أنا الألف والياء: هذا ما يقوله الرب الإله تعليم البابا بندكتس السادس عشر في المقابلة العامة بتاريخ 6 سبتمبر 2012
الأحد سبتمبر 09, 2012 8:06 pm
أنا الألف والياء: هذا ما يقوله الرب الإله
تعليم البابا بندكتس السادس عشر في المقابلة العامة بتاريخ 6 سبتمبر 2012
روما، الخميس 6 سبتمبر 2012 (ZENIT.org) - ننشر في ما يلي المقابلة
العامة لقداسة البابا بندكتس السادس عشر مع المؤمنين في صالة بولس السادس
في الفاتيكان نهار الأربعاء 5 سبتمبر 2012، والتي تكلم خلالها عن الصلاة في
كتاب الرؤيا.
***
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
مع انتهاء العطلة، نعود اليوم لنستأنف المقابلات العامة الأسبوعية في
الفاتيكان، مستمرين "بمدرسة الصلاة" هذه، التي نعيشها معًا في تعاليم
الأربعاء.
أود أن أتكلم اليوم حول الصلاة في كتاب الرؤيا، الذي وكما تعلمون، هو
الكتاب الأخير في العهد الجديد. هو كتاب صعب، ولكنه يضم ثروة كبيرة. يضعنا
في اتصال مع الصلاة الحية والغنية للجماعة المسيحية المجتمعة "في يوم الرب"
(رؤيا 1، 10): في الواقع هذه هي الخلفية الأساسية التي بني عليها النص.
يقدم القارىء للجماعة رسالة أعطاها الرب ليوحنا الإنجيلي. يشكل القارىء
والجماعة، إذا جاز التعبير، المناصرين الأساسيين لتطوير هذا الكتاب. من
البداية، وجه إليهم دعاءً فرحًا: "طوبى للذي يقرأ وللذين يسمعون أقوال
النبوءة" (1، 3). من هذا الحوار المستمر بينهما تنطلق سمفونية صلاة تنمو في
مجموعة أشكال متنوعة الى النهاية. إذا استمعنا الى القارىء الذي يقدم
الرسالة، وإن سمعنا ورأينا ردة فعل الجماعة، كادت صلاتهم أن تصبح صلاتنا.
يقدم القسم الأول من الرؤيا (1، 4-3، 22)، ثلاث مراحل متتالية في موقف
الجماعة المصلية. المرحلة الأولى (1، 4-8) تتألف من حوار الذي، وهو حالة
فريدة في العهد الجديد، يقوم ما بين الجماعة المجتمعة والقارىء، الذي يوجه
إليها دعاء بركة: "عليكم النعمة والسلام" (1، 4). يكمل القارىء، مشيرًا الى
مصدر دعائه: من الثالوث، الآب، والروح القدس، ويسوع المسيح، الملتزمين
معًا بتقديم مشروع الخلق والخلاص للبشرية.
تصغي الجماعة له، ولما تسمع اسم يسوع المسيح، تمتلكها موجة من الفرح
وتجيب بحماس، رافعة الى السماء صلاة التسبيح هذه: "لِذاكَ الَّذي أَحَبَّنا
فحَلَّنا مِن خَطايانا بِدَمِه، وجَعَلَ مِنَّا ملكوتًا مِنَ الكَهَنَةِ
لإِلهِه وأَبيه، لَه المَجدُ والعِزَّةُ أَبَدَ الدُّهور. آمين" (1، 5-6).
تشعر الجماعة، المغمورة بمحبة الله، بأنها متحررة من عبودية الخطيئة وتعلن
بأنها "ملكوت" يسوع المسيح، واهبة نفسها له بالكامل. هي تعترف بالرسالة
العظيمة التي وهبت لها بالمعمودية، أي أن تعلن للعالم أجمع حضور الله.
تختتم الجماعة احتفالها بالتمجيد شاخصة بنظرها من جديد نحو يسوع، وبحماس
متزايد، تعترف "بمجده وقدرته" لخلاص البشرية. إن كلمة "آمين" النهائية،
تختتم نشيد التمجيد الموجه للمسيح. تحوي هذه الآيات الأربعة الأولى ثروة
كبيرة من المعلومات بالنسبة لنا. هي تخبرنا بأن على صلاتنا أن تكون قبل كل
شيء إصغاء لله الذي يتكلم معنا.
نحن محاطون بالكثير من الكلام، ولسنا معتادين كثيرًا على الإصغاء،
وبخاصة على أن نضع أنفسنا في وضعية صمت داخلي وخارجي لنكون متنبهين لما
يريد الله أن يقول لنا. علاوة على ذلك، تعلمنا هذه الآيات أن صلاتنا، التي
غالبًا ما تكون مبنية على الطلبات، عليها بعكس ذلك، أن تكون مكونة من
التمجيد لله على محبته، وعطيته لنا يسوع المسيح الذي وهبنا القوة، والرجاء،
والخلاص.
تذكر مداخلة أخرى للقارىء الجماعة المغمورة بمحبة المسيح، التزامها
بالترحيب بحضوره في حياتها. في الواقع، هو يقول: "ها هوذا آت في الغمام.
ستراه كل عين، حتى الذين طعنوه، وتنتحب عليه جميع قبائل الأرض" (1، 7). بعد
أن ارتفع يسوع الى السماء على "غيمة"، رمز المجد (أعمال 1،9)، سيعود يسوع
المسيح بالطريقة عينها التي ارتفع بها الى السماء (أعمال 1، 11). إذًا
سيعترف كل الشعوب وكما يدعو القديس يوحنا في الإنجيل الرابع، "سينظرون الى
من طعنوا" (19، 37). سيفكرون بخطاياهم، التي هي سبب صلبه، كالذين حضروا
يومها على الجلجلة، سيقرعون صدورهم (لوقا 23، 48) طالبين منه المغفرة،
ليتبعوه في حياتهم، ويتحضرون للشركة المتكاملة معه، عند رجوعه الأخير.
تفكر الجماعة بهذه الرسالة وتقول: "نعم، آمين!" (رؤيا 1، 7). بهذه
"النعم" تعبر بأنها فهمت تماما ما قيل لها وتطلب بأن يتحول ذلك الى حقيقة.
إنها صلاة الجماعة التي تتأمل بمحبة الله التي تجلت بشكل كلي على الصليب،
وهي تطلب أن تعيش على مثال تلاميذ المسيح. وهناك جواب الله: "أنا الألف
والياء: الذي هو كائن، وكان وسيأتي وهو القدير". (1، 8).
إن الله الذي يكشف نفسه على أنه البداية والنهاية، يستمع، ويحفظ في قلبه
طلب الجماعة. هو كان، وهو الآن وسيكون حاضرًا، وفاعلا بمحبته في التاريخ
البشري، في الحاضر، والمستقبل، كما في الماضي، حتى النهاية. هذا هو وعد
الله. نجد هنا عنصرًا آخرًا مهما: توقظ فينا الصلاة المستمرة معنى وجود
الرب في حياتنا وفي التاريخ؛ إنه حضور يدعمنا، ويرشدنا، ويعطينا رجاء
كبيرًا حتى في وسط بعض ظلمات القصص الإنسانية؛ بالإضافة الى ذلك، أي صلاة،
حتى في أكثر الأوقات عزلة، ليست أبدًا منعزلة أو عقيمة، ولكنها شريان
الحياة الذي يغذي وجودًا مسيحيًّا ملتزمًا ومتسقًا أكثر فأكثر.
تزيد المرحلة الثانية من صلاة الجماعة (1، 9-22) العمق في العلاقة مع
يسوع المسيح: يظهر الرب، يتكلم ويفعل، والجماعة، دائما على مقربة منه، تصغي
إليه، وتتفاعل. في الرسالة التي يقدمها القارىء، يخبر القديس يوحنا عن
تجربة شخصية صادف فيها المسيح: وهو على جزيرة بطمس لأجل "كلمة الله وشهادة
يسوع" (1، 9)، وكان "يوم الرب" (1، 10)، الأحد، اليوم الذي نحتفل فيه
بالقيامة. يختطف القديس يوحنا (1، 10). ملأه الروح القدس وجدده، موسعًا
قدرته على استقبال يسوع الذي يدعوه ليكتب. تصبح صلاة الجماعة المصغية
تأملية شيئًا فشيئًا، تتخللها عبارات "تنظر"، و"ترى"، أي أنها تتأمل بما
يقوله القارىء لكي تستوعبه وتتخذه لها.
يسمع يوحنا "صوتًا جهيرًا كصوت البوق" (1، 10): يأمره الصوت بأن يبعث
رسالة "للكنائس السبع" (1، 11) الموجودة في آسيا الصغرى، ومنها، الى جميع
الكنائس في كل العصور، بالمشاركة مع رعاتها. إن عبارة "صوت...كصوت بوق"،
المأخوذة من سفر الخروج (20، 18)، تذكر بتجلي الله لموسى على جبل سيناء،
وتشير الى صوت الله المتكلم من أعلى السماوات، بكل مجده. هنا، تعزى العبارة
الى يسوع المسيح القائم من الموت، والذي من مجد الآب يتكلم الى الجماعة
بصوت الله في الصلاة. عندما استدار يوحنا "لينظر الى الصوت" (1، 12)، رأى
"سبع مناور من ذهب، وبين المناور ما يشبه ابن الإنسان" (1، 12- 13)، وهو
مصطلح مألوف ليوحنا، يشير به الى يسوع نفسه.
هذه المناور المذهبة، مع شموعها المضائة، تشير الى الكنائس في كل
العصور، في وضعية صلاة خلال القداس: يسوع القائم من الموت، "ابن الإنسان"،
موجود في وسطها، مرتديًا لباس رئيس الكهنة في العهد القديم، يلعب دور
الوسيط الكهنوتي مع الآب. في رسالة يوحنا الرمزية، هناك ظهور مضيء للمسيح
القائم من الموت، مع خصائص الله، التي نجدها في العهد القديم. هناك
"الأحصنة البيضاء...كالصوف الأبيض...كالثلج" (1، 14)، رمز لأزلية الله
(راجع تثنية 7، 9)، ورمز للقيامة.
أما الرمز الثاني، فهو النار، التي في العهد القديم، غالبًا ما كانت
تشير الى الله لإظهار خاصيتين. الأولى، شدة محبته الغيورة، التي تحرك عهده
مع الإنسان (تثنية 4، 24). وقوة المحبة هذه هي عينها التي نقرأها في نظرة
يسوع القائم من الموت: "عيناه كلهب نار" (رؤيا 1، 14). أما الثانية، فهي
قدرته التي لا تقاوم على التغلب على الشر "كنار آكلة" (تثنية 9، 3). حتى
"قدما" يسوع، متوجهتان لتدمير الشر، متوهجتان "كنحاس خالص" (رؤيا 1، 15).
من ثم، صوت المسيح، "كصوت مياه غزيرة" (1، 15)، له وقع مؤثر "لمجد إله
إسرائيل" المتقدم نحو أورشليم، والذي تكلم عنه النبي حزقيال (حزقيال 43،
2). وهناك عناصر ثلاث تالية رمزية تظهر ما فعله يسوع القائم من الموت
لكنيسته: هو يمسكها بإحكام باليد اليمنى، هذه صورة مهمة جدًّا: يسوع ممسكًا
بالكنيسة في يده، ويكلمها بقوة سيف حاد ويريها روعة ألوهيته: "وجهه كالشمس
تضيء في أبهى شروقها" (رؤيا 1،16). يوحنا مأخوذ بهذه الرؤيا الغريبة لدرجة
أنه يشعر بسوء ويرتمي على الأرض كالميت.
بعد تجربة الرؤيا هذه، رأى الرسول الرب يسوع يتكلم معه، ويطمئنه، ويضع
يده على رأسه، ويكشف له حقيقته كمصلوب قائم من الموت، ويعهد اليه مهمة أن
ينقل هذه الرسالة الى الكنائس (رؤيا 1، 17-18). إنه لشيء جميل، هذا الإله
الذي رآه وأغمي عليه أمامه مرتميًا كالميت. هو صديق حياته، الذي وضع يده
على رأسه.
والشيء نفسه سينطبق علينا: نحن أصدقاء يسوع. وظهور الرب القائم من
الموت، لن يكون مرعبًا، بل سيكون كلقيا مع الصديق. خاضت الجماعة أيضًا مع
يوحنا هذه اللحظة بالذات من النور أمام الرب، ولكن متصلة مع تجربة لقاء
يومي مع الرب، شاعرة بغنى اللقاء معه الذي سيملأ فراغ وجودها.
في المرحلة الثالثة والأخيرة من الرؤيا (1، 2-3)، يقدم القارىء للجماعة
رسالة من ستة أقسام يتحدث فيها يسوع بصيغة المتكلم. متوجهًا الى سبعة كنائس
في آسيا الصغرى حول أفسس، ينطلق كلام يسوع من الوضع الخاص لكل كنيسة، لكي
يمتد بعدها الى الكنائس في كل العصور. يدخل يسوع فورًا في صلب حالة كل
كنيسة، مظهرًا أنوارها، وظلماتها، وداعيًا إياها بإلحاح: "تب" (2، 5: 16؛
3، 19)؛ "تمسك بما عندك" (رؤيا 3، 11)؛ "اعمل أعمالك السالفة" (2، 5)؛ "كن
حميًّا وتب" (3، 19). كلمة يسوع هذه، إن أصغينا اليها بإيمان، ستصبح فعالة
فورًا: تحولت الكنيسة بالصلاة مستقبلة كلام الرب. على جميع الكنائس أن تتخذ
وضعيات إصغاء للرب، منفتحة على الروح كما يطلب يسوع بإلحاح، مكررا هذا
الطلب سبع مرات: "من كانَ لَه أُذُنان، فلْيَسمَعْ ما يَقولُ الرُّوحُ
لِلكَنائس" (2، 7. 11. 17. 29؛ 3، 6. 13. 22). حفزت هذه الرسالة الجماعة
الى التوبة، والإرتداد، والمثابرة، والنمو في الحب، لقد وجدت توجيهًا
لطريقها.
أصدقائي الأعزاء، تظهر لنا الرؤيا جماعة مجتمعة بالصلاة، لأنه بالتحديد
بالصلاة نفهم بشكل أفضل حضور الله معنا وبيننا. كلما صلينا بكثافة أكثر،
استطعنا أن نفهمه فيدخل حقًا في حياتنا ليرشدها، ويمنحنا الفرح والسلام.
وكلما عرفنا أكثر، كلما أحببنا أكثر، وكلما تبعنا يسوع، شعرنا أكثر فأكثر
بالحاجة الى أن نتوقف لنلتقي به في الصلاة، لنحظى بالسكينة، والرجاء،
والقوة لحياتنا. شكرًا لإصغائكم.
***
نقلته من الفرنسية الى العربية – نانسي لحود وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية
روما، الخميس 6 سبتمبر 2012 (ZENIT.org) - ننشر في ما يلي المقابلة
العامة لقداسة البابا بندكتس السادس عشر مع المؤمنين في صالة بولس السادس
في الفاتيكان نهار الأربعاء 5 سبتمبر 2012، والتي تكلم خلالها عن الصلاة في
كتاب الرؤيا.
***
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
مع انتهاء العطلة، نعود اليوم لنستأنف المقابلات العامة الأسبوعية في
الفاتيكان، مستمرين "بمدرسة الصلاة" هذه، التي نعيشها معًا في تعاليم
الأربعاء.
أود أن أتكلم اليوم حول الصلاة في كتاب الرؤيا، الذي وكما تعلمون، هو
الكتاب الأخير في العهد الجديد. هو كتاب صعب، ولكنه يضم ثروة كبيرة. يضعنا
في اتصال مع الصلاة الحية والغنية للجماعة المسيحية المجتمعة "في يوم الرب"
(رؤيا 1، 10): في الواقع هذه هي الخلفية الأساسية التي بني عليها النص.
يقدم القارىء للجماعة رسالة أعطاها الرب ليوحنا الإنجيلي. يشكل القارىء
والجماعة، إذا جاز التعبير، المناصرين الأساسيين لتطوير هذا الكتاب. من
البداية، وجه إليهم دعاءً فرحًا: "طوبى للذي يقرأ وللذين يسمعون أقوال
النبوءة" (1، 3). من هذا الحوار المستمر بينهما تنطلق سمفونية صلاة تنمو في
مجموعة أشكال متنوعة الى النهاية. إذا استمعنا الى القارىء الذي يقدم
الرسالة، وإن سمعنا ورأينا ردة فعل الجماعة، كادت صلاتهم أن تصبح صلاتنا.
يقدم القسم الأول من الرؤيا (1، 4-3، 22)، ثلاث مراحل متتالية في موقف
الجماعة المصلية. المرحلة الأولى (1، 4-8) تتألف من حوار الذي، وهو حالة
فريدة في العهد الجديد، يقوم ما بين الجماعة المجتمعة والقارىء، الذي يوجه
إليها دعاء بركة: "عليكم النعمة والسلام" (1، 4). يكمل القارىء، مشيرًا الى
مصدر دعائه: من الثالوث، الآب، والروح القدس، ويسوع المسيح، الملتزمين
معًا بتقديم مشروع الخلق والخلاص للبشرية.
تصغي الجماعة له، ولما تسمع اسم يسوع المسيح، تمتلكها موجة من الفرح
وتجيب بحماس، رافعة الى السماء صلاة التسبيح هذه: "لِذاكَ الَّذي أَحَبَّنا
فحَلَّنا مِن خَطايانا بِدَمِه، وجَعَلَ مِنَّا ملكوتًا مِنَ الكَهَنَةِ
لإِلهِه وأَبيه، لَه المَجدُ والعِزَّةُ أَبَدَ الدُّهور. آمين" (1، 5-6).
تشعر الجماعة، المغمورة بمحبة الله، بأنها متحررة من عبودية الخطيئة وتعلن
بأنها "ملكوت" يسوع المسيح، واهبة نفسها له بالكامل. هي تعترف بالرسالة
العظيمة التي وهبت لها بالمعمودية، أي أن تعلن للعالم أجمع حضور الله.
تختتم الجماعة احتفالها بالتمجيد شاخصة بنظرها من جديد نحو يسوع، وبحماس
متزايد، تعترف "بمجده وقدرته" لخلاص البشرية. إن كلمة "آمين" النهائية،
تختتم نشيد التمجيد الموجه للمسيح. تحوي هذه الآيات الأربعة الأولى ثروة
كبيرة من المعلومات بالنسبة لنا. هي تخبرنا بأن على صلاتنا أن تكون قبل كل
شيء إصغاء لله الذي يتكلم معنا.
نحن محاطون بالكثير من الكلام، ولسنا معتادين كثيرًا على الإصغاء،
وبخاصة على أن نضع أنفسنا في وضعية صمت داخلي وخارجي لنكون متنبهين لما
يريد الله أن يقول لنا. علاوة على ذلك، تعلمنا هذه الآيات أن صلاتنا، التي
غالبًا ما تكون مبنية على الطلبات، عليها بعكس ذلك، أن تكون مكونة من
التمجيد لله على محبته، وعطيته لنا يسوع المسيح الذي وهبنا القوة، والرجاء،
والخلاص.
تذكر مداخلة أخرى للقارىء الجماعة المغمورة بمحبة المسيح، التزامها
بالترحيب بحضوره في حياتها. في الواقع، هو يقول: "ها هوذا آت في الغمام.
ستراه كل عين، حتى الذين طعنوه، وتنتحب عليه جميع قبائل الأرض" (1، 7). بعد
أن ارتفع يسوع الى السماء على "غيمة"، رمز المجد (أعمال 1،9)، سيعود يسوع
المسيح بالطريقة عينها التي ارتفع بها الى السماء (أعمال 1، 11). إذًا
سيعترف كل الشعوب وكما يدعو القديس يوحنا في الإنجيل الرابع، "سينظرون الى
من طعنوا" (19، 37). سيفكرون بخطاياهم، التي هي سبب صلبه، كالذين حضروا
يومها على الجلجلة، سيقرعون صدورهم (لوقا 23، 48) طالبين منه المغفرة،
ليتبعوه في حياتهم، ويتحضرون للشركة المتكاملة معه، عند رجوعه الأخير.
تفكر الجماعة بهذه الرسالة وتقول: "نعم، آمين!" (رؤيا 1، 7). بهذه
"النعم" تعبر بأنها فهمت تماما ما قيل لها وتطلب بأن يتحول ذلك الى حقيقة.
إنها صلاة الجماعة التي تتأمل بمحبة الله التي تجلت بشكل كلي على الصليب،
وهي تطلب أن تعيش على مثال تلاميذ المسيح. وهناك جواب الله: "أنا الألف
والياء: الذي هو كائن، وكان وسيأتي وهو القدير". (1، 8).
إن الله الذي يكشف نفسه على أنه البداية والنهاية، يستمع، ويحفظ في قلبه
طلب الجماعة. هو كان، وهو الآن وسيكون حاضرًا، وفاعلا بمحبته في التاريخ
البشري، في الحاضر، والمستقبل، كما في الماضي، حتى النهاية. هذا هو وعد
الله. نجد هنا عنصرًا آخرًا مهما: توقظ فينا الصلاة المستمرة معنى وجود
الرب في حياتنا وفي التاريخ؛ إنه حضور يدعمنا، ويرشدنا، ويعطينا رجاء
كبيرًا حتى في وسط بعض ظلمات القصص الإنسانية؛ بالإضافة الى ذلك، أي صلاة،
حتى في أكثر الأوقات عزلة، ليست أبدًا منعزلة أو عقيمة، ولكنها شريان
الحياة الذي يغذي وجودًا مسيحيًّا ملتزمًا ومتسقًا أكثر فأكثر.
تزيد المرحلة الثانية من صلاة الجماعة (1، 9-22) العمق في العلاقة مع
يسوع المسيح: يظهر الرب، يتكلم ويفعل، والجماعة، دائما على مقربة منه، تصغي
إليه، وتتفاعل. في الرسالة التي يقدمها القارىء، يخبر القديس يوحنا عن
تجربة شخصية صادف فيها المسيح: وهو على جزيرة بطمس لأجل "كلمة الله وشهادة
يسوع" (1، 9)، وكان "يوم الرب" (1، 10)، الأحد، اليوم الذي نحتفل فيه
بالقيامة. يختطف القديس يوحنا (1، 10). ملأه الروح القدس وجدده، موسعًا
قدرته على استقبال يسوع الذي يدعوه ليكتب. تصبح صلاة الجماعة المصغية
تأملية شيئًا فشيئًا، تتخللها عبارات "تنظر"، و"ترى"، أي أنها تتأمل بما
يقوله القارىء لكي تستوعبه وتتخذه لها.
يسمع يوحنا "صوتًا جهيرًا كصوت البوق" (1، 10): يأمره الصوت بأن يبعث
رسالة "للكنائس السبع" (1، 11) الموجودة في آسيا الصغرى، ومنها، الى جميع
الكنائس في كل العصور، بالمشاركة مع رعاتها. إن عبارة "صوت...كصوت بوق"،
المأخوذة من سفر الخروج (20، 18)، تذكر بتجلي الله لموسى على جبل سيناء،
وتشير الى صوت الله المتكلم من أعلى السماوات، بكل مجده. هنا، تعزى العبارة
الى يسوع المسيح القائم من الموت، والذي من مجد الآب يتكلم الى الجماعة
بصوت الله في الصلاة. عندما استدار يوحنا "لينظر الى الصوت" (1، 12)، رأى
"سبع مناور من ذهب، وبين المناور ما يشبه ابن الإنسان" (1، 12- 13)، وهو
مصطلح مألوف ليوحنا، يشير به الى يسوع نفسه.
هذه المناور المذهبة، مع شموعها المضائة، تشير الى الكنائس في كل
العصور، في وضعية صلاة خلال القداس: يسوع القائم من الموت، "ابن الإنسان"،
موجود في وسطها، مرتديًا لباس رئيس الكهنة في العهد القديم، يلعب دور
الوسيط الكهنوتي مع الآب. في رسالة يوحنا الرمزية، هناك ظهور مضيء للمسيح
القائم من الموت، مع خصائص الله، التي نجدها في العهد القديم. هناك
"الأحصنة البيضاء...كالصوف الأبيض...كالثلج" (1، 14)، رمز لأزلية الله
(راجع تثنية 7، 9)، ورمز للقيامة.
أما الرمز الثاني، فهو النار، التي في العهد القديم، غالبًا ما كانت
تشير الى الله لإظهار خاصيتين. الأولى، شدة محبته الغيورة، التي تحرك عهده
مع الإنسان (تثنية 4، 24). وقوة المحبة هذه هي عينها التي نقرأها في نظرة
يسوع القائم من الموت: "عيناه كلهب نار" (رؤيا 1، 14). أما الثانية، فهي
قدرته التي لا تقاوم على التغلب على الشر "كنار آكلة" (تثنية 9، 3). حتى
"قدما" يسوع، متوجهتان لتدمير الشر، متوهجتان "كنحاس خالص" (رؤيا 1، 15).
من ثم، صوت المسيح، "كصوت مياه غزيرة" (1، 15)، له وقع مؤثر "لمجد إله
إسرائيل" المتقدم نحو أورشليم، والذي تكلم عنه النبي حزقيال (حزقيال 43،
2). وهناك عناصر ثلاث تالية رمزية تظهر ما فعله يسوع القائم من الموت
لكنيسته: هو يمسكها بإحكام باليد اليمنى، هذه صورة مهمة جدًّا: يسوع ممسكًا
بالكنيسة في يده، ويكلمها بقوة سيف حاد ويريها روعة ألوهيته: "وجهه كالشمس
تضيء في أبهى شروقها" (رؤيا 1،16). يوحنا مأخوذ بهذه الرؤيا الغريبة لدرجة
أنه يشعر بسوء ويرتمي على الأرض كالميت.
بعد تجربة الرؤيا هذه، رأى الرسول الرب يسوع يتكلم معه، ويطمئنه، ويضع
يده على رأسه، ويكشف له حقيقته كمصلوب قائم من الموت، ويعهد اليه مهمة أن
ينقل هذه الرسالة الى الكنائس (رؤيا 1، 17-18). إنه لشيء جميل، هذا الإله
الذي رآه وأغمي عليه أمامه مرتميًا كالميت. هو صديق حياته، الذي وضع يده
على رأسه.
والشيء نفسه سينطبق علينا: نحن أصدقاء يسوع. وظهور الرب القائم من
الموت، لن يكون مرعبًا، بل سيكون كلقيا مع الصديق. خاضت الجماعة أيضًا مع
يوحنا هذه اللحظة بالذات من النور أمام الرب، ولكن متصلة مع تجربة لقاء
يومي مع الرب، شاعرة بغنى اللقاء معه الذي سيملأ فراغ وجودها.
في المرحلة الثالثة والأخيرة من الرؤيا (1، 2-3)، يقدم القارىء للجماعة
رسالة من ستة أقسام يتحدث فيها يسوع بصيغة المتكلم. متوجهًا الى سبعة كنائس
في آسيا الصغرى حول أفسس، ينطلق كلام يسوع من الوضع الخاص لكل كنيسة، لكي
يمتد بعدها الى الكنائس في كل العصور. يدخل يسوع فورًا في صلب حالة كل
كنيسة، مظهرًا أنوارها، وظلماتها، وداعيًا إياها بإلحاح: "تب" (2، 5: 16؛
3، 19)؛ "تمسك بما عندك" (رؤيا 3، 11)؛ "اعمل أعمالك السالفة" (2، 5)؛ "كن
حميًّا وتب" (3، 19). كلمة يسوع هذه، إن أصغينا اليها بإيمان، ستصبح فعالة
فورًا: تحولت الكنيسة بالصلاة مستقبلة كلام الرب. على جميع الكنائس أن تتخذ
وضعيات إصغاء للرب، منفتحة على الروح كما يطلب يسوع بإلحاح، مكررا هذا
الطلب سبع مرات: "من كانَ لَه أُذُنان، فلْيَسمَعْ ما يَقولُ الرُّوحُ
لِلكَنائس" (2، 7. 11. 17. 29؛ 3، 6. 13. 22). حفزت هذه الرسالة الجماعة
الى التوبة، والإرتداد، والمثابرة، والنمو في الحب، لقد وجدت توجيهًا
لطريقها.
أصدقائي الأعزاء، تظهر لنا الرؤيا جماعة مجتمعة بالصلاة، لأنه بالتحديد
بالصلاة نفهم بشكل أفضل حضور الله معنا وبيننا. كلما صلينا بكثافة أكثر،
استطعنا أن نفهمه فيدخل حقًا في حياتنا ليرشدها، ويمنحنا الفرح والسلام.
وكلما عرفنا أكثر، كلما أحببنا أكثر، وكلما تبعنا يسوع، شعرنا أكثر فأكثر
بالحاجة الى أن نتوقف لنلتقي به في الصلاة، لنحظى بالسكينة، والرجاء،
والقوة لحياتنا. شكرًا لإصغائكم.
***
نقلته من الفرنسية الى العربية – نانسي لحود وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية
- كلمة قداسة البابا بندكتس السادس عشر قبيل تلاوة صلاة التبشير الملائكي - 3 سبتمبر 2012
- عيد القربان المقدّس لعام 2012 - البابا بندكتس السادس عشر
- العظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر في 21 أكتوبر 2012
- لا مستحيل عند الله + كلمة قداسة البابا بندكتس السادس عشر قبيل تلاوة صلاة التبشير الملائكي روما، 14 أكتوبر 2012.
- الإِيمانُ والرَّجاء والمَحَبَّة، ولَكن أعظمها المَحبَّة كلمة قداسة البابا بندكتس السادس عشر قبيل تلاوة صلاة التبشير الملائكي 5 نوفمبر 2012
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى