار التي تلازم بعض أنماط من الفكر المنتشرة اليوم بطريقة لافتة. يبدو لي من المفيد أن أتوقف، ولو بإيجاز، عند بعض هذه النـزعات للتنبيه إلى الأضاليل والأخطار التي تهدّد النشاط الفلسفي.
أولى هذه النـزعات هي ما يُسمى بالانتقائية، وتشير إلى موقف من دأبوا في البحث والتعليم والنقاش وحتى في الجدل اللاهوتي، على أن يتبنّوا شتاتاً من الأفكار المتخذة من فلسفات مختلفة بدون التنبه لمنطقيتها وتماسكها ولا لانتسابها إلى مذهب معيّن ولا إلى قرائنها التاريخيّةِ؛ وهكذا يضعون أنفسهم في أوضاع لا تمكنّهم من أن يميّزوا ما في الفكر من حقيقة أو من ضلال أو انحراف. هناك أيضاً شكل آخر من الانتقائية ينقاد إليه بعض اللاهوتيين في استعمال المفردات الفلسفية بطريقة بلاغية مسرفة. هذا الضرب من الاستغلال لا يساعد في البحث عن الحقيقة ولا يُعِدّ العقل - اللاهوتي أو الفلسفي _ للتدليل بطريقة جدّية وعلمية. الاطلاع الدقيق والعميق على النظريات الفلسفية ولغتها الخاصة والقرآئن التي تكوّنت فيها يساعد في التغلّب على أخطار الانتقائية ويمكّن من إدراجها، بطريقة مناسبة، في البرهان اللاهوتي.
87. الانتقائية خطأ في الأسلوب ولكنه قد ينطوي على طروحات التاريخانية. فلكي نفهم جيداً نظرية سالفة، لا بدّ من أن نضعها في سياقها التاريخي والثقافي. الطرح الأساسي، في نظر التاريخانية، هو العمل، بالعكس، على إثبات حقيقة فلسفية انطلاقاً من انطباقها على حقبة معيّنة أو مهمة معيّنة في التاريخ. هكذا تنتفي، ولو ضمنياً، استمراريّة الحقيقة. تؤكد التاريخانية ان ما كان حقاً في زمن ما يمكن ألاّ يكون حقاً في زمن آخر. وخلاصة القول أن التاريخانية تحسب تاريخ الفكر لا أكثر من أطلال أرخيولوجية يُستعان بها لعرض مواقف من الماضي قد انتهى معظم أمرها، ولم يعد لها أي أثر في الحاضر. علينا، بالعكس، أن نحسب أن الحقيقة أو الضلال، وإن كان التعبير عنهما مرتبطاً بحقبة ما أو بثقافة ما، يجب، في كل حال، أن نتحققهما ونتفحصهما في حد ذاتهما، بالرغم من المسافة المكانية والزمانية.
في الفكر اللاهوتي، تسعى التاريخانية إلى أن تظهر، على أبعد حدّ، بمظهر «العصرانية». وبسبب اهتمامها - عن حق _ بأن تجعل الخطاب اللاهوتي عصرياً وفي متناول أهل زماننا، فهي لا تعوّل إلاّ على المقولات واللغة الفلسفية الأكثر حداثة، وتتغاضى عن الاعتراضات والانتقادات التي كان لا بدّ من إثارتها، عند اقتضاء الحاجة، في ضؤ التقليد. هذا الشكل من أشكال العصرانية، بسبب خلطها بين الحداثة والحقيقة، تبدو لنا عاجزة عن تلبية مقتضيات الحقيقة التي يقع على عاتق اللاهوت أن يلبّيها.
88. العلوميَّةخطر آخر لا بدّ من التنبّه له. هذه النظرية الفلسفيّة تأبى الاعتراف بأنماط من المعرفة غير الأنماط المعتمدة في العلوم الوضعية، وتعتبر ضرباً بحتاً من ضروب الخيال المعرفة الدينيّة واللاهوتيّة وكذلك العلم الأخلاقي والجمالي. وكانت هذه النظريّة، من قبل، تعتمد الوضعية والوضعية الحديثة أداة للتعبير عن آرائها، وكلاهما يرى أن المقولات الميتافيزيقية عارية من كل معنى. لقد ندّد النقد العلومي بهذا الموقف ولكن سرعان ما ظهر ثانية بملامح العلوميَّة الجديدة. في هذا المنظار، تمسي القيم مجرّد انفعالات شعوريّة وينتفي مفهوم الكيان ليحلّ محلّه الواقع البحت. يتحفّز العلم إذن للسيطرة على جميع قطاعات الوجود البشري، بواسطة التقدّم التقني. ولا شك أن ما أحرزته الأبحاث العلميّة والتقنيّة المعاصرة من نجاح لا جدل عليه، قد يساهم في تعميم الذهنيّة العلوميَّة التي لم يعد لها من حدود نظراً إلى الطريقة التي تسرّبت فيها إلى مختلف الثقافات ونظراً إلى التحوّلات الجذريّة التي أحدثتها.
لا بدّ من أن نلحظ - مع الأسف - أن العلوميَّة ترى كل ما له صلة بالسؤال عن معنى الحيـاة داخلاً في نطاق اللامعقول أو الخيال. في هذا التيار الفكري لسنا بأقلّ شعوراً بالخيبة تجاه طريقتها في مقاربة المعضلات الفلسفية الكبرى. فهي، إذا لم تتجاهلها، تعالجها بأساليب من التحليل الفكري ترتكز على أقيسة سطحية خالية من كل أساس عقلاني. وفي هذا ما يفقّر الفكر البشري ويحرمه القدرة على معالجة المعضلات الأساسيّة التي طرحها الإنسان على ذاته منذ مطلع وجوده على الأرض. في هذه الرؤية أفلحت العلوميَّة، بعدما أقصت النقد المتعلّق بالتقييم الأخلاقي، في إقناع الكثيرين من الفكرة القائلة بأن كل ما يمكن أن يتحقق تقنياً يصبح، بالفعل ذاته، مقبولاً على الصعيد الأدبي.
89. الذرائعية أو (البرغماتية) لا تقل خطراً عن العلوميَّة؛ وهي الحالة الذهنية التي يعتنقها الذين، في خياراتهم، يستبعدون الاحتكام إلى الفكر النظرياتي أو إلى التقييمات المرتكزة على مبادىء أخلاقية. هذا النمط الفكري نتائجه العلمية جسيمة ولافتة. وينتهي أتباع هذه الفلسفة، بوجه خاص، إلى الدفاع عن طريقة في ممارسة الديمقراطية لا تحفل بالاحتكام إلى مبادىء أخلاقية ثابتة: وهكذا يمسي صوت الأكثرية البرلمانية هو مقياس الحكم في المقبول أو المرفوض في التصرف البشري[105]. نتيجة هذه النظرية تظهر بوضوح: القرارات الأخلاقية الكبرى المتعلقة بالإنسان باتت تخضع للمداولات التي تتخذها، شيئاً فشيئاً، الأجهزة المؤسساتية. وينضاف إلى ذلك أن هذه الانتروبولوجية نفسها أمست خاضعة خضوعاً ذريعاً لنظرية منحازة في شأن الكائن البشري، فيها استبعاد للمعضلات الأخلاقية الكبرى والتحليلات الوجودية في معنى العذاب والتضحية، ومعنى الحياة والموت.
90. القضايا التي استعرضناها حتى الآن تفضي، بدورها، إلى نظرية أعمّ تبدو اليوم بمثابة النقطة المشتركة بين فلسفات كثيرة قد أقلعت عن النظر في معنى الكيان. إِني أفكّر هنا في النظرية العدميّة وهي، في آن واحد، رفض كل أساس وإنكار كل حقيقة موضوعية. العدمية، قبل أن تعارض مقتضيات كلام الله ومحتواه، هي إنكار إنسانية الإنسان وهويته. لا يسعنا أن ننسى أننا، عندما نهمل قضية الكيان، ننجرُّ حتماً إلى قطع كل صلة بالحقيقة الموضوعية، وبالتالي، بالمرتكز الذي ترسو عليه كرامة الإنسان. وهكذا ينفسح المجال لأن تمّحي من وجه الإنسان الملامح التي تجعله شبيهاً بالله فيندفع شيئاً فشيئاً في طريق التسلّط الهدام أو في طريق العزلة اليائسة. كل مرّة تُسحب الحقيقة من الإنسان، يمسي من باب التوهم أن نعيد إليه الحريّة. ولا غرو، فالحقيقة والحريّة إمَّا يسيران معاً وإمَّا يتلفان معاً وبئس المصير[106].
المقتضيات والمسؤوليات في أيامنا
كلام الله ومقتضياته الملزمة
80. يحتوي الكتاب المقدّس، بطريقة ظاهرة أو متضمنة، على مجموعة من العناصر تمكّننا من الوصول إلى تصوّر للإنسان والعالم يتميّز بكثافة فلسفية حقيقية. لقد أدرك المسيحيون شيئاً فشيئاً غنى هذه النصوص المقدّسة. وما يتضح من ذلك أن الواقع الذي نختبره ليس بالأمر المطلق: فلا هو غير مخلوق، ولا يتولّد من ذاته. الله وحده مطلق. ثم إن صفحات الكتاب المقدّس ترسم لنا الإنسان مخلوقاً على صورة الله، مع ما تتضمنه هذه الرؤية من عناصر محدّدة تتناول كيانه وحرّيته وخلود روحه. وبما أن العالمَ لا يحظى باكتفاء ذاتي فكل وهم استقلالي يتجاهل العلاقة الجوهرية التي تنيط كل خليقة والإنسان نفسه بالله، يفضي حتماً إلى أوضاع مأساويّة تلغي البحث العقلاني عمّا يميز الوجود البشري من تناغم ومعنى.
معضلة الشرّ الأدبي ـ وهي أتعس أشكال الشر _ يعالجها الكتاب المقدّس أيضاً، مؤكداً أن الشرّ لا ينجم عن نقصٍ في المادّة بل عن جرحٍ في الإنسان مصدره انحراف في استعمال الحريّة البشرية. ونجد في كلام الله أخيراً إيضاحاً لمعنى الوجود وجواباً يوجه الإنسان إلى يسوع المسيح كلمةِ الله المتجسّد، وفيه ملء كمال الوجود البشري. ثمة نواحٍ أخرى يمكن تفسيرها انطلاقاً من قراءة النص المقدّس. وعلى كل، فما ينتج عن ذلك كله إنما هو رفض كل شكل من أشكال النسبويّة والماديّة والحلولية.
القناعة الأساسيّة في هذه الفلسفة المتضمنة في الكتاب المقدّس هو أن الحياة البشرية والعالم لهما معنى وتوجُّهٌ نحو اكتمالهما في يسوع المسيح. وسيبقى سرّ التجسّد دائماً هو المحور الذي يجب أن نتخذه منطلقاً لفهم لغز الوجود البشري والعالم المخلوق والله نفسه. في هذا السرّ لا بدّ للفلسفة من أن تواجه تحديّات قصوى، وذلك بأن العقل مدعوّ إلى أن يعتنق منطقاً يتخطى الحدود التي قد ينحصر ضمنها. ولكن تلك هي الطريقة الوحيدة التي تفضي بنا إلى قمة معنى الوجود. والواقع أن صميم جوهر الله وصميم جوهر الإنسان يصبحان في متناول العقل: ففي سرّ الكلمة المتجسّد تُصان كل من الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، وتبقى كل منهما مع استقلاليتها، وتتجلّى، في الوقت نفسه، الصلة الفريدة في علاقتهما المتبادلة من غير اختلاط ولا تشويش[97].
81. لا بدّ من أن نلحظ أن وجهاً من أبرز وجوه وضعنا الراهن هو «أزمة المعنى». إن وجهات النظر في الحياة والعالم _ وأكثرها ذو طابع علمي _ قد تكاثرت بحيث نشهد تفاقماً في ظاهرة تصدّع المعرفة. وهذا، بالتحديد، ما يعسّر ويجهض البحث عن معنى الحياة. وهناك ما هو أخطر: ففي هذا التشابك في المعطيات والأحداث الذي نعيش فيه والذي يبدو كأنه يكوّن نسيج الوجود، كثيرون يتساءلون: هل هناك بعد من معنىً للتساؤل عن المعنى. إن تعدّد النظريات المتنافسة في الجواب واختلاف النظريات في تفسير الكون وحياة الإنسان يثيران الشك في النفوس ويفضيان إلى الوقوع في الريبية واللامبالاة أو في مختلف أشكال العدمية. وينجم عن هذا كله أن العقل البشري يغشاه من اللَّبس والغموض في نمط تفاسيره ما يدفعه إلى مزيد من التقوقع على ذاته، ضمن حدود داخليّة، بمعزلِ عن كل مرجعيّة عُلْويّة. كل فلسفة لا تتساءل عن معنى الوجود تتعرض لخطر تحجيم العقل وحصره في الوظائف الأداتية بمنأىً عن كل شغفٍ بالبحث عن الحقيقة.
لكي تكون الفلسفة في تناغم مع كلام الله، لا بدّ لها من أن تكتسب، قبل كل شيء، بُعدَها الحكمي، وقدرتها على البحث في الحياة بمعناها الأخير والشامل. هذا المقتضى الأول هو، بعد الفحص والاستقصاء، بمثابة حافز مفيد جداً للفلسفة، لتكون منسجمة مع طبيعتها. بهذه الطريقة لا تكون الفلسفة مجرّد محكمة نقديّة حاسمة تبيّن لمختلف مجالات المعرفة العلمية مرتكزاتها وحدودها، بل تكون أيضاً المرجعيّة الأخيرة لتوحيد العلم والعمل الإنساني وتوجيههما نحو هدف ومعنىً أخيرين. هذا البعد الحكمي هو اليوم في غاية اللزوم لما نلحظه من تفاقم في القدرة التقنية البشريّة يتطلب وعياً متيقظاً ومتجدداً للقيم الأخيرة. فإذا كانت هذه الوسائل التقنية لا تتوخى إلاّ الأغراض المنفعية البحتة، فسرعان ما تظهر بربريتها وتتحوّل إلى طاقة هدامّة للجنس البشري[98].
كلام الله يكشف لنا غاية الإنسان الأخيرة ويضفي على تصرفاته في هذا العالم معنىً شاملاً. ومن ثم فهو يدعو الفلسفة إلى التطوّع للبحث عن هذا المعنى في مرتكزه الطبيعي وهو التوق الديني الذي يكوّن شخصية الإنسان. وكل فلسفة ترفض إمكانية وجود معنىً أخير وشامل، فهي ليست فلسفة نابية وحسب، بل فلسفة ضالة.
82. هذا الدور الحكمي، لا تستطيع أن تضطلع به أي فلسفة ليست هي نفسها علماً حقيقياً وصحيحاً يعالج الواقع في جوانبه الخاصة والنسبية _ سواء أكانت وظيفية أم شكليّة أم منفعيّة _ ولا يتناول حقيقته الكلية والنهائية، أي موضوع المعرفة في صميمه. هذا إذن مقتضىً ثانٍ: وهو أن نتثبَّت من قدرة الإنسان على الوصول إلى معرفة الحقيقة، معرفة تبلغ إلى الحقيقة الموضوعيّة، من منطلق مبدأ المعادلة بين الحقيقة والعقل الذي ارتكز عليه ملافنة الفلسفة المدرسية[99]. هذا المقتضى _ وهو من خصائص الإيمان _ قد ثبَّته صراحة المجمع الفاتيكاني الثاني: «لا يقتصر العقل في عمله على الظاهرات بل يستطيع أن يتعداها إلى الحقائق المعقولة، يدركها إدراكاً ثابتاً ولو اعترضه، في إدراكه، بعض الغموض والضعف، من جراء آثار الخطيئة»[100].
كل فلسفة ممعنة في الظاهرانية أو النسبوية لن تساعد في التعمّق في غنى كلام الله. فالكتاب المقدّس يفترض دائماً أن الإنسان، وإن ثبت عليه النفاق والبهتان، قادر على أن يدرك الحقيقة في صفائها وبساطتها. وإننا نجد في الكتب المقدّسة وبخاصة في العهد الجديد نصوصاً ومقولات ذات طابع أونطولوجي بحت. فالكتّاب الملهمون أرادوا أن يعبّروا عن مقولات حقيقية قادرة على أداء الحقيقة الموضوعية. ولا يمكن القول إن التقليد الكاثوليكي قد حاد عن الصواب عندما فهم بعض النصوص الواردة في كتابات القديس يوحنا والقديس بولس على أنها مقولات في كيان المسيح نفسه. عندما يسعى اللاهوت إلى فهم هذه المقولات وشرحها فهو بحاجة إلى رفد فلسفة لا تنكر على الإنسان إمكان معرفة تتميّز بحقيقتها الموضوعية، وإن كانت قابلة دوماً للاكتمال. وما جئنا على ذكره الآن يصحُّ أيضاً في أحكام الضمير الأدبي التي يفترض الكتاب المقدّس أنها تملك حقيقة موضوعيّة[101].
83. المقتضيان اللذان أتينا على ذكرهما يلحقهما مقتضىً ثالث: ضرورة فلسفة تتَّسم بقيمة ميتافيزيقية حقيقية، بإمكانها أن تتخطى المعطيات الاختبارية للوصول، في سعيها إلى الحقيقة، إلى ما هو مطلق ونهائي وأساسي. ذلك مقتضىً ضمني سواء في المعرفة الروحيّة أم في المعرفة التحليلية. وهو، خصوصاً، من مزايا معرفة الخير الأدبي الذي مرتكزه هو الخير الأسمى أي الله نفسه. ليس بوديّ أن أتحدّث هنا عن الميتافيزيقية من حيث هي مدرسة محدّدة أو تيار تاريخي خاص. أودّ فقط أن أصرّح أن الواقع والحقيقة يتخطيان الأمور الحدثانية والاختبارية، وأتمنّى أن أثبِّت قدرة الإنسان على معرفة هذا البعد العلوي والميتافيزيقي معرفة صحيحة وثابتة، وإن ناقصة وعلى سبيل القياس. ويجب، في هذا الصدد، ألاّ نحسب الميتافيزيقية بديلاً من الانتروبولوجية، لأن الميتافيزيقية هي التي تتيح إرساء مفهوم كرامة الإنسان انطلاقاً من طبيعته الروحية. ولا شك أن الإنسان هو المخوّل، في الطليعة وبطريقة خاصة، أن يدرك ماهية الكيان وينصرف من ثم إلى الفكر الميتافيزيقي.
حيثما يوجس الإنسان نداءً إلى المطلق والعلوي، يتراءى له الوجود في بعده الميتافيزيقي: أي في الحقيقة والجمال والقيم الأخلاقيّة وفي شخص الغير، في الكيان نفسه وفي الله. ثمة تحدٍّ كبير نواجهه اليوم في نهاية هذا الألف، وهو القدرة على الانتقال _ وهو أمر ضروري وملح _ من الظاهر إلى الأساس. ليس بالإمكان أن نتوقف على الاختبار وحسب، حتى عندما يعبّر هذا الاختبار ويكشف عن باطن الإنسان وروحيّته؛ لا بدّ للعقل المفكر من أن يبلغ الجوهر الروحاني والأساسي الذي يرسو عليه. الفكر الفلسفي الذي يرفض كل انفتاح ميتافيزيقي ليس مؤهلاً البتة لأن يضطلع بمهمة الوساطة في فهم الوحي.
كلام الله في علاقة دائمة مع ما يتخطّى الاختبار وحتى الفكر البشري نفسه. ولكن هذا «السرّ» لا يمكن أن يُكشف ولا اللاهوت بإمكانه أن يخوّلنا بعض فهمه[102]، إذا اقتصرت المعرفة البشريّة قطعاً على عالم الاختبار الحسّي. البحث الميتافيزيقي يظهر إذن بمثابة وساطة مميّزة في البحث اللاهوتي. كل لاهوت خالٍ من النظرة الميتافيزيقية لا يمكنه أن يذهب إلى أبعد من تحليل الاختبار الديني، ولا يتيح التعبير، بطريقة منطقية، عن الحقيقة الموحاة وما تتميّز به من قيمة شاملة وعلوّية.
إذا كنتُ أُلح على العنصر الميتافيزيقي فلأني مقتنع من أنه هو الوسيلة الضرورية للتغلّب على حالة التأزم التي تمتّد اليوم إلى قطاعات واسعة في الفلسفة ولتصحيح بعض التصرفات الشائعة في مجتمعنا.
84. أهميّة المعالجة الميتافيزيقية تزداد وضوحاً إذا اعتبرنا ما وصلت إليه العلوم التفسيريّة والبحوث اللغويّة في أيامنا. نتائج هذه الدراسات يمكن أن تفيد كثيراً في فهم الإيمان، وذلك بمقدار ما تساعدنا في استجلاء تركيبتنا الفكريّة وتعابيرنا اللغوية وكذلك المعاني التي تتناقلها اللغة؛ إلاّ أن هناك من المختصين بهذه العلوم من ينـزعون، في أبحاثهم، إلى الاكتفاء بالطريقة التي تُفهَم فيها الحقيقة وتُقال، ويتحاشون التحقيق في الطاقات التي يملكها العقل لاكتشاف ماهيتها. كيف لا نرى في مثل هذا الموقف الدليل على أزمة الثقة التي يجتازها عصرنا تجاه الطاقات التي ينعم بها العقل؟ وعندما تنـزع هذه الطروحات، بسبب المسلّمات المسبقة، إلى تعكير محتوى الإيمان أو إلى نفي صحته الشاملة فهي لا تخفض من قيمة العقل وحسب بل تضع ذاتها هي أيضاً خارج اللعبة. والواقع أن الإيمان يفترض جلياً أن اللغة البشرية بوسعها أن تعبّر عن الحقيقة الإلهية والعلويّة[103] بتعابير تشبيهية ولكنها لا تقلّ بلاغة عن غيرها. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كان بوسع كلام الله _ وهو دائماً كلام إلهي بلغة بشريّة _ أن يقول شيئاً عن الله. تفسير هذا الكلام لا يمكن أن يتنقل بنا فقط من تفسير إلى آخر من غير أن يتيح لنا الوصول إلى مقولة حقيقية في بساطتها؛ وإلاّ لم يكن ثمة من وحي إلهي، بل مجرّد تعبير عن مفاهيم بشريّة في شأنه تعالى أو ما نفترض أنه يفكّر في شأننا.
85. إني أعلم حق العلم أن هذه المقتضيات التي يفرضها كلام الله على الفلسفة قد تبدو صارمة في نظر الكثيرين ممن يعيشون الوضع الراهن في سياق البحث الفلسفي. وهذا بالضبط ما يحدوني إلى أن أتبنى ما لا يزال يردّده الأحبار العظام في تعليمهم منذ أجيال وأجيال وما كرّره المجمع الفاتيكاني الثاني، معبّراً بشدّة عن الاقتناع من أن الإنسان قادر على الوصول إلى تصوّر للمعرفة موحّد وعضوي. وهذه مهمة يجب على الفكر المسيحي أن يضطلع بها على مدى الألف المقبل من التاريخ المسيحي. تفتُّت المعرفة يحول دون ما يجب أن يكون عليه الإنسان المعاصر من وحدة باطنية، لأن هذا التفتُّت يجرّ عليه إلماماً بالحقيقة مصدّعاً، ومن ثم تصدّعاً في اكتناه المعنى. كيف تطيق الكنيسة ألاّ تهتمّ لهذا الخطر؟ هذه المهمة المنوطة بالرعاة على الصعيد الحكمي تنبع تواً من الإنجيل ولا يسعهم أن يستعفوا من واجب القيام بها.
أرى أن الذين يودون الاستجابة فلسفياً للمقتضيات التي يفرضها كلام الله على الفكر البشري، عليهم أن يبنوا خطابهم مرتكزاً على هذه المسلّمات ويضعوا ذواتهم في خطّ متماسك ومنسجم مع التقليد الكبير الذي ابتدأه القدامى وتابعه آباء الكنيسة ومعلّمو الفلسفة المدرسيّة واندمج أخيراً في المكاسب الجوهرية التي أحرزها الفكر الحديث والمعاصر. إذا عرف الفيلسوف كيف يغرف من هذا التقليد ويستلهمه، فلن يخلو من أن يكون وفياً لمقتضى استقلالية الفكر الفلسفي.
من اللافت، في هذا الصدد، وفي القرائن الراهنة، أن يقوم بعض الفلاسفة رواداً يعملون على إعادة اكتشاف التقليد ودوره الحاسم في الوصول إلى صيغة معتدلة في المعرفة. والواقع أن الركون إلى التقليد ليس مجرَّد تذكير بالماضي، بل هو الإقرار بقيمة تراث ثقافي هو ملك البشرية كلها. ويمكن القـول أيضاً إننا نحن المعنيّون بالتقليد وأنه لا يسوغ لنا أن نتلاعب به كما نشاء. ارتدادنا إلى جذور التقليد هو الذي يتيح لنا التعبير عن فكر مبتكر وجديد وشاخص إلى المستقبل. مثل هذا التذكير يصح أكثر في اللاهوت، ليس فقط لأن اللاهوت يعتمد التقليد الكنسي الحيّ ويغرف من معينه الأصلي[104]، بل لأنه يتوجب عليه، بسبب ذلك، أن يكون قادراً على اكتشاف التقليد اللاهوتي العميق الذي واكب الحقب السابقة وكذلك التقليد الفلسفي الثابت الذي استطاع، في حكمته الخالصة، أن يتخطى حدود الزمان والمكان.
86. الإلحاح على ضرورة علاقة تواصل وثيقة بين الفكر الفلسفي المعاصر والفكر الذي أفرزه التقليد المسيحي، يهدف إلى اتقاء الأخطار التي تلازم بعض أنماط من الفكر المنتشرة اليوم بطريقة لافتة. يبدو لي من المفيد أن أتوقف، ولو بإيجاز، عند بعض هذه النـزعات للتنبيه إلى الأضاليل والأخطار التي تهدّد النشاط الفلسفي.
أولى هذه النـزعات هي ما يُسمى بالانتقائية، وتشير إلى موقف من دأبوا في البحث والتعليم والنقاش وحتى في الجدل اللاهوتي، على أن يتبنّوا شتاتاً من الأفكار المتخذة من فلسفات مختلفة بدون التنبه لمنطقيتها وتماسكها ولا لانتسابها إلى مذهب معيّن ولا إلى قرائنها التاريخيّةِ؛ وهكذا يضعون أنفسهم في أوضاع لا تمكنّهم من أن يميّزوا ما في الفكر من حقيقة أو من ضلال أو انحراف. هناك أيضاً شكل آخر من الانتقائية ينقاد إليه بعض اللاهوتيين في استعمال المفردات الفلسفية بطريقة بلاغية مسرفة. هذا الضرب من الاستغلال لا يساعد في البحث عن الحقيقة ولا يُعِدّ العقل - اللاهوتي أو الفلسفي _ للتدليل بطريقة جدّية وعلمية. الاطلاع الدقيق والعميق على النظريات الفلسفية ولغتها الخاصة والقرآئن التي تكوّنت فيها يساعد في التغلّب على أخطار الانتقائية ويمكّن من إدراجها، بطريقة مناسبة، في البرهان اللاهوتي.
87. الانتقائية خطأ في الأسلوب ولكنه قد ينطوي على طروحات التاريخانية. فلكي نفهم جيداً نظرية سالفة، لا بدّ من أن نضعها في سياقها التاريخي والثقافي. الطرح الأساسي، في نظر التاريخانية، هو العمل، بالعكس، على إثبات حقيقة فلسفية انطلاقاً من انطباقها على حقبة معيّنة أو مهمة معيّنة في التاريخ. هكذا تنتفي، ولو ضمنياً، استمراريّة الحقيقة. تؤكد التاريخانية ان ما كان حقاً في زمن ما يمكن ألاّ يكون حقاً في زمن آخر. وخلاصة القول أن التاريخانية تحسب تاريخ الفكر لا أكثر من أطلال أرخيولوجية يُستعان بها لعرض مواقف من الماضي قد انتهى معظم أمرها، ولم يعد لها أي أثر في الحاضر. علينا، بالعكس، أن نحسب أن الحقيقة أو الضلال، وإن كان التعبير عنهما مرتبطاً بحقبة ما أو بثقافة ما، يجب، في كل حال، أن نتحققهما ونتفحصهما في حد ذاتهما، بالرغم من المسافة المكانية والزمانية.
في الفكر اللاهوتي، تسعى التاريخانية إلى أن تظهر، على أبعد حدّ، بمظهر «العصرانية». وبسبب اهتمامها - عن حق _ بأن تجعل الخطاب اللاهوتي عصرياً وفي متناول أهل زماننا، فهي لا تعوّل إلاّ على المقولات واللغة الفلسفية الأكثر حداثة، وتتغاضى عن الاعتراضات والانتقادات التي كان لا بدّ من إثارتها، عند اقتضاء الحاجة، في ضؤ التقليد. هذا الشكل من أشكال العصرانية، بسبب خلطها بين الحداثة والحقيقة، تبدو لنا عاجزة عن تلبية مقتضيات الحقيقة التي يقع على عاتق اللاهوت أن يلبّيها.
88. العلوميَّةخطر آخر لا بدّ من التنبّه له. هذه النظرية الفلسفيّة تأبى الاعتراف بأنماط من المعرفة غير الأنماط المعتمدة في العلوم الوضعية، وتعتبر ضرباً بحتاً من ضروب الخيال المعرفة الدينيّة واللاهوتيّة وكذلك العلم الأخلاقي والجمالي. وكانت هذه النظريّة، من قبل، تعتمد الوضعية والوضعية الحديثة أداة للتعبير عن آرائها، وكلاهما يرى أن المقولات الميتافيزيقية عارية من كل معنى. لقد ندّد النقد العلومي بهذا الموقف ولكن سرعان ما ظهر ثانية بملامح العلوميَّة الجديدة. في هذا المنظار، تمسي القيم مجرّد انفعالات شعوريّة وينتفي مفهوم الكيان ليحلّ محلّه الواقع البحت. يتحفّز العلم إذن للسيطرة على جميع قطاعات الوجود البشري، بواسطة التقدّم التقني. ولا شك أن ما أحرزته الأبحاث العلميّة والتقنيّة المعاصرة من نجاح لا جدل عليه، قد يساهم في تعميم الذهنيّة العلوميَّة التي لم يعد لها من حدود نظراً إلى الطريقة التي تسرّبت فيها إلى مختلف الثقافات ونظراً إلى التحوّلات الجذريّة التي أحدثتها.
لا بدّ من أن نلحظ - مع الأسف - أن العلوميَّة ترى كل ما له صلة بالسؤال عن معنى الحيـاة داخلاً في نطاق اللامعقول أو الخيال. في هذا التيار الفكري لسنا بأقلّ شعوراً بالخيبة تجاه طريقتها في مقاربة المعضلات الفلسفية الكبرى. فهي، إذا لم تتجاهلها، تعالجها بأساليب من التحليل الفكري ترتكز على أقيسة سطحية خالية من كل أساس عقلاني. وفي هذا ما يفقّر الفكر البشري ويحرمه القدرة على معالجة المعضلات الأساسيّة التي طرحها الإنسان على ذاته منذ مطلع وجوده على الأرض. في هذه الرؤية أفلحت العلوميَّة، بعدما أقصت النقد المتعلّق بالتقييم الأخلاقي، في إقناع الكثيرين من الفكرة القائلة بأن كل ما يمكن أن يتحقق تقنياً يصبح، بالفعل ذاته، مقبولاً على الصعيد الأدبي.
89. الذرائعية أو (البرغماتية) لا تقل خطراً عن العلوميَّة؛ وهي الحالة الذهنية التي يعتنقها الذين، في خياراتهم، يستبعدون الاحتكام إلى الفكر النظرياتي أو إلى التقييمات المرتكزة على مبادىء أخلاقية. هذا النمط الفكري نتائجه العلمية جسيمة ولافتة. وينتهي أتباع هذه الفلسفة، بوجه خاص، إلى الدفاع عن طريقة في ممارسة الديمقراطية لا تحفل بالاحتكام إلى مبادىء أخلاقية ثابتة: وهكذا يمسي صوت الأكثرية البرلمانية هو مقياس الحكم في المقبول أو المرفوض في التصرف البشري[105]. نتيجة هذه النظرية تظهر بوضوح: القرارات الأخلاقية الكبرى المتعلقة بالإنسان باتت تخضع للمداولات التي تتخذها، شيئاً فشيئاً، الأجهزة المؤسساتية. وينضاف إلى ذلك أن هذه الانتروبولوجية نفسها أمست خاضعة خضوعاً ذريعاً لنظرية منحازة في شأن الكائن البشري، فيها استبعاد للمعضلات الأخلاقية الكبرى والتحليلات الوجودية في معنى العذاب والتضحية، ومعنى الحياة والموت.
90. القضايا التي استعرضناها حتى الآن تفضي، بدورها، إلى نظرية أعمّ تبدو اليوم بمثابة النقطة المشتركة بين فلسفات كثيرة قد أقلعت عن النظر في معنى الكيان. إِني أفكّر هنا في النظرية العدميّة وهي، في آن واحد، رفض كل أساس وإنكار كل حقيقة موضوعية. العدمية، قبل أن تعارض مقتضيات كلام الله ومحتواه، هي إنكار إنسانية الإنسان وهويته. لا يسعنا أن ننسى أننا، عندما نهمل قضية الكيان، ننجرُّ حتماً إلى قطع كل صلة بالحقيقة الموضوعية، وبالتالي، بالمرتكز الذي ترسو عليه كرامة الإنسان. وهكذا ينفسح المجال لأن تمّحي من وجه الإنسان الملامح التي تجعله شبيهاً بالله فيندفع شيئاً فشيئاً في طريق التسلّط الهدام أو في طريق العزلة اليائسة. كل مرّة تُسحب الحقيقة من الإنسان، يمسي من باب التوهم أن نعيد إليه الحريّة. ولا غرو، فالحقيقة والحريّة إمَّا يسيران معاً وإمَّا يتلفان معاً وبئس المصير[106].
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 10:21 pm
91. لم يكن في نيتي، وأنا أعلّق على التيارات الفكرية التي أتيت على ذكرها، أن أرسم صورة كاملة عن وضع الفلسفة في حالتها الراهنة: وعلى كلٍ، فإنه من الصعب أن نحصرها في لوحة موحّدة. وأود أن أؤكد أن تراث العلم والحكمة قد ازداد غنى في مجالات كثيرة. وحسبنا أن نذكر المنطق وفلسفة اللغة والمعرفتية وفلسفة الطبيعة وعلم الإنسان والتعمق في تحليل الأساليب الوجدانيّة في المعرفة، والمحاولة الوجوديّة في تحليل الحريّة. ويتضح لنا، من جهة أخرى، أن تأكيد مبدأ المثولية _ وهو مركزي في ادّعاء العقلانيّة _ قد أثار منذ القرن الفائت ردوداً أدّت إلى إعادة نظر جذرية في المسلّمات المحسوبة منيعة على كل جدل. هكذا ظهرت تيارات لا عقلانية في حين أخذ النقد يؤكد بوضوح بطلان المبدإ القائل باستقلالية العقل المطلقة.
هناك مفكرون أطلقوا على عصرنا صفة «ما بعد الحداثة ». هذه التسمية المتواترة الاستعمال في قرائن مختلفة جداً بعضها عن بعض تشير إلى ظهور عوامل جديدة استطاعت، بامتدادها وفاعليتها، أن تحدث تحوّلات لافتة ودائمة. هذا النعت استُعمل أولاً للتعبير عن ظاهرات جماليّة أو اجتماعيّة او تقنولوجية؛ ثم انتقل إلى ميدان الفلسفة ولكنه ظل على شيء من الغموض، لأن الحكم على ما نصفه بما «بعد الحداثة» يكون مرة إيجابياً ومرة سلبياً، ثم لأن ليس ثمة إجماع على المعضلة الدقيقة المتعلقة بتحديد مختلف حقب التاريخ. ولكن ليس من شك في أن التيَّارات الفكرية المنتسبة إلى حقبة «ما بعد الحداثة» جديرة بأن نهتم لها اهتماماً متنبهاً. في نظر بعض هذه التيارات أن وقت اليقينيات قد ولّى بلا رجعة، وأن على الإنسان، من الآن فصاعداً، أن يتعوّد العيش في جوّ انتفاء كل معنى، وتحت مظلة الوقتي والزائل. وهناك من الكُتَّاب _ وهم كثر _ من ينكرون أيضاً يقينيات الإيمان، في نقدهم الهدام لكل يقين، وفي جهلهم التمييزات التي لا بدّ منها.
هذه العدمية تجد لها بعض ما يثبتها في خبرة الشر الفظيعة التي وسمت عصرنا. في مواجهة هذه الخبرة الفاجعة لم تتمكن التفاؤلية العقلانية من الصمود، بعدما توسمَّت في التاريخ مسيرة العقل الظافرة، وفي العقل ينبوع السعادة والحريّة. وقد نتج عن ذلك أن أخطر ما يهدّد الإنسان في نهاية القرن هو تجربة الانسياق إلى اليأس.
وإنما يبقى صحيحاً أن شيئاً من الذهنية الوضعية لا يزال يروّج للوهم القائل بأن الإنسان، بفضل مكاسبه العلمية والتقنية، وبصفته كائناً خلاقاً، يستطيع وحده أن يجعل ذاته سيداً مطلقاً يسيطر على مصيره.
مهامّ الفلسفة في أيامنا
92. في مختلف حقب التاريخ، وجد اللاهوت، بصفته قيّماً على فهم الوحي، ما يدفعه دائماً إلى الاستفادة من العناصر المبثوثة في مختلف الثقافات ليُدخِل فيها، بواسطته، محتوى الإيمان طبقاً لأسلوب عقلاني متماسك. واليوم أيضاً يتحمل اللاهوت مهمة مزدوجة. فمن جهة، عليه أن يضطلع بالرسالة التي وكلها إليه المجمع الفاتيكاني الثاني يوم ذاك: وهي تجديد الأساليب في سبيل خدمة أفعل لهدف البشارة. كيـف لا نذكر، في هذا الصدد، الكلمات التي نطق بها الحبر الأعظم يوحنا الثالث والعشرون، عند افتتاح المجمع؟ قال يومها: «لا بدّ لهذه العقيدة من أن تلبّي الترّقب الشديد الكامن في نفوس الذين يحبّون الديانة المسيحية الكاثوليكية والرسولية فتتوسع معرفتها وتتعمق وتساهم في إخصاب الأذهان وتنشئتها. ولا بدّ من أن نسعى إلى التمعن في هذه العقيدة الأكيدة والثابتة والمفروض أن نتقيد بها تقيداً مخلصاً، وعلينا عرضها بالطريقة التي يستسيغها أهل زماننا»[107]. وعلى اللاهوت، من جهة أخرى، أن يشخص بنظره إلى الحقيقة الأخيرة التي وكلها إليه الوحي، ولا يكتفي بالتوقف على الحقائق المرحلية. ويحسن باللاهوتي أن يتذكر أن عمله يلبي «الدينامية الماثلة في الإيمان نفسه»، وأن موضوع بحثه إنما هو «الحقيقة والله الحي وقصده الخلاصي الذي كشفه يسوع المسيح»[108]. هذا الواجب الذي يقع أولاً على اللاهوت يتناول الفلسفة أيضاً. إن مجموع المشكلات التي تفرض ذاتها اليوم يتطلب عملاً مشتركاً، وإن بأساليب مختلفة، حتى يعود الناس إلى الاعتراف بالحقيقة والتعبير عنها. الحقيقة _ وهي المسيح _ تفرض ذاتها سلطة شاملة تسوس وتحفز وتنمي (را أف 4، 15) اللاهوت والفلسفة على السواء.
الاعتقاد بأن الإنسان بوسعه أن يدرك حقيقة يعترف بها الجميع ليس مصدر تشدّد وتعصب، بل هو بالعكس شرط ضروري لكل حوار بين الأشخاص مخلصٍ وسليم. بهذا الشرط وحده يصبح بالإمكان التغلب على الانقسامات والسير معاً في الطريق المؤديّة إلى الحقيقة الكاملة، واتباع الدروب التي لا يعرفها إلاّ روح الرب الناهض من بين الأمـوات[109]. بالنسـبة إلى مهامّ اللاهوت في أيامنا، أودّ الآن أن أبيّن كيف تبدو عملياً ضرورة الوحدة في عصرنا.
93. الهدف الرئيس الذي يتوخاه اللاهوت هو العمل على فهم الوحي ومضمون الإيمان. إلاّ أن المحور الحقيقي لكل فكر لاهوتي إنما هو تأمل سرّ الله واحداً وثالوثاً. ولا نستطيع أن نبلغ هذا الهدف إلاّ بإِعمال الفكر في سرّ تجسد ابن الله الذي صار إنساناً وارتضى أن يتألم ويموت؛ وقد انتهى هذا السرّ في قيامته المجيدة وصعوده وجلوسه إلى يمين الآب، وإرساله روح الحق ليقيم كنيسته ويحييها. من هذا الملحظ يتضح أن أولى مهمات اللاهوت هي أن يفهم كيف أخلى الله ذاته، وهو للعقل البشري سرّ عظيم حقاّ لأن العقل البشري يستحيل عليه أن يسلّم بأن العذاب والموت يستطيعان أن يعبرّا عن الحب الذي يبذل ذاته من غير أن يتوقع في مقابل ذلك شيئاً. من هذا الملحظ، أولى المقتضيات وألحُّها هو العمل على تفسير النصوص تفسيراً دقيقاً: النصوص الكتابية أولاً ثم النصوص التي تعكس التقليد الحيّ في الكنيسة. في هذا الصدد، تُطرح اليوم أسئلة مستحدثة جزئياً، وليس لها حلٌّ شافٍ بدون رفد الفلسفة.
94. أول عنصرٍ مشكلٍ يتناول العلاقة بين المفهوم والحقيقة. المصادر التي يفسّرها اللاهوتي، على غرار كل نصّ آخر، تنقل إلينا أوّلاً «مفهوماً»، لا بدّ من إدراكه وعرضه. والواقع أن هذا المفهوم إنما هو الحقيقة في شأن الله، ينقلها إلينا الله نفسه من خلال النصّ المقدّس. هكذا، في لغة البشر، تتجسد لغة الله الذي ينقل إلينا حقيقته «بتنازل عجيب» ينسجم مع منطق التجسّد[110]. لا بدّ إذن للاهوت، عندما يفسّر مصادر الوحي، أن يتساءل ما هي الحقيقة العميقة والصحيحة التي تبغي النصوص أن تنقلها إلينا، مع اعتبار[111] الحدود اللغوية.
في شأن النصوص الكتابية، وبخاصة الأناجيل، لا تنحصر، ولا شك، حقيقتها في رواية مجرّد أحداث تاريخية أو في سرد وقائع حياديّة، كما ترى الفلسفة الوضعية التاريخانية. هذه النصوص تسرد، بالعكس، أحداثاً تتخطى حقيقتُها الواقع التاريخي الصرف. هذه الحقيقة تكمن في مفهوم هذه الأحداث ضمن تاريخ الخلاص ولأجل تاريخ الخلاص. هذه الحقيقة تلقى تفسيرها الكامل في القراءة التي تتابعها الكنيسة عبر الأجيال، محتفظة بمعناها الأصيل بمنأى عن كل تحريف. من الملحّ إذن أن نتساءل من الناحية الفلسفية أيضاً عن العلاقة القائمة بين الشيء ومعناه، وعليها يرتكز معنى التاريخ في طابعه المميّز.
95. كلام الله لا يتوجه إلى شعب معيّن ولا إلى حقبة معيّنة؛ كذلك المقولات العقائدية، مع ارتباطها أحياناً بثقافة الحقبة التي نشأت فيها، تعبّر عن حقيقة ثابتة ونهائية. لا بدّ، من ثم، أن نتساءل كيف يمكن التوفيق بين مطلقية الحقيقة وشموليتها والظرفيّة الحتميّة التي تتسم بها تعابيرها التاريخية والثقافية. طروحات التاريخانية يتعذر إذن الدفاع عنها، كما أشرت إلى ذلك آنفاً، بينما الاستعانة بأسلوب تفسيري منفتح على مقتضيات الميتافيزيقية بإمكانها أن تبيّن لنا كيف يتحقق العبور إلى الحقيقة من خلال الظروف التاريخيّة والظرفيّة التي وُضعت فيها هذه النصوص، علماً بأن هذه الحقيقة تتخطى هذه القرائن.
بوسع الإنسان أن يعبّر عن حقائق تتخطى الواقع اللغوي، عن طريق لغة تاريخيّة محدودة الإطار. فالحقيقة لا يمكن أن تنحصر البتة في حيّز زمني أو ثقافي. إنها تُعرف في التاريخ ولكنها تتجاوز التاريخ نفسه.
96. هذه الفكرة تمكنّنا من استشفاف حلٍّ لمعضلة أخرى وهي معضلة اللغة التجريديّة المستعملة في التحاديد المجمعيّة، ومدى ديمومتها. لقد سبق لسلفي الجليل البابا بيوس الثاني عشر أن عالج هذه المسألة في رسالته الجامعة «الجنس البشري»[112].
النظر في هذه المسألة ليس بالأمر السهل، لأنه لا بدّ من أن نقيم وزناً جدّياً للمعنى الذي تكتسبه هذه المفردات في مختلف الثقافات والأزمنة. وعلى كلٍ يتضح لنا من تاريخ الفكر، عبر تطوّر الثقافات وتنوّعها، أن بعض المفاهيم الأساسيّة تحتفظ بقيمتها الظرفيّة الشاملة، وبالتالي بحقيقة القضايا التي تعبّر عنها[113]. ولو لم يكن الأمر على هذا النحو لم يبقَ مجال للتفاهم بين الفلسفة والعلوم، وأمست الفلسفة والعلوم عاجزة عن الاندماج في ثقافات غير التي نشأت فيها وتبلورت. المشكلة التفسيرية قائمة إذن ولكنها غير مستعصية. ثمة مفاهيم كثيرة ذات قيمة واقعية، وإن كانت مشوبة، أحياناً كثيرة، بمضامين ضعيفة. التنظير الفلسفي قد يعود علينا بفائدة كبيرة في هذا المجال، ونتمنى عليه أن يلتزم التعمق خصوصاً في درس العلاقة بين اللغة المجرّدة والحقيقة وأن يقترح علينا طرقاً ناجعة في فهم هذه العلاقة فهماً صحيحاً.
97. لئن كان تفسير المصادر وظيفة مهمّة من وظائف اللاهوت، فإن فهم الحقيقة الموحاة، أو صياغة مفهومية الإيمان، إنما هما، بعد ذلك، من أدق المهمات وأشدها تطلباً. مفهومية الإيمان تفترض، كما قلنا سابقاً، رفد فلسفة تتيح للاهوت العقائدي قبل كل شيء أن يضطلع بمهمته على أكمل وجه. البراغماتية العقائدية التي انتشرت في مطلع هذا القرن، والتي تحسب حقائق الإيمان مجرد قواعد مسلكيّة، قد فُنِّدت واستُبعدت[114]؛ ومع ذلك تبقى هناك نزعة إلى فهم هذه الحقائق من ناحيتها الوظيفية البحتة. فإذا كانت تلك هي الحال، فنحن بإزاء مسعىً مخفقٍ وخالٍ من قوة التجريد. فإذا انتهجت الكريستولوجية طريقها «من أسفل» كما يُقال اليوم، أو إذا صيغت الإكليزويولوجية على نموذج المجتمعات المدنية وحسب، فمثل هذه المحاولات لا يخلو من هذا النمط من التخفيض.
إذا اقتضت مفهوميّة الإيمان أن تستوعب كل ثروة التقليد اللاهوتي عليها أن تستعين بالفلسفة الأنطولوجية. هذه الفلسفة يجب أن تتمكن من إعادة النظر في معضلة الكيان، تبعاً لمقتضيات التقليد الفلسفي بأجمعه وروافده، ومن ضمنه التقليد الحديث، مع محاشاة الوقوع في رتابة التصورات العقيمة البائدة. فلسفة الكيان، في إطار التقليد الميتافيزيقي المسيحي، هي فلسفة ديتاميّة تنظر إلى الواقع في بنياته الأنطولوجية والسببية والعلاقية، وإنها لتجد قوتها وديمومتها في ارتكازها على فعل الكون نفسه الذي يتيح انفتاحاً كاملاً وشاملاً على الواقع برمّته وتخطياً لكل الحدود حتى الوصول إلى ذاك الذي يسوق كل شيء، إلى كماله[115]. هذا التوجه في اللاهوت الذي يستمد مبادئه من الوحي من حيث هو مصدر جديد من مصادر المعرفة، يتثبت بقوة العلاقة الوثيقة التي تربط الإيمان بالمعقولية الميتافيزيقية.
98. ثمة اعتبارات تضاهي ما أتينا على ذكره ويمكن تطبيقها أيضاً على اللاهوت الأدبي. من الملح أن نلوذ أيضاً بالفلسفة في مجال مفهومية الإيمان المتصلة بتصرفات المؤمنين. في مواجهة التحديات المعاصرة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية، نرى الضمير المناقبي في مهبّ الريح. في رسالتي الجامعة «تألق الحقيقة»، نبّهتُ إلى أن كثيراً من المعضلات المطروحة في عالم اليوم سببها «أزمة في شأن الحقيقة [. . .] فإذا انتفى الاعتراف بحقيقة شاملة بالنسبة إلى الخير المعروف بواسطة العقل البشري، ففكرة الضمير تتغيّر هي أيضاً بطريقة حتميّة: فالضمير لا يعود مفهوماً في حقيقته الأصيلة، أي في صفته فعلاً من أفعال العقل البشري الذي عليه أن يطبّق ما لديه من معرفة شاملة للخير على وضع معيّن، ويعبّر هكذا عن حكمه في ما يجب أن يختاره من تصرف سليم في حالة محدّدة في الزمان والمكان. هناك نزعة إلى أن يُسنَد إلى الضمير الفردي امتياز البتِ في ضوابط الخير والشر بطريقة مستقلة والعمل بهذا المبدأ. هذه الرؤية ليست سوى ضرب من ضروب المناقبية الفردانية التي ترى كل إنسانٍ في مواجهة مع حقيقته المختلفة عن حقيقة الآخرين»[116].
على مدى الرسالة كلها، بيَّنتُ بوضوح دور الحقيقة الأساسي في المجال الأخلاقي. هذه الحقيقة تطالب اللاهوت الأدبي، في ما يتعلّق بمعظم المعضلات الأخلاقيّة الملِحّة، بأن يُعمِل الفكر ملياً ويبيّن بوضوح أن اللاهوت الأدبي يمتدُّ بجذوره إلى كلام الله. لكي يتمكّن اللاهوت الأدبي من الاضطلاع بهذه الرسالة عليه أن يستعين بالمناقبية الفلسفية التي تتناول حقيقة الخير، لا المناقبية الذاتية ولا المنفعية. المناقبية التي نحن في انتظارها تقتضي وتفترض أنتروبولوجية فلسفية وميتافيزيقية الخير. فإذا ارتكز اللاهوت الأدبي على هذه الرؤية الموحِّدة المرتبطة حتماً بالقداسة المسيحية وممارسة الفضائل البشرية والفائقة الطبيعة، أصبح بإمكانه أن يعالج، بطريقة مناسبة وفاعلة، مختلف المعضلات المرتبطة بصلاحيته، كمعضلة السلام والعدالة الاجتماعية والأسرة والدفاع عن الحياة والبيئة الطبيعية.
99. العمل اللاهوتي في الكنيسة هو أولاً في خدمة بشارة الإيمان والتعليم الديني[117]. وتدعو البشارة أو الكرازة إلى التوبة، مقترحة حقيقة المسيح التي تبلغ ذروتها في سرّه الفصحي: فليس بالإمكان أن نعرف ملء الحقيقة المخلّصة إلاّ في المسيح (را رسل 4، 12؛ 1 طيم 2، 4-6).
في هذه القرائن، نفهم جيداً لماذا يهمنا أن نذكر التعليم الديني إلى جانب اللاهوت: فالتعليم الديني له لواحق فلسفية يحسن أن نتمعنها في ضؤ الإيمان. إن ما يحصِّله الإنسان في التعليم الديني يؤثّر في تنشئته. فالتعليم الديني الذي هو أيضاً أسلوب من أساليب الاتصال اللغوي، يجب أن يعرِّف بالعقيدة الكنسية في جميع جوانبها[118]، ويُظهر ما لها من علاقات بحياة المؤمنين[119]. وهكذا نتوصل إلى أن نجمع، بطريقة مميّزة، بين التعليم والحياة، وهذا يتعذّر تحقيقه إلاّ بهذه الطريقة. والواقع أن ما ينقله التعليم الديني ليس مجموعة من الحقائق المجرّدة بل هو سرّ الله الحيّ[120].
بوسع الفكر الفلسفي أن يساعد كثيراً في توضيح العلاقات بين الحقيقة والحياة، بين الحدث والحقيقة العقائدية، وخصوصاً بين الحقيقة العُلويّة واللغة المفهومة بشرياً[121]. طرق التقابس بين المباحث اللاهوتية والنتائج التي أفرزتها التيارات الفلسفية على أنواعها يمكن أن تعود بالخصب الحقيقي في نقل الإيمان وفهمه بطريقة أعمق.
هناك مفكرون أطلقوا على عصرنا صفة «ما بعد الحداثة ». هذه التسمية المتواترة الاستعمال في قرائن مختلفة جداً بعضها عن بعض تشير إلى ظهور عوامل جديدة استطاعت، بامتدادها وفاعليتها، أن تحدث تحوّلات لافتة ودائمة. هذا النعت استُعمل أولاً للتعبير عن ظاهرات جماليّة أو اجتماعيّة او تقنولوجية؛ ثم انتقل إلى ميدان الفلسفة ولكنه ظل على شيء من الغموض، لأن الحكم على ما نصفه بما «بعد الحداثة» يكون مرة إيجابياً ومرة سلبياً، ثم لأن ليس ثمة إجماع على المعضلة الدقيقة المتعلقة بتحديد مختلف حقب التاريخ. ولكن ليس من شك في أن التيَّارات الفكرية المنتسبة إلى حقبة «ما بعد الحداثة» جديرة بأن نهتم لها اهتماماً متنبهاً. في نظر بعض هذه التيارات أن وقت اليقينيات قد ولّى بلا رجعة، وأن على الإنسان، من الآن فصاعداً، أن يتعوّد العيش في جوّ انتفاء كل معنى، وتحت مظلة الوقتي والزائل. وهناك من الكُتَّاب _ وهم كثر _ من ينكرون أيضاً يقينيات الإيمان، في نقدهم الهدام لكل يقين، وفي جهلهم التمييزات التي لا بدّ منها.
هذه العدمية تجد لها بعض ما يثبتها في خبرة الشر الفظيعة التي وسمت عصرنا. في مواجهة هذه الخبرة الفاجعة لم تتمكن التفاؤلية العقلانية من الصمود، بعدما توسمَّت في التاريخ مسيرة العقل الظافرة، وفي العقل ينبوع السعادة والحريّة. وقد نتج عن ذلك أن أخطر ما يهدّد الإنسان في نهاية القرن هو تجربة الانسياق إلى اليأس.
وإنما يبقى صحيحاً أن شيئاً من الذهنية الوضعية لا يزال يروّج للوهم القائل بأن الإنسان، بفضل مكاسبه العلمية والتقنية، وبصفته كائناً خلاقاً، يستطيع وحده أن يجعل ذاته سيداً مطلقاً يسيطر على مصيره.
مهامّ الفلسفة في أيامنا
92. في مختلف حقب التاريخ، وجد اللاهوت، بصفته قيّماً على فهم الوحي، ما يدفعه دائماً إلى الاستفادة من العناصر المبثوثة في مختلف الثقافات ليُدخِل فيها، بواسطته، محتوى الإيمان طبقاً لأسلوب عقلاني متماسك. واليوم أيضاً يتحمل اللاهوت مهمة مزدوجة. فمن جهة، عليه أن يضطلع بالرسالة التي وكلها إليه المجمع الفاتيكاني الثاني يوم ذاك: وهي تجديد الأساليب في سبيل خدمة أفعل لهدف البشارة. كيـف لا نذكر، في هذا الصدد، الكلمات التي نطق بها الحبر الأعظم يوحنا الثالث والعشرون، عند افتتاح المجمع؟ قال يومها: «لا بدّ لهذه العقيدة من أن تلبّي الترّقب الشديد الكامن في نفوس الذين يحبّون الديانة المسيحية الكاثوليكية والرسولية فتتوسع معرفتها وتتعمق وتساهم في إخصاب الأذهان وتنشئتها. ولا بدّ من أن نسعى إلى التمعن في هذه العقيدة الأكيدة والثابتة والمفروض أن نتقيد بها تقيداً مخلصاً، وعلينا عرضها بالطريقة التي يستسيغها أهل زماننا»[107]. وعلى اللاهوت، من جهة أخرى، أن يشخص بنظره إلى الحقيقة الأخيرة التي وكلها إليه الوحي، ولا يكتفي بالتوقف على الحقائق المرحلية. ويحسن باللاهوتي أن يتذكر أن عمله يلبي «الدينامية الماثلة في الإيمان نفسه»، وأن موضوع بحثه إنما هو «الحقيقة والله الحي وقصده الخلاصي الذي كشفه يسوع المسيح»[108]. هذا الواجب الذي يقع أولاً على اللاهوت يتناول الفلسفة أيضاً. إن مجموع المشكلات التي تفرض ذاتها اليوم يتطلب عملاً مشتركاً، وإن بأساليب مختلفة، حتى يعود الناس إلى الاعتراف بالحقيقة والتعبير عنها. الحقيقة _ وهي المسيح _ تفرض ذاتها سلطة شاملة تسوس وتحفز وتنمي (را أف 4، 15) اللاهوت والفلسفة على السواء.
الاعتقاد بأن الإنسان بوسعه أن يدرك حقيقة يعترف بها الجميع ليس مصدر تشدّد وتعصب، بل هو بالعكس شرط ضروري لكل حوار بين الأشخاص مخلصٍ وسليم. بهذا الشرط وحده يصبح بالإمكان التغلب على الانقسامات والسير معاً في الطريق المؤديّة إلى الحقيقة الكاملة، واتباع الدروب التي لا يعرفها إلاّ روح الرب الناهض من بين الأمـوات[109]. بالنسـبة إلى مهامّ اللاهوت في أيامنا، أودّ الآن أن أبيّن كيف تبدو عملياً ضرورة الوحدة في عصرنا.
93. الهدف الرئيس الذي يتوخاه اللاهوت هو العمل على فهم الوحي ومضمون الإيمان. إلاّ أن المحور الحقيقي لكل فكر لاهوتي إنما هو تأمل سرّ الله واحداً وثالوثاً. ولا نستطيع أن نبلغ هذا الهدف إلاّ بإِعمال الفكر في سرّ تجسد ابن الله الذي صار إنساناً وارتضى أن يتألم ويموت؛ وقد انتهى هذا السرّ في قيامته المجيدة وصعوده وجلوسه إلى يمين الآب، وإرساله روح الحق ليقيم كنيسته ويحييها. من هذا الملحظ يتضح أن أولى مهمات اللاهوت هي أن يفهم كيف أخلى الله ذاته، وهو للعقل البشري سرّ عظيم حقاّ لأن العقل البشري يستحيل عليه أن يسلّم بأن العذاب والموت يستطيعان أن يعبرّا عن الحب الذي يبذل ذاته من غير أن يتوقع في مقابل ذلك شيئاً. من هذا الملحظ، أولى المقتضيات وألحُّها هو العمل على تفسير النصوص تفسيراً دقيقاً: النصوص الكتابية أولاً ثم النصوص التي تعكس التقليد الحيّ في الكنيسة. في هذا الصدد، تُطرح اليوم أسئلة مستحدثة جزئياً، وليس لها حلٌّ شافٍ بدون رفد الفلسفة.
94. أول عنصرٍ مشكلٍ يتناول العلاقة بين المفهوم والحقيقة. المصادر التي يفسّرها اللاهوتي، على غرار كل نصّ آخر، تنقل إلينا أوّلاً «مفهوماً»، لا بدّ من إدراكه وعرضه. والواقع أن هذا المفهوم إنما هو الحقيقة في شأن الله، ينقلها إلينا الله نفسه من خلال النصّ المقدّس. هكذا، في لغة البشر، تتجسد لغة الله الذي ينقل إلينا حقيقته «بتنازل عجيب» ينسجم مع منطق التجسّد[110]. لا بدّ إذن للاهوت، عندما يفسّر مصادر الوحي، أن يتساءل ما هي الحقيقة العميقة والصحيحة التي تبغي النصوص أن تنقلها إلينا، مع اعتبار[111] الحدود اللغوية.
في شأن النصوص الكتابية، وبخاصة الأناجيل، لا تنحصر، ولا شك، حقيقتها في رواية مجرّد أحداث تاريخية أو في سرد وقائع حياديّة، كما ترى الفلسفة الوضعية التاريخانية. هذه النصوص تسرد، بالعكس، أحداثاً تتخطى حقيقتُها الواقع التاريخي الصرف. هذه الحقيقة تكمن في مفهوم هذه الأحداث ضمن تاريخ الخلاص ولأجل تاريخ الخلاص. هذه الحقيقة تلقى تفسيرها الكامل في القراءة التي تتابعها الكنيسة عبر الأجيال، محتفظة بمعناها الأصيل بمنأى عن كل تحريف. من الملحّ إذن أن نتساءل من الناحية الفلسفية أيضاً عن العلاقة القائمة بين الشيء ومعناه، وعليها يرتكز معنى التاريخ في طابعه المميّز.
95. كلام الله لا يتوجه إلى شعب معيّن ولا إلى حقبة معيّنة؛ كذلك المقولات العقائدية، مع ارتباطها أحياناً بثقافة الحقبة التي نشأت فيها، تعبّر عن حقيقة ثابتة ونهائية. لا بدّ، من ثم، أن نتساءل كيف يمكن التوفيق بين مطلقية الحقيقة وشموليتها والظرفيّة الحتميّة التي تتسم بها تعابيرها التاريخية والثقافية. طروحات التاريخانية يتعذر إذن الدفاع عنها، كما أشرت إلى ذلك آنفاً، بينما الاستعانة بأسلوب تفسيري منفتح على مقتضيات الميتافيزيقية بإمكانها أن تبيّن لنا كيف يتحقق العبور إلى الحقيقة من خلال الظروف التاريخيّة والظرفيّة التي وُضعت فيها هذه النصوص، علماً بأن هذه الحقيقة تتخطى هذه القرائن.
بوسع الإنسان أن يعبّر عن حقائق تتخطى الواقع اللغوي، عن طريق لغة تاريخيّة محدودة الإطار. فالحقيقة لا يمكن أن تنحصر البتة في حيّز زمني أو ثقافي. إنها تُعرف في التاريخ ولكنها تتجاوز التاريخ نفسه.
96. هذه الفكرة تمكنّنا من استشفاف حلٍّ لمعضلة أخرى وهي معضلة اللغة التجريديّة المستعملة في التحاديد المجمعيّة، ومدى ديمومتها. لقد سبق لسلفي الجليل البابا بيوس الثاني عشر أن عالج هذه المسألة في رسالته الجامعة «الجنس البشري»[112].
النظر في هذه المسألة ليس بالأمر السهل، لأنه لا بدّ من أن نقيم وزناً جدّياً للمعنى الذي تكتسبه هذه المفردات في مختلف الثقافات والأزمنة. وعلى كلٍ يتضح لنا من تاريخ الفكر، عبر تطوّر الثقافات وتنوّعها، أن بعض المفاهيم الأساسيّة تحتفظ بقيمتها الظرفيّة الشاملة، وبالتالي بحقيقة القضايا التي تعبّر عنها[113]. ولو لم يكن الأمر على هذا النحو لم يبقَ مجال للتفاهم بين الفلسفة والعلوم، وأمست الفلسفة والعلوم عاجزة عن الاندماج في ثقافات غير التي نشأت فيها وتبلورت. المشكلة التفسيرية قائمة إذن ولكنها غير مستعصية. ثمة مفاهيم كثيرة ذات قيمة واقعية، وإن كانت مشوبة، أحياناً كثيرة، بمضامين ضعيفة. التنظير الفلسفي قد يعود علينا بفائدة كبيرة في هذا المجال، ونتمنى عليه أن يلتزم التعمق خصوصاً في درس العلاقة بين اللغة المجرّدة والحقيقة وأن يقترح علينا طرقاً ناجعة في فهم هذه العلاقة فهماً صحيحاً.
97. لئن كان تفسير المصادر وظيفة مهمّة من وظائف اللاهوت، فإن فهم الحقيقة الموحاة، أو صياغة مفهومية الإيمان، إنما هما، بعد ذلك، من أدق المهمات وأشدها تطلباً. مفهومية الإيمان تفترض، كما قلنا سابقاً، رفد فلسفة تتيح للاهوت العقائدي قبل كل شيء أن يضطلع بمهمته على أكمل وجه. البراغماتية العقائدية التي انتشرت في مطلع هذا القرن، والتي تحسب حقائق الإيمان مجرد قواعد مسلكيّة، قد فُنِّدت واستُبعدت[114]؛ ومع ذلك تبقى هناك نزعة إلى فهم هذه الحقائق من ناحيتها الوظيفية البحتة. فإذا كانت تلك هي الحال، فنحن بإزاء مسعىً مخفقٍ وخالٍ من قوة التجريد. فإذا انتهجت الكريستولوجية طريقها «من أسفل» كما يُقال اليوم، أو إذا صيغت الإكليزويولوجية على نموذج المجتمعات المدنية وحسب، فمثل هذه المحاولات لا يخلو من هذا النمط من التخفيض.
إذا اقتضت مفهوميّة الإيمان أن تستوعب كل ثروة التقليد اللاهوتي عليها أن تستعين بالفلسفة الأنطولوجية. هذه الفلسفة يجب أن تتمكن من إعادة النظر في معضلة الكيان، تبعاً لمقتضيات التقليد الفلسفي بأجمعه وروافده، ومن ضمنه التقليد الحديث، مع محاشاة الوقوع في رتابة التصورات العقيمة البائدة. فلسفة الكيان، في إطار التقليد الميتافيزيقي المسيحي، هي فلسفة ديتاميّة تنظر إلى الواقع في بنياته الأنطولوجية والسببية والعلاقية، وإنها لتجد قوتها وديمومتها في ارتكازها على فعل الكون نفسه الذي يتيح انفتاحاً كاملاً وشاملاً على الواقع برمّته وتخطياً لكل الحدود حتى الوصول إلى ذاك الذي يسوق كل شيء، إلى كماله[115]. هذا التوجه في اللاهوت الذي يستمد مبادئه من الوحي من حيث هو مصدر جديد من مصادر المعرفة، يتثبت بقوة العلاقة الوثيقة التي تربط الإيمان بالمعقولية الميتافيزيقية.
98. ثمة اعتبارات تضاهي ما أتينا على ذكره ويمكن تطبيقها أيضاً على اللاهوت الأدبي. من الملح أن نلوذ أيضاً بالفلسفة في مجال مفهومية الإيمان المتصلة بتصرفات المؤمنين. في مواجهة التحديات المعاصرة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية، نرى الضمير المناقبي في مهبّ الريح. في رسالتي الجامعة «تألق الحقيقة»، نبّهتُ إلى أن كثيراً من المعضلات المطروحة في عالم اليوم سببها «أزمة في شأن الحقيقة [. . .] فإذا انتفى الاعتراف بحقيقة شاملة بالنسبة إلى الخير المعروف بواسطة العقل البشري، ففكرة الضمير تتغيّر هي أيضاً بطريقة حتميّة: فالضمير لا يعود مفهوماً في حقيقته الأصيلة، أي في صفته فعلاً من أفعال العقل البشري الذي عليه أن يطبّق ما لديه من معرفة شاملة للخير على وضع معيّن، ويعبّر هكذا عن حكمه في ما يجب أن يختاره من تصرف سليم في حالة محدّدة في الزمان والمكان. هناك نزعة إلى أن يُسنَد إلى الضمير الفردي امتياز البتِ في ضوابط الخير والشر بطريقة مستقلة والعمل بهذا المبدأ. هذه الرؤية ليست سوى ضرب من ضروب المناقبية الفردانية التي ترى كل إنسانٍ في مواجهة مع حقيقته المختلفة عن حقيقة الآخرين»[116].
على مدى الرسالة كلها، بيَّنتُ بوضوح دور الحقيقة الأساسي في المجال الأخلاقي. هذه الحقيقة تطالب اللاهوت الأدبي، في ما يتعلّق بمعظم المعضلات الأخلاقيّة الملِحّة، بأن يُعمِل الفكر ملياً ويبيّن بوضوح أن اللاهوت الأدبي يمتدُّ بجذوره إلى كلام الله. لكي يتمكّن اللاهوت الأدبي من الاضطلاع بهذه الرسالة عليه أن يستعين بالمناقبية الفلسفية التي تتناول حقيقة الخير، لا المناقبية الذاتية ولا المنفعية. المناقبية التي نحن في انتظارها تقتضي وتفترض أنتروبولوجية فلسفية وميتافيزيقية الخير. فإذا ارتكز اللاهوت الأدبي على هذه الرؤية الموحِّدة المرتبطة حتماً بالقداسة المسيحية وممارسة الفضائل البشرية والفائقة الطبيعة، أصبح بإمكانه أن يعالج، بطريقة مناسبة وفاعلة، مختلف المعضلات المرتبطة بصلاحيته، كمعضلة السلام والعدالة الاجتماعية والأسرة والدفاع عن الحياة والبيئة الطبيعية.
99. العمل اللاهوتي في الكنيسة هو أولاً في خدمة بشارة الإيمان والتعليم الديني[117]. وتدعو البشارة أو الكرازة إلى التوبة، مقترحة حقيقة المسيح التي تبلغ ذروتها في سرّه الفصحي: فليس بالإمكان أن نعرف ملء الحقيقة المخلّصة إلاّ في المسيح (را رسل 4، 12؛ 1 طيم 2، 4-6).
في هذه القرائن، نفهم جيداً لماذا يهمنا أن نذكر التعليم الديني إلى جانب اللاهوت: فالتعليم الديني له لواحق فلسفية يحسن أن نتمعنها في ضؤ الإيمان. إن ما يحصِّله الإنسان في التعليم الديني يؤثّر في تنشئته. فالتعليم الديني الذي هو أيضاً أسلوب من أساليب الاتصال اللغوي، يجب أن يعرِّف بالعقيدة الكنسية في جميع جوانبها[118]، ويُظهر ما لها من علاقات بحياة المؤمنين[119]. وهكذا نتوصل إلى أن نجمع، بطريقة مميّزة، بين التعليم والحياة، وهذا يتعذّر تحقيقه إلاّ بهذه الطريقة. والواقع أن ما ينقله التعليم الديني ليس مجموعة من الحقائق المجرّدة بل هو سرّ الله الحيّ[120].
بوسع الفكر الفلسفي أن يساعد كثيراً في توضيح العلاقات بين الحقيقة والحياة، بين الحدث والحقيقة العقائدية، وخصوصاً بين الحقيقة العُلويّة واللغة المفهومة بشرياً[121]. طرق التقابس بين المباحث اللاهوتية والنتائج التي أفرزتها التيارات الفلسفية على أنواعها يمكن أن تعود بالخصب الحقيقي في نقل الإيمان وفهمه بطريقة أعمق.
الإيمان والعقل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
الأحد يوليو 01, 2007 10:22 pm
خاتمة
100. بعد مئتي سنة من نشر الرسالة الجامعة «الآب الأزلي» للبابا لاون الثالث عشر، التي استشهدتُ بها مراراً في هذه الصفحات، استحسنْتُ أن أعود ثانية وبطريقة منهجية إلى شرح العلاقات بين الإيمان والفلسفة. من الواضح أن للفكر الفلسفي أهمية كبرى في تطوير الثقافات وتوجيه التصرفات الفردية والاجتماعية. ولهذا الفكر الفلسفي أيضاً أثر عميق في اللاهوت ومختلف مباحثه، وإن لم يُعترف به دائماً بطريقة صريحة. لهذه الأسباب، رأيتُ من دواعي الحق والضرورة أن أنوّه بقيمة الفلسفة في فهم الإيمان، والحدود التي تصطدم بها عندما تنسى أو ترفض حقائق الوحي. والواقع أن الكنيسة لا تزال مقتنعة كل الاقتناع من أن الإيمان والعقل «يتعاونان»[122]، ويضطلعان، الواحد تجاه الآخر، بوظيفة غربالِ منقِّ، أو حافزِ للتقدّم في طريق البحث والتمعّن.
101. إذا وجهنا نظرنا ألى تاريخ الفكر، وبخاصّة في الغرب، تيسّر لنا اكتشاف الثروة التي حققها، لرقي البشرية، اللقاء بين الفلسفة واللاهوت وتبادل مكاسبهما. فاللاهوت الذي يتمتع بانفتاح ومزيّة يجعلانه «علم الإيمان»، قد حفز العقل على أن يظلّ منفتحاً على الوحي الإلهي وما يحمله من جدّة أصيلة. ولا شك أن هذا التقابس قد عاد بالفائدة على الفلسفة التي انفسحت أمامها آفاق جديدة من المعاني المبتكرة يستطيع العقل أن يتقصَّاها.
من منطلق هذا الواقع، أظن من واجبي الإلحاح على التنويه بالمنفعة التي تجنيها الفلسفة من استعادة اللحمة مع اللاهوت، لمصلحة الفكر وتقدّمه، كما كرّرت أيضاً القول بواجب اللاهوت أن يستعيد علاقته الصحيحة بالفلسفة. ولا بدّ من أن تجد الفلسفة في اللاهوت ليس فقط فكراً فردياً معرّضاً لمحدوديّة الرؤى التي تَصِم دوماً فكر الإنسان الفرد، وإن تميّز بالعمق والغنى، بل ثروة تفكير مشترك. ولا غرو فاللاهوت، في بحثه عن الحقيقة، مدعوم طبيعياً بطابعه الكنسي[123]، وبتقليد شعب الله، وما يتضمنه من فيض المعارف والثقافات في وحدة الإيمان.
102. بمثل هذا الإلحاح على أهمية الفكر الفلسفي وأبعاده الحقيقية، تعمل الكنيسة على تعزيز الدفاع عن كرامة الإنسان ونشر البلاغ الإنجيلي. لا نجد اليوم طريقة ألح في التأهب للاضطلاع بهذه المهام، إلاّ الطريقة التالية: وهي أن نحمل الناس على اكتشاف قدرتهم على معرفة الحقيقة[124] ورغبتهم في الوصول إلى معنى الوجود الأخير والنهائي. في صدد هذه المقتضيات العميقة التي نقشها الله في الطبيعة البشرية، يتجلّى كلام الله بوضوح أكثر في مضمونه الإنساني والمؤنّس. فإذا تمكن الإنسان المعاصر من الاستعانة بفلسفة أضحت بمثابة حكمة حقيقية، استطاع الإقرار بأن نموّه الإنساني منوط بانفتاحه على المسيح وثقته بالإنجيل.
103. ثم إن الفلسفة هي شبه مرآة تنعكس فيها ثقافة الشعوب. كل فلسفة تتطوّر بدافعٍ من مقتضيات اللاهوت، في تناغم مع الإيمان، تصبح عاملاً من عوامل «تبشرة الثقافة»، التي اعتبرها بولس السادس هدفاً أساسياً من أهداف نشر الإنجيل[125]. وفيما لا أكِلُّ عن المناداة بإلحاحية بشارة جديدة، أناشد الفلاسفة التعمق في مجالات الحق والصلاح والجمال، التي يؤدي إليها كلام الله. ويصبح الأمر أشد إلحاحاً عندما نفكّر بالتحدّيات التي سيواجهنا بها الألف الثالث والتي تهدّد خصوصاً المناطق والثقافات العريقة بتراثها المسيحي. هذا الاهتمام يجب أن نعدّه رافداً أساسياً ومبتكراً من روافد البشارة الجديدة.
104. الفكر الفلسفي هو غالباً المجال الأوحد للتفاهم والحوار مع الذين لا يشاركوننا إيماننا. الحركة الفلسفية المعاصرة تفرض التزاماً وطيداً وكفؤاً من قبل فلاسفة مؤمنين بوسعهم أن يتحسَّسوا ما تنطوي عليه هذه الحقبة من التاريخ من تطلعات وانفتاحات ومشاكل. بإمكان الفيلسوف المسيحي، إذا اعتمد دائماً أسلوباً في التدليل مرتكزاً على العقل ومتقيداً بقواعده، وإذا اهتدى بما يأتيه من كلام الله من فهم إضافي، أن يقيم من الحجج ما هو مفهوم وحصيف حتى في نظر الذين لا يدركون بعد ملء الحقيقة المتجليّة في الوحي الإلهي. هذا المجال الوفاقي والحواري هو اليوم من الأهميّة بمقدار المعضلات الملحّة المطروحة على البشريّة: معضلات البيئة والسلام وتعايش الأجناس والثقافات. هذه المعضلات يمكن حلّها بفضل تعاون صريح ونزيه بين المسيحيين والمؤمنين من الديانات الأخرى والذين يحرصون على تجديد البشرية وإن لم يشاركوا في عقيدة دينية. وهذا ما أكده المجمع الفاتيكاني بقوله: «الرغبة في مثل هذا الحوار المفضي إلى الحقيقة عن طريق المحبة وحدها، مع الاحتفاظ، في كل حال، بالفضيلة المناسبة، هذه الرغبة، من جهتنا، لا تستثني أحداً، لا أولئك الذين يعظِّمون قيم النفس الإنسانية السامية ولكنهم لا يقرّون بعد بالذي خلقها، ولا الذين يقاومون الكنيسة ويضطهدونها[126] بأساليب مختلفة ». كل فلسفة ينعكس فيها شيء من حقيقة المسيح ، وهو الجواب الوحيد والأخير لمعضلات الإنسان[127]، تشكّل مستنداً فاعلاً للمناقبية الحقيقية والكونيّة التي تحتاجها البشرية اليوم.
105. أريد أن أختتم هذه الرسالة الجامعة بالتوجه، مرة أخرى، «إلى اللاهوتيين خصوصاً ليهتموا اهتماماً خاصاً بما يستلزمه فهم كلام الله من مضامين فلسفية ويُعمِلوا فكرهم بحيث يبرز العلم اللاهوتي بكثافته النظرية والعملية. وأوّد أن أشكر لهم ما يؤدُّونه من خدمة كنسية. العلاقة الحميمة بين الحكمة اللاهوتية والعلم الفلسفي هي من أنفس ثروات التراث المسيحي للتعمق في الحقيقة الموحاة. ولذا أشجّع اللاهوتيين على التنويه، قدر الإمكان، بالحقيقة في بعدها الميتافيزيقي، للدخول هكذا في حوار ناقدٍ وحازمٍ مع الفكر الفلسفي المعاصر، ومع التراث الفلسفي بجملته، أكان على اتفاقٍ مع كلام الله أم على خلاف. وليكن ثابتاً في ذهنهم ما أدلى به القديس بونفانتورا–وهو المعلّم الكبير في الفكر والروحانية–في مقدّمة كتاب «مسيرة العقل في الله». فهو يدعو القارىء «ألاّ يظنَّ أنه بالإمكان أن نكتفي بالقراءة بدون التخشّع، وبالتنظير بدون التعبّد، وبالبحث بدون التعجّب، وبالفطنة بدون التهلُّل، وبالعمل بدون التقوى، وبالعلم بدون المحبّة وبالعقل بدون التواضع، وبالدرس معزولاً عن النعمة الإلهية وبالفكر المعزول عن الحكمة الموحاة من الله»[128].
وأتوجه بالفكر أيضاً إلى الذين يضطلعون بمسؤولية التنشئة الكهنوتية، الأكاديميّة والرعائية، ليؤمّنوا، بتنبه خاص، التنشئة الفلسفية للمزمعين أن يبشّروا بالإنجيل أهل زماننا، وخصوصاً للمزمعين أن يتكرّسوا لتعليم اللاهوت والبحث. وليجهدوا في أن يقوموا بعملهم في ضؤ تعليمات المجمع الفاتيكاني الثاني[129] والإجراءات المتخذة بعد المجمع، وهي تنوّه بالواحب الملّح والملزم للجميع في المساهمة في نقل حقائق الإيمان نقلاً صحيحاً وعميقاً. ولا ينسَ أحد المسؤولية الباهظة في تأمين تنشئة إعدادية ومؤآتية للجسم التعليمي المُعدّ لتعليم الفلسفة في الإكليريكيات والمعاهد الكنسية[130]. ولا بدّ من أن تتضمن هذه التنشئة تأهيلاً علمياً مؤاتياً، وتُنظّم بطريقة منهجيّة وتقدِّم للطلاب التراث العظيم النابع من التقليد المسيحي وتُرفَق بما يلزم من التمييز حيال الحاجات الراهنة في الكنيسة والعالم.
106. وإني أتوجه بندائي أيضاً إلى الفلاسفة ومعلمي الفلسفة، ليجرُءوا على استعادة ما يتميّز به الفكر الفلسفي، في خطّ تقليد فلسفي ثابت وقيّم، من صفات الحكمة الصحيحة، والحقيقة الراهنة بما فيها الحقيقة الميتافيزيقية. ولينقادوا للمقتضيات النابعة من كلام الله. وليجرُءوا على أن يقيموا خطابهم العقلي وأسلوبهم البرهاني من منطلق هذا النداء. وليكونوا دائماً مشدودين إلى الحقيقة وحريصين على الخير المتضمن في الحق، فيتمكنوا هكذا من أن يرسموا المناقبية الصحيحة التي أمست البشرية بأمسّ الحاجة إليها، وبخاصة في هذه الأيام. إن الكنيسة تتتبَّع أبحاثهم بانتباه وتعاطف. وعليهم، من ثم، أن يتأكدوا مِما تكنّْه الكنيسة من احترام لعلمهم واستقلاليته المشروعة. وأودّ أن أشجع خصوصاً المؤمنين الذين يعملون في حيّز الفلسفة لينيروا النشاط البشري في مختلف نطاقاته، بأسلوب تفكيري يزداد يقيناً وحصانة بمقدار اعتماده على الإيمان.
ولا يسعني أخيراً إلاّ أن أتوجّه إلى رجالات العلم الذين يزوّدوننا، من خلال أبحاثهم، بمزيد من التعرف على الكون في مجمله، وعلى مقوّماته من الأحياء والجمادات في مختلف أنواعها وثريّ أصنافها، وفي بنياتها الذريّة والخليويّة المعقّدة. لقد قطعوا في الطريق التي سلكوها، وبخاصة في هذا القرن، مراحل لا تزال تثير فينا الدهش؛ وفيما أعبّر عن إعجابي وتشجيعي لهؤلاء الشجعان البواسل، رواد البحث العلمي الذين تدين لهم البشرية بجزء كبير من تطوّرها الراهن، أشعر بواجب حضّهم على مواصلة جهودهم مع الاستمرار دوماً في الخط الحكمي الذي تنضم فيه المكاسب العلمية والتكنولوجيّة إلى القيم الفلسفية والمناقبيّة التي يتجلّى فيها الشخص البشري في مزاياه الجوهرية. ولا شك أن رجل العلم يعي وعياً جيداً «أن التماس الحقيقة، وإن لم يتوخّ سوى العالم أو الإنسان في حقيقته المحدودة، ليس له نهاية ويردّنا دوماً إلى ما هو أرقى من موضوع البحث المباشر، أي إلى المسائل التي تفضي إلى السرّ المكنون»[131].
107. أطلب من الجميع أن يعتبروا الإنسان في كل عمقه، وفي بحثه الدائم عن الحقيقة وعن معنى الحياة، الإنسان الذي خلّصه المسيح بسرّ محبته. ثمة مذاهب فلسفية مُضِلّة أقنعت الإنسان بأنه سيد ذاته المطلق، وأنه يستطيع أن يقرّر، مستقلاً، مصيره ومستقبله، متكلاً فقط على ذاته وطاقته الشخصية. ليس على هذا تقوم عظمة الإنسان، ولن يتحقق كماله الذاتي إلاّ إذا اتخذ قراراً حاسماً بالدخول في الحقيقة، وبناء بيته وسكناه في ظلّ الحكمة الإلهية. ولن يتوصلّ الإنسان إلى أن يمارس ملء حريته ودعوته إلى حبّ الله ومعرفته، ويجد فيه تعالى أقصى اكتماله، إلاّ في هذا الشخوص إلى الحقيقة.
108. وأتوجّه بالفكر أخيراً إلى تلك التي تدعوها الكنيسة في صلاتها «عرش الحكمة». حياتها نفسها هي بمثابة نموذج حقيقي يشعّ بنوره على ما أتيت به من أفكار. بالإمكان، ولا شك، أن نجد تناغماً عميقاً بين دعوة الطوباوية العذراء والفلسفة الصحيحة. فكما دُعيَت العذراء إلى أن تقرّب بشريّتها وأنوثتها ليتمكن كلمة الله من أن يتأنس ويصبح واحداً منا، كذلك تُدعى الفلسفة إلى ممارسة عملها العقلاني الناقد، ليتمكن اللاهوت من أن يتفهم الإيمان تفهماً خصباً وفاعلاً. وكما أن مريم لم تفقد شيئاً من بشريتها وحريتها الحقيقية، عندما تقبلّت بشرى جبرائيل، كذلك الفكر الفلسفي، عندما يسمع النداء الصادر من حقيقة الإنجيل، لا يفقد شيئاً من استقلاليته، بل يرتقي ببحثه إلى ذروة كماله. هذه الحقيقة فهِمَها الرهبان القديسون الأقدمون «فهماً جيداُ عندما وصفوا العذراء بأنها «مائدة الإيمان العقلية»[132]. لقد توسموا فيها الصورة المتماسكة للفلسفة الحقيقية، واقتنعوا من واجب التفلسف في مريم.
عسى أن يكون عرش الحكمة الملجأ الأمين للذين يجعلون من حياتهم بحثاً عن الحكمة. عسى أن تكون طريق الحكمة–وهي الغاية القصوى والحقيقية لكل علمٍ صحيح - حرّة من كل عائق، بشفاعة تلك التي ولدت الحقيقة وحفظتها في قلبها، وقدمتها هديّة للبشرية جمعاء وإلى الأبد!
أعطي في روما، بقرب كنيسة القديس بطرس، في 14 ايلول 1998، عيد الصليب المجيد، في السنة العشرين من حبريتي.
يوحنا بولس الثاني
100. بعد مئتي سنة من نشر الرسالة الجامعة «الآب الأزلي» للبابا لاون الثالث عشر، التي استشهدتُ بها مراراً في هذه الصفحات، استحسنْتُ أن أعود ثانية وبطريقة منهجية إلى شرح العلاقات بين الإيمان والفلسفة. من الواضح أن للفكر الفلسفي أهمية كبرى في تطوير الثقافات وتوجيه التصرفات الفردية والاجتماعية. ولهذا الفكر الفلسفي أيضاً أثر عميق في اللاهوت ومختلف مباحثه، وإن لم يُعترف به دائماً بطريقة صريحة. لهذه الأسباب، رأيتُ من دواعي الحق والضرورة أن أنوّه بقيمة الفلسفة في فهم الإيمان، والحدود التي تصطدم بها عندما تنسى أو ترفض حقائق الوحي. والواقع أن الكنيسة لا تزال مقتنعة كل الاقتناع من أن الإيمان والعقل «يتعاونان»[122]، ويضطلعان، الواحد تجاه الآخر، بوظيفة غربالِ منقِّ، أو حافزِ للتقدّم في طريق البحث والتمعّن.
101. إذا وجهنا نظرنا ألى تاريخ الفكر، وبخاصّة في الغرب، تيسّر لنا اكتشاف الثروة التي حققها، لرقي البشرية، اللقاء بين الفلسفة واللاهوت وتبادل مكاسبهما. فاللاهوت الذي يتمتع بانفتاح ومزيّة يجعلانه «علم الإيمان»، قد حفز العقل على أن يظلّ منفتحاً على الوحي الإلهي وما يحمله من جدّة أصيلة. ولا شك أن هذا التقابس قد عاد بالفائدة على الفلسفة التي انفسحت أمامها آفاق جديدة من المعاني المبتكرة يستطيع العقل أن يتقصَّاها.
من منطلق هذا الواقع، أظن من واجبي الإلحاح على التنويه بالمنفعة التي تجنيها الفلسفة من استعادة اللحمة مع اللاهوت، لمصلحة الفكر وتقدّمه، كما كرّرت أيضاً القول بواجب اللاهوت أن يستعيد علاقته الصحيحة بالفلسفة. ولا بدّ من أن تجد الفلسفة في اللاهوت ليس فقط فكراً فردياً معرّضاً لمحدوديّة الرؤى التي تَصِم دوماً فكر الإنسان الفرد، وإن تميّز بالعمق والغنى، بل ثروة تفكير مشترك. ولا غرو فاللاهوت، في بحثه عن الحقيقة، مدعوم طبيعياً بطابعه الكنسي[123]، وبتقليد شعب الله، وما يتضمنه من فيض المعارف والثقافات في وحدة الإيمان.
102. بمثل هذا الإلحاح على أهمية الفكر الفلسفي وأبعاده الحقيقية، تعمل الكنيسة على تعزيز الدفاع عن كرامة الإنسان ونشر البلاغ الإنجيلي. لا نجد اليوم طريقة ألح في التأهب للاضطلاع بهذه المهام، إلاّ الطريقة التالية: وهي أن نحمل الناس على اكتشاف قدرتهم على معرفة الحقيقة[124] ورغبتهم في الوصول إلى معنى الوجود الأخير والنهائي. في صدد هذه المقتضيات العميقة التي نقشها الله في الطبيعة البشرية، يتجلّى كلام الله بوضوح أكثر في مضمونه الإنساني والمؤنّس. فإذا تمكن الإنسان المعاصر من الاستعانة بفلسفة أضحت بمثابة حكمة حقيقية، استطاع الإقرار بأن نموّه الإنساني منوط بانفتاحه على المسيح وثقته بالإنجيل.
103. ثم إن الفلسفة هي شبه مرآة تنعكس فيها ثقافة الشعوب. كل فلسفة تتطوّر بدافعٍ من مقتضيات اللاهوت، في تناغم مع الإيمان، تصبح عاملاً من عوامل «تبشرة الثقافة»، التي اعتبرها بولس السادس هدفاً أساسياً من أهداف نشر الإنجيل[125]. وفيما لا أكِلُّ عن المناداة بإلحاحية بشارة جديدة، أناشد الفلاسفة التعمق في مجالات الحق والصلاح والجمال، التي يؤدي إليها كلام الله. ويصبح الأمر أشد إلحاحاً عندما نفكّر بالتحدّيات التي سيواجهنا بها الألف الثالث والتي تهدّد خصوصاً المناطق والثقافات العريقة بتراثها المسيحي. هذا الاهتمام يجب أن نعدّه رافداً أساسياً ومبتكراً من روافد البشارة الجديدة.
104. الفكر الفلسفي هو غالباً المجال الأوحد للتفاهم والحوار مع الذين لا يشاركوننا إيماننا. الحركة الفلسفية المعاصرة تفرض التزاماً وطيداً وكفؤاً من قبل فلاسفة مؤمنين بوسعهم أن يتحسَّسوا ما تنطوي عليه هذه الحقبة من التاريخ من تطلعات وانفتاحات ومشاكل. بإمكان الفيلسوف المسيحي، إذا اعتمد دائماً أسلوباً في التدليل مرتكزاً على العقل ومتقيداً بقواعده، وإذا اهتدى بما يأتيه من كلام الله من فهم إضافي، أن يقيم من الحجج ما هو مفهوم وحصيف حتى في نظر الذين لا يدركون بعد ملء الحقيقة المتجليّة في الوحي الإلهي. هذا المجال الوفاقي والحواري هو اليوم من الأهميّة بمقدار المعضلات الملحّة المطروحة على البشريّة: معضلات البيئة والسلام وتعايش الأجناس والثقافات. هذه المعضلات يمكن حلّها بفضل تعاون صريح ونزيه بين المسيحيين والمؤمنين من الديانات الأخرى والذين يحرصون على تجديد البشرية وإن لم يشاركوا في عقيدة دينية. وهذا ما أكده المجمع الفاتيكاني بقوله: «الرغبة في مثل هذا الحوار المفضي إلى الحقيقة عن طريق المحبة وحدها، مع الاحتفاظ، في كل حال، بالفضيلة المناسبة، هذه الرغبة، من جهتنا، لا تستثني أحداً، لا أولئك الذين يعظِّمون قيم النفس الإنسانية السامية ولكنهم لا يقرّون بعد بالذي خلقها، ولا الذين يقاومون الكنيسة ويضطهدونها[126] بأساليب مختلفة ». كل فلسفة ينعكس فيها شيء من حقيقة المسيح ، وهو الجواب الوحيد والأخير لمعضلات الإنسان[127]، تشكّل مستنداً فاعلاً للمناقبية الحقيقية والكونيّة التي تحتاجها البشرية اليوم.
105. أريد أن أختتم هذه الرسالة الجامعة بالتوجه، مرة أخرى، «إلى اللاهوتيين خصوصاً ليهتموا اهتماماً خاصاً بما يستلزمه فهم كلام الله من مضامين فلسفية ويُعمِلوا فكرهم بحيث يبرز العلم اللاهوتي بكثافته النظرية والعملية. وأوّد أن أشكر لهم ما يؤدُّونه من خدمة كنسية. العلاقة الحميمة بين الحكمة اللاهوتية والعلم الفلسفي هي من أنفس ثروات التراث المسيحي للتعمق في الحقيقة الموحاة. ولذا أشجّع اللاهوتيين على التنويه، قدر الإمكان، بالحقيقة في بعدها الميتافيزيقي، للدخول هكذا في حوار ناقدٍ وحازمٍ مع الفكر الفلسفي المعاصر، ومع التراث الفلسفي بجملته، أكان على اتفاقٍ مع كلام الله أم على خلاف. وليكن ثابتاً في ذهنهم ما أدلى به القديس بونفانتورا–وهو المعلّم الكبير في الفكر والروحانية–في مقدّمة كتاب «مسيرة العقل في الله». فهو يدعو القارىء «ألاّ يظنَّ أنه بالإمكان أن نكتفي بالقراءة بدون التخشّع، وبالتنظير بدون التعبّد، وبالبحث بدون التعجّب، وبالفطنة بدون التهلُّل، وبالعمل بدون التقوى، وبالعلم بدون المحبّة وبالعقل بدون التواضع، وبالدرس معزولاً عن النعمة الإلهية وبالفكر المعزول عن الحكمة الموحاة من الله»[128].
وأتوجه بالفكر أيضاً إلى الذين يضطلعون بمسؤولية التنشئة الكهنوتية، الأكاديميّة والرعائية، ليؤمّنوا، بتنبه خاص، التنشئة الفلسفية للمزمعين أن يبشّروا بالإنجيل أهل زماننا، وخصوصاً للمزمعين أن يتكرّسوا لتعليم اللاهوت والبحث. وليجهدوا في أن يقوموا بعملهم في ضؤ تعليمات المجمع الفاتيكاني الثاني[129] والإجراءات المتخذة بعد المجمع، وهي تنوّه بالواحب الملّح والملزم للجميع في المساهمة في نقل حقائق الإيمان نقلاً صحيحاً وعميقاً. ولا ينسَ أحد المسؤولية الباهظة في تأمين تنشئة إعدادية ومؤآتية للجسم التعليمي المُعدّ لتعليم الفلسفة في الإكليريكيات والمعاهد الكنسية[130]. ولا بدّ من أن تتضمن هذه التنشئة تأهيلاً علمياً مؤاتياً، وتُنظّم بطريقة منهجيّة وتقدِّم للطلاب التراث العظيم النابع من التقليد المسيحي وتُرفَق بما يلزم من التمييز حيال الحاجات الراهنة في الكنيسة والعالم.
106. وإني أتوجه بندائي أيضاً إلى الفلاسفة ومعلمي الفلسفة، ليجرُءوا على استعادة ما يتميّز به الفكر الفلسفي، في خطّ تقليد فلسفي ثابت وقيّم، من صفات الحكمة الصحيحة، والحقيقة الراهنة بما فيها الحقيقة الميتافيزيقية. ولينقادوا للمقتضيات النابعة من كلام الله. وليجرُءوا على أن يقيموا خطابهم العقلي وأسلوبهم البرهاني من منطلق هذا النداء. وليكونوا دائماً مشدودين إلى الحقيقة وحريصين على الخير المتضمن في الحق، فيتمكنوا هكذا من أن يرسموا المناقبية الصحيحة التي أمست البشرية بأمسّ الحاجة إليها، وبخاصة في هذه الأيام. إن الكنيسة تتتبَّع أبحاثهم بانتباه وتعاطف. وعليهم، من ثم، أن يتأكدوا مِما تكنّْه الكنيسة من احترام لعلمهم واستقلاليته المشروعة. وأودّ أن أشجع خصوصاً المؤمنين الذين يعملون في حيّز الفلسفة لينيروا النشاط البشري في مختلف نطاقاته، بأسلوب تفكيري يزداد يقيناً وحصانة بمقدار اعتماده على الإيمان.
ولا يسعني أخيراً إلاّ أن أتوجّه إلى رجالات العلم الذين يزوّدوننا، من خلال أبحاثهم، بمزيد من التعرف على الكون في مجمله، وعلى مقوّماته من الأحياء والجمادات في مختلف أنواعها وثريّ أصنافها، وفي بنياتها الذريّة والخليويّة المعقّدة. لقد قطعوا في الطريق التي سلكوها، وبخاصة في هذا القرن، مراحل لا تزال تثير فينا الدهش؛ وفيما أعبّر عن إعجابي وتشجيعي لهؤلاء الشجعان البواسل، رواد البحث العلمي الذين تدين لهم البشرية بجزء كبير من تطوّرها الراهن، أشعر بواجب حضّهم على مواصلة جهودهم مع الاستمرار دوماً في الخط الحكمي الذي تنضم فيه المكاسب العلمية والتكنولوجيّة إلى القيم الفلسفية والمناقبيّة التي يتجلّى فيها الشخص البشري في مزاياه الجوهرية. ولا شك أن رجل العلم يعي وعياً جيداً «أن التماس الحقيقة، وإن لم يتوخّ سوى العالم أو الإنسان في حقيقته المحدودة، ليس له نهاية ويردّنا دوماً إلى ما هو أرقى من موضوع البحث المباشر، أي إلى المسائل التي تفضي إلى السرّ المكنون»[131].
107. أطلب من الجميع أن يعتبروا الإنسان في كل عمقه، وفي بحثه الدائم عن الحقيقة وعن معنى الحياة، الإنسان الذي خلّصه المسيح بسرّ محبته. ثمة مذاهب فلسفية مُضِلّة أقنعت الإنسان بأنه سيد ذاته المطلق، وأنه يستطيع أن يقرّر، مستقلاً، مصيره ومستقبله، متكلاً فقط على ذاته وطاقته الشخصية. ليس على هذا تقوم عظمة الإنسان، ولن يتحقق كماله الذاتي إلاّ إذا اتخذ قراراً حاسماً بالدخول في الحقيقة، وبناء بيته وسكناه في ظلّ الحكمة الإلهية. ولن يتوصلّ الإنسان إلى أن يمارس ملء حريته ودعوته إلى حبّ الله ومعرفته، ويجد فيه تعالى أقصى اكتماله، إلاّ في هذا الشخوص إلى الحقيقة.
108. وأتوجّه بالفكر أخيراً إلى تلك التي تدعوها الكنيسة في صلاتها «عرش الحكمة». حياتها نفسها هي بمثابة نموذج حقيقي يشعّ بنوره على ما أتيت به من أفكار. بالإمكان، ولا شك، أن نجد تناغماً عميقاً بين دعوة الطوباوية العذراء والفلسفة الصحيحة. فكما دُعيَت العذراء إلى أن تقرّب بشريّتها وأنوثتها ليتمكن كلمة الله من أن يتأنس ويصبح واحداً منا، كذلك تُدعى الفلسفة إلى ممارسة عملها العقلاني الناقد، ليتمكن اللاهوت من أن يتفهم الإيمان تفهماً خصباً وفاعلاً. وكما أن مريم لم تفقد شيئاً من بشريتها وحريتها الحقيقية، عندما تقبلّت بشرى جبرائيل، كذلك الفكر الفلسفي، عندما يسمع النداء الصادر من حقيقة الإنجيل، لا يفقد شيئاً من استقلاليته، بل يرتقي ببحثه إلى ذروة كماله. هذه الحقيقة فهِمَها الرهبان القديسون الأقدمون «فهماً جيداُ عندما وصفوا العذراء بأنها «مائدة الإيمان العقلية»[132]. لقد توسموا فيها الصورة المتماسكة للفلسفة الحقيقية، واقتنعوا من واجب التفلسف في مريم.
عسى أن يكون عرش الحكمة الملجأ الأمين للذين يجعلون من حياتهم بحثاً عن الحكمة. عسى أن تكون طريق الحكمة–وهي الغاية القصوى والحقيقية لكل علمٍ صحيح - حرّة من كل عائق، بشفاعة تلك التي ولدت الحقيقة وحفظتها في قلبها، وقدمتها هديّة للبشرية جمعاء وإلى الأبد!
أعطي في روما، بقرب كنيسة القديس بطرس، في 14 ايلول 1998، عيد الصليب المجيد، في السنة العشرين من حبريتي.
يوحنا بولس الثاني
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى