21 - تفسير سفر اللاويين شرائع خاصة بقداسة الكهنة
السبت مارس 26, 2011 1:09 am
إذ قدم شرائع السابقة التي تمس حياة الجماعة كلها – شعبهًا وكهنة – يقدم الآن شرائع خاصة بالكهنة ليمارسوا الحياة المقدسة التي تليق بهم ككهنة الرب القدوس [6]، الذين يقدمون له القرابين [6-8]، وكقادة روحيين [8]، إذ كلما ازدادت المسئولية إلتزم الإنسان بحياة أكثر تدقيقًا.
1. الكهنة وحالات الوفاة [1-6].
2. الكهنة والزواج [7-8].
3. سقوط إلنة كاهن [9].
4. شرائع خاصة برئيس الكهنة [10-15].
5. الكهنة والعيوب الخلقية [16-24].
1. الكهنة وحالات الوفاة:
يليق بالكاهن وقد قبل الأبوة في المسيح يسوع أن يرتفع فوق العواطف البشرية الخاصة، فيرى في الكل أولاده وإخوته وأحباءه بلا تمييز، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الكاهن بما أنه وكيل الله، فيلزمه أن يهتم بسائر البشر، لكونه أبًا للعالم كله[263]]. خلال هذه الأبوة العامة طالبته حتى شريعة العهد القديم ألا يحزن لموت أحد أقربائه ويتنجس "لموت في قومه" [1]، وقد استثنى من ذلك الأب والأم والإبن والإبنة والأخ والأخت غير المتزوجة [2-3].
هذه الشريعة قدمها رب المجد بفكر إنجيلي حينما قال: "دع الموتى يدفنون موتاهم" (مت 8: 22، لو 9: 60)، إذ يليق بالخادم ألا يرتبك حتى بهذه الواجبات العائلية من أجل خدمته للجماعة كلها. وكما يقول العلامة ترتليان: [إنه يكرس نفسه لله... أظن أنه يليق بالنذير ومن نال وظيفة الكهنوت أن يُلهم بالكرازة بملكوت الله[264]...].
حسب الشريعة الموسوية الكاهن لا يلمس ميتًا من أقربائه عدا أقرب الذين ذكرناهم، وحتى في حزنه على هؤلاء يليق به ألا يمارس العادات الوثنية الممنوعة حتى بالنسبة للشعب مثل حلق شعر الرأس فيصير أقرع، وحلق عوارض اللحية، وتجريح الجسد. إن كانت هذه الأمور لا تليق بالشعب فكم بالأكثر بالنسبة للكاهن الذي يقرب وقائد الرب [6] ويخدم الأقداس!
2. الكهنة والزواج:
حسب الشريعة الموسوية لا يجوز للكاهن أن يتزوج من زانية حتى وإن تابت ولا من مدنسة أو مطلقة... حتى يكون هو وزوجته بلا عيب في عيني الله والناس، بكونهما قدوة صالحة للشعب. أما رئيس الكهنة فلا يجوز له حتى الزواج بأرملة بل يتزوج عذراء، لأنه يُشير إلى السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم الذي اقتنى الكنيسة عذراء له عفيفة (2 كو 11: 2).
3. سقوط إبنة الكاهن:
"وإذا تدنست إبنة كاهن بالزنى فقد دنست أباها، بالنار تُحرق" [9].
إذ يقبل الكاهن نعمًا إلهية كثيرة يلزمه أن يكون هو وزوجته وأولاده بلا عيب، كل خطأ يرتكبه أحدهم يُعاقب بحكم أقسى مما يسقط تحته الشخص العادي. وكما يقول القديس كيرلس الإسكندري: [في حالة عائلة الكاهن تزداد العقوبة، لأن كل من أعطى كثيرًا يُطلب منه الكثير" (لو 12: 48)[265]].
4. شرائع خاصة برئيس الكهنة:
رئيس الكهنة أو الكاهن الأعظم كما يدعوه هنا [10]، إذ يرمز للسيد المسيح رئيس كهنتنا الأعظم خضع لشرائع خاصة به، منها:
أولاً: "الذي صب على رأسه دهن المسحة وملئت يده ليلبس الثياب لا يكشف رأسه ولا يشق ثيابه" [10]. لا يجوز له أن يكشف رأسه التي مسحت بدهن المسحة، فإن الرأس الممسوحة تُشير إلى السيد المسيح (راجع تفسير لا 2)، وكأنه إذ قبلنا المسيح يسوع فينا نخفيه في أعماقنا، قائلين: "أمسكته ولم أرخِه حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بيّ" (نش 4: 12)، إنما هي الجنة التي حملت في داخلها مسيحها شجرة الحياة، والينبوع الذي يمتلىء بمياه الحياة والينبوع الذي لا ينضب لأن رب المجد في داخله!
ليكن عريسنا في داخلنا كما في جنة مغلقة وعين مقفلة وينبوع مختوم... نفرح به ونتحد معه ونشاركه أمجاده الداخلية!
أما عدم شق الثياب، فلأن الثوب يُشير إلى الكنيسة التي يلتحف بها السيد المسيح. لتبق كنيسة واحدة بلا انشقاق، فإن عريسها واحد!
ثانيًا: "ولا يأتي إلى نفس ميتة ولا يتنجس لأبيه أو أمه" [11]. يقصد بذلك أنه لا يمس ميتًا حتى وإن كان أباه أو أمه... بكونه رمزًا للسيد المسيح فإنه كواهب حياة لا يشترك مع الموت، إن مس ميتًا لا يحتمل الموت لمسته بل يهرب!...
هكذا إذ حمل الرسول بولس في داخله السيد المسيح الذي لا شركة له مع الموت أو الهاوية، بجسارة قال: "أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هاوية؟! أما شوكة الموت فهي الخطية، وقوة الخطية هي الناموس، ولكن شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1 كو 15: 55-56).
ثالثًا: "ولا يخرج من المقدس لئلا يُدنس مقدس إلهه، لأن إكليل دهن مسحة إلهه عليه" [12]. يعني بهذا إنه متى كان يؤدي خدمته في بيت الله لا يجوز أن يخرج من خيمة الإجتماع ولا يتوقف عن العمل أيًا كان السبب حتى إن مات له أقرب المقربين، فإن تركه للخدمة يُحسب إمتهانًا لهذا العمل القدسي واحتقارًا للمجد الذي زينته به المسحة على رأسه.
يعلق القديس جيروم على هذه الشريعة بقوله: [بالتأكيد إذ نؤمن بالمسيح نحمله فينا، وبسبب زيت المسحة التي تقبلناها يلزمنا ألا نفارق الهيكل، أي لا نترك عملنا المسيحي، ولا نخرج خارجًا فنرتبك بأعمال الأمم غير المؤمنين إنما نبقى في الداخل على الدوام كخدام مطيعين لإرادة الرب[266]].
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم[267] في هذه الشريعة صورة حية لقلب المؤمن الذي يصير مقدسًا لله ومسكنًا له (رو 6: 16)، فلا تمارس فيه أعمال بشرية بل ما هو إلهي. لذلك كل كلمة تخرج من فمه تكون خارجة من عند الله، فلا تخرج منه كلمة دنسة ولا يبتهج بالمزاح وكثرة الضحك. بمعنى آخر إذ نتبرر بربنا يسوع المسيح تصير مسكنًا لرئيس الكهنة الذي لا يفارقنا، لأننا مقدسه، وتكون تصرفاتنا إنما هي تصرفاته فينا وبنا.
بنفس المعنى يقول الأب نسطور: [هذا يعني إنه لا يخرج (السيد المسيح) من قلبه، إذ وعد أن يسكن فيه إلى الأبد، قائلاً: "إنيّ أسكن فيهم وأسير بينهم" (2 كو 6: 16)[268].
رابعًا: "هذا يأخذ إمرأة عذراء" [13]. يشترط أن تكون زوجته عذراء من قومه [14]. وقد استنتج بعض المفسرين أن رئيس الكهنة كان يلتزم أن يكون بعل إمرأة واحدة، يأخذها عذراء. هذه الإمرأة هي بكر، وكما يقول الرسول "كنيسة أبكار مكتوبين في السموات" (عب 12: 13).
إنها من قومه وليست أجنبية، إذ صرنا في مياه المعمودية جسد المسيح، لسنا أجنبين عنه، بل أعضاء جسده، ووهب لنا روحه القدوس ساكنًا فينا!
5. الكهنة والعيوب الخلقية (الجسدية):
إشترطت الشريعة في الكاهن الذي يمارس الأعمال الكهنوتية كتقديم الذبيحة والبخور... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). ألا يكون به عيب، فلا يكون أعمى أو أعرج ولا أفطس ولا زوائدي ولا أحدب ولا أكشم ولا من في عينه بياض ولا أجرب ولا أكلف ولا مرضوض الخصي [18-19]. لذلك عندما يبلغ أبناء الكهنة السن القانوني لاستلام العمل الكهنوتي يفحصهم الشيوخ أعضاء مجمع السنهدريم ويفرز الذين بلا عيب للعمل الكهنوتي الكامل أما من به عيب فيقوم ببعض أعمال كهنوتية بسيطة مثل إيقاد النار... إلخ.
في العهد الجديد إشترط بولس الرسول في الأسقف أن يكون بلا عيب (1 تي 3: 2)، وأن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج (1 تي 3: 7). وقد رأى البابا غريعوريوس (الكبير) في الشريعة التي بين أيدينا فهمًا رمزيًا لشروط الكاهن، إذ يجب ألا يقبل من كان أعمى أو أعرج أو أفطس... روحيًا، وفيما يلي مقتطفات من كلماته التي وردت في حديثه عن "الرعاية":
[الأعمى هو الذي لا يعرف ضياء التأمل السمائي، فالذي أدركته ظلمة العالم الحاضر لا يستطيع أن يدرك النور الآتي لأنه لا يشتاق إليه. لذلك فهو لا يعرف أن يخطو أو يعرف إلى أين يمضي، ومن ثم قالت حنه النبية: "لأجل أتقيائه يحرس والأشرار في الظلام يصمتون" (1 صم 2: 9).
الأعرج هو الذي يعرف حقًا الطريق لكنه لا يستطيع أن يسير فيه بثبات بسبب نفسه العليلة، ولأنه لا يستطيع أن يرتفع بعاداته القبيحة إلى مستوى الفضيلة، فإنه لا يملك القوة ليسلك تبعًا لإرادته. لذلك قال القديس بولس الرسول: "قوِّموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة واصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحرى يُشفي" (عب 12: 12-13).
الأفطس هو الذي يعجز عن التمييز، فنحن نميز بحاسة الشم الروائح الذكية من العفنة. إن هذه الحاسة تُشير حقًا إلى حاسة التمييز التي بها نختار الفضيلة ونرفض الرذيلة. لذلك قيل في مدح الكنيسة العروس: "أنفك كبرج لبنان" (نش 7: 4). فالكنيسة المقدسة تدرك تمامًا بالتمييز التجارب التي تُثار عليها بأسباب متنوعة، وتعرف مقدمًا - من فوق برجها - معارك الشر المزمعة أن تحدث.
الزوائدي... بعض الناس ينشغلون دائمًا بأسئلة فضولية أكثر من اللازم، وهم لا يعترفون أنهم أغبياء، ولكنهم يفرطون في الثقة بنفوسهم، لذلك أضاف الكتاب قائلاً: "ولا زوائدي". ومن الواضح أن الأنف الكبير المنحني يعبر عن إفراط في التمييز، وهذا الإفراط يشوه كمال هذه الحاسة وجمالها.
الرجل الذي فيه كسر رجل وكسر يد هو الذي لا يستطيع مطلقًا أن يسير في طريق الله وقد تجرد تمامًا من نصيب الأعمال الصالحة. في هذا يختلف عن الأعرج الذي يمكنه - ولو بصعوبة - الإشتراك في الأعمال الصالحة، أما المكسور فقد تجرد منها تمامًا.
الأحدب هو الذي يرزح تحت ثقل الهموم العالمية فلا يمكنه أن يرفع عينيه إلى ما هو فوق بل يُثبتها على موطئ الأقدام حيث أدنى الأشياء. وهو إن سمع أخبارًا سارة عن مسكن الآب السماوي فإنه - تحت ثقل عاداته الشريرة - لا يستطيع أن يرفع محيا قلبه ولا يستطيع حتى أن يرتفع بفكره الذي ربطته الهموم العالمية إلى الأرض. هذا الإنسان يقول عنه المرتل داود: "لويت إنحنيت إلى الغاية" (مز 38: 6). ويقول الإله المتجسد عن هؤلاء رافضًا آثامهم: "والذي سقط بين الشوك هم الذين يسمعون ثم يذهبون فيختنقون من هموم الحياة وغناها ولذاتها ولا ينضجون ثمرًا" (لو 8: 14).
أما الأكشم أو من على عينيه غشاوة فهو الذي بنظراته الطبيعية يضيئ بمعرفة الحق لكن عينيه اظلمتا بالأعمال الجسدية، فالعين التي عليها غشاوة تكون حدقتها سليمة لكن الجفون تضعف وتنتفخ بسبب الإفرازات وتذبل بسبب سيل الدموع فتضعف حدقة العين. إن البعض تضعف بصريتهم بسبب الحياة الجسدية، هؤلاء كان لهم قدرة تمييز الخير لكن بصيرتهم اظلمت بسبب اعتيادهم فعل الإثم. الذي على عينيه غشاوة هو الذي كان له بالفطرة فطنة الحواس لكنه شوهها بحياته الفاسدة. لمثل هؤلاء يقول الملاك: "كحل عينيك بكحل لكي تبصر" (رؤ 3: 18). إن كحلنا عيوننا بكحل لنبصر فإننا نقوى عيون أفهامنا بأدوية الأعمال الصالحة لتبصر بريق النور الحقيقي.
أما الذي في عينيه بياض فهو الذي حرم من معاينة النور الحقيقي بسبب عماه مدفوعًا بادعاء الحكمة والصلاح. إن حدقة العين تبصر إن كانت سوداء لكن إن كان بها بياض فهي لا تبصر شيئًا، فمن الواضح أنه حينما يدرك الإنسان أنه أحمق وأثيم فإنه يفهم بقوى عقله مدى وهج الضياء الداخلي، لكنه إذ يعزي إلى نفسه إشراق الحكمة والصلاح فإنه يحجز عنها ضياء المعرفة الفائق، أما بالنسبة لكبرياء مجده الذاتي فإنه يعبث إذ يحاول إدراك بريق النور الإلهي فقد قيل عن البعض: "بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء" (رو 1: 22).
أما الإنسان الأجرب فهو الذي يسوده دائمًا بطر الجسد. ففي حالة الجرب تنتثر الحرارة الداخلية على الجلد، وهذه الحالة تمثل الدعارة تمامًا. وهكذا عندما يُترجم إغراء القلب بالأفعال فإننا نستطيع أن نقول أن الحرارة الداخلية تنتثر كما ينتثر الجرب على الجلد، أما الأذى الظاهر الذي يلحق بالجسد فإنه يطابق هذه الحقيقة. إنه كما أن الشهوة إذا لم تخضع في الفكر فإنها تسود بالفعل، لذلك كان بولس مهتمًا بتطهيرها كما لو كانت جربًا على الجلد فقال: "لم تصبكم تجربة إلاَّ بشرية" (1 كو 10: 13). وكأنه يُريد أن يوضح أنه كبشر لابد أن نقاسي من تجارب الفكر، ولكن إن تغلبت علينا في وسط حربنا معها واستقرت في قلوبنا فإن هذا يكون من الشيطان.
أما الأكلف فقد أتلف الطمع عقله، فإن لم يضبط هذا الطمع في الأمور الصغيرة فإنه سيسود على حياته كلها. إن الكلف يغزو الجسد لكنه لا يسبب آلامًا، وينتشرعلى المريض دون أن يُضايقه، لكنه يشوه جمال الأعضاء، وهكذا الطمع أيضًا إذ يملأ عقل ضحيته بالسرور إلاَّ أنه يُنجسه. وإذ يضع أمام الفكر أشياء ليقتنيها فإنه يثيره بالبغضة والعداوة. أما أنه لا يسبب آلامًا فهذا لأنه يعد النفس العليلة بأشياء كثيرة وفيرة ثمنًا للخطية. أما أن جمال الأعضاء يتشوه فهذا لأن الجشع يشوه جمال الفضيلة، أي أن الجسد كله يفسد حقًا إذا ملأت الرذائل نفس الإنسان، لذلك يقول القديس بولس بحق: "لأن محبة المال أصل لكل الشرور" (1 تى 6: 10).
أما مرضوض الخصي، مع أنه لا يفعل النجاسة إلاَّ أنه يرزح تحت نير التفكير الدائم فيها بإفراط، ومع أنه لم يتدنس أبدًا بالفعل إلاَّ أن قلبه افتتن بلهو الدعارة دون أي وخز للضمير. إن مرض إرتضاض الخصية يحدث نتيجة دخول سائل داخلي في الخصية فيسبب مضايقات وتورم معيب. فمرضوض الخصي إذن هو الذي يترك لفكره العنان في الأمور التي تحرك الشهوة، وبذلك يحمل في قلبه حملاً دنيئًا لا تستطيع نفسه أن تلقيه عنها وهو يفتقر في نفس الوقت إلى القوة ليرتفع بنفسه إلى التدرب العلني على الأعمال الصالحة إذ هو يرزح تحت ثقل أعماله الفاضحة الخفية.
إذن فليمتنع كل من به إحدى هذه العيوب التي سبق ذكرها عن تقديم خبز الرب، لأنه لا يستطيع إنسان أن يكفر عن ذنوب الآخرين مادامت نقائصه الشخصية تملك عليه[269]].
1. الكهنة وحالات الوفاة [1-6].
2. الكهنة والزواج [7-8].
3. سقوط إلنة كاهن [9].
4. شرائع خاصة برئيس الكهنة [10-15].
5. الكهنة والعيوب الخلقية [16-24].
1. الكهنة وحالات الوفاة:
يليق بالكاهن وقد قبل الأبوة في المسيح يسوع أن يرتفع فوق العواطف البشرية الخاصة، فيرى في الكل أولاده وإخوته وأحباءه بلا تمييز، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الكاهن بما أنه وكيل الله، فيلزمه أن يهتم بسائر البشر، لكونه أبًا للعالم كله[263]]. خلال هذه الأبوة العامة طالبته حتى شريعة العهد القديم ألا يحزن لموت أحد أقربائه ويتنجس "لموت في قومه" [1]، وقد استثنى من ذلك الأب والأم والإبن والإبنة والأخ والأخت غير المتزوجة [2-3].
هذه الشريعة قدمها رب المجد بفكر إنجيلي حينما قال: "دع الموتى يدفنون موتاهم" (مت 8: 22، لو 9: 60)، إذ يليق بالخادم ألا يرتبك حتى بهذه الواجبات العائلية من أجل خدمته للجماعة كلها. وكما يقول العلامة ترتليان: [إنه يكرس نفسه لله... أظن أنه يليق بالنذير ومن نال وظيفة الكهنوت أن يُلهم بالكرازة بملكوت الله[264]...].
حسب الشريعة الموسوية الكاهن لا يلمس ميتًا من أقربائه عدا أقرب الذين ذكرناهم، وحتى في حزنه على هؤلاء يليق به ألا يمارس العادات الوثنية الممنوعة حتى بالنسبة للشعب مثل حلق شعر الرأس فيصير أقرع، وحلق عوارض اللحية، وتجريح الجسد. إن كانت هذه الأمور لا تليق بالشعب فكم بالأكثر بالنسبة للكاهن الذي يقرب وقائد الرب [6] ويخدم الأقداس!
2. الكهنة والزواج:
حسب الشريعة الموسوية لا يجوز للكاهن أن يتزوج من زانية حتى وإن تابت ولا من مدنسة أو مطلقة... حتى يكون هو وزوجته بلا عيب في عيني الله والناس، بكونهما قدوة صالحة للشعب. أما رئيس الكهنة فلا يجوز له حتى الزواج بأرملة بل يتزوج عذراء، لأنه يُشير إلى السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم الذي اقتنى الكنيسة عذراء له عفيفة (2 كو 11: 2).
3. سقوط إبنة الكاهن:
"وإذا تدنست إبنة كاهن بالزنى فقد دنست أباها، بالنار تُحرق" [9].
إذ يقبل الكاهن نعمًا إلهية كثيرة يلزمه أن يكون هو وزوجته وأولاده بلا عيب، كل خطأ يرتكبه أحدهم يُعاقب بحكم أقسى مما يسقط تحته الشخص العادي. وكما يقول القديس كيرلس الإسكندري: [في حالة عائلة الكاهن تزداد العقوبة، لأن كل من أعطى كثيرًا يُطلب منه الكثير" (لو 12: 48)[265]].
4. شرائع خاصة برئيس الكهنة:
رئيس الكهنة أو الكاهن الأعظم كما يدعوه هنا [10]، إذ يرمز للسيد المسيح رئيس كهنتنا الأعظم خضع لشرائع خاصة به، منها:
أولاً: "الذي صب على رأسه دهن المسحة وملئت يده ليلبس الثياب لا يكشف رأسه ولا يشق ثيابه" [10]. لا يجوز له أن يكشف رأسه التي مسحت بدهن المسحة، فإن الرأس الممسوحة تُشير إلى السيد المسيح (راجع تفسير لا 2)، وكأنه إذ قبلنا المسيح يسوع فينا نخفيه في أعماقنا، قائلين: "أمسكته ولم أرخِه حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بيّ" (نش 4: 12)، إنما هي الجنة التي حملت في داخلها مسيحها شجرة الحياة، والينبوع الذي يمتلىء بمياه الحياة والينبوع الذي لا ينضب لأن رب المجد في داخله!
ليكن عريسنا في داخلنا كما في جنة مغلقة وعين مقفلة وينبوع مختوم... نفرح به ونتحد معه ونشاركه أمجاده الداخلية!
أما عدم شق الثياب، فلأن الثوب يُشير إلى الكنيسة التي يلتحف بها السيد المسيح. لتبق كنيسة واحدة بلا انشقاق، فإن عريسها واحد!
ثانيًا: "ولا يأتي إلى نفس ميتة ولا يتنجس لأبيه أو أمه" [11]. يقصد بذلك أنه لا يمس ميتًا حتى وإن كان أباه أو أمه... بكونه رمزًا للسيد المسيح فإنه كواهب حياة لا يشترك مع الموت، إن مس ميتًا لا يحتمل الموت لمسته بل يهرب!...
هكذا إذ حمل الرسول بولس في داخله السيد المسيح الذي لا شركة له مع الموت أو الهاوية، بجسارة قال: "أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هاوية؟! أما شوكة الموت فهي الخطية، وقوة الخطية هي الناموس، ولكن شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1 كو 15: 55-56).
ثالثًا: "ولا يخرج من المقدس لئلا يُدنس مقدس إلهه، لأن إكليل دهن مسحة إلهه عليه" [12]. يعني بهذا إنه متى كان يؤدي خدمته في بيت الله لا يجوز أن يخرج من خيمة الإجتماع ولا يتوقف عن العمل أيًا كان السبب حتى إن مات له أقرب المقربين، فإن تركه للخدمة يُحسب إمتهانًا لهذا العمل القدسي واحتقارًا للمجد الذي زينته به المسحة على رأسه.
يعلق القديس جيروم على هذه الشريعة بقوله: [بالتأكيد إذ نؤمن بالمسيح نحمله فينا، وبسبب زيت المسحة التي تقبلناها يلزمنا ألا نفارق الهيكل، أي لا نترك عملنا المسيحي، ولا نخرج خارجًا فنرتبك بأعمال الأمم غير المؤمنين إنما نبقى في الداخل على الدوام كخدام مطيعين لإرادة الرب[266]].
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم[267] في هذه الشريعة صورة حية لقلب المؤمن الذي يصير مقدسًا لله ومسكنًا له (رو 6: 16)، فلا تمارس فيه أعمال بشرية بل ما هو إلهي. لذلك كل كلمة تخرج من فمه تكون خارجة من عند الله، فلا تخرج منه كلمة دنسة ولا يبتهج بالمزاح وكثرة الضحك. بمعنى آخر إذ نتبرر بربنا يسوع المسيح تصير مسكنًا لرئيس الكهنة الذي لا يفارقنا، لأننا مقدسه، وتكون تصرفاتنا إنما هي تصرفاته فينا وبنا.
بنفس المعنى يقول الأب نسطور: [هذا يعني إنه لا يخرج (السيد المسيح) من قلبه، إذ وعد أن يسكن فيه إلى الأبد، قائلاً: "إنيّ أسكن فيهم وأسير بينهم" (2 كو 6: 16)[268].
رابعًا: "هذا يأخذ إمرأة عذراء" [13]. يشترط أن تكون زوجته عذراء من قومه [14]. وقد استنتج بعض المفسرين أن رئيس الكهنة كان يلتزم أن يكون بعل إمرأة واحدة، يأخذها عذراء. هذه الإمرأة هي بكر، وكما يقول الرسول "كنيسة أبكار مكتوبين في السموات" (عب 12: 13).
إنها من قومه وليست أجنبية، إذ صرنا في مياه المعمودية جسد المسيح، لسنا أجنبين عنه، بل أعضاء جسده، ووهب لنا روحه القدوس ساكنًا فينا!
5. الكهنة والعيوب الخلقية (الجسدية):
إشترطت الشريعة في الكاهن الذي يمارس الأعمال الكهنوتية كتقديم الذبيحة والبخور... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). ألا يكون به عيب، فلا يكون أعمى أو أعرج ولا أفطس ولا زوائدي ولا أحدب ولا أكشم ولا من في عينه بياض ولا أجرب ولا أكلف ولا مرضوض الخصي [18-19]. لذلك عندما يبلغ أبناء الكهنة السن القانوني لاستلام العمل الكهنوتي يفحصهم الشيوخ أعضاء مجمع السنهدريم ويفرز الذين بلا عيب للعمل الكهنوتي الكامل أما من به عيب فيقوم ببعض أعمال كهنوتية بسيطة مثل إيقاد النار... إلخ.
في العهد الجديد إشترط بولس الرسول في الأسقف أن يكون بلا عيب (1 تي 3: 2)، وأن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج (1 تي 3: 7). وقد رأى البابا غريعوريوس (الكبير) في الشريعة التي بين أيدينا فهمًا رمزيًا لشروط الكاهن، إذ يجب ألا يقبل من كان أعمى أو أعرج أو أفطس... روحيًا، وفيما يلي مقتطفات من كلماته التي وردت في حديثه عن "الرعاية":
[الأعمى هو الذي لا يعرف ضياء التأمل السمائي، فالذي أدركته ظلمة العالم الحاضر لا يستطيع أن يدرك النور الآتي لأنه لا يشتاق إليه. لذلك فهو لا يعرف أن يخطو أو يعرف إلى أين يمضي، ومن ثم قالت حنه النبية: "لأجل أتقيائه يحرس والأشرار في الظلام يصمتون" (1 صم 2: 9).
الأعرج هو الذي يعرف حقًا الطريق لكنه لا يستطيع أن يسير فيه بثبات بسبب نفسه العليلة، ولأنه لا يستطيع أن يرتفع بعاداته القبيحة إلى مستوى الفضيلة، فإنه لا يملك القوة ليسلك تبعًا لإرادته. لذلك قال القديس بولس الرسول: "قوِّموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة واصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحرى يُشفي" (عب 12: 12-13).
الأفطس هو الذي يعجز عن التمييز، فنحن نميز بحاسة الشم الروائح الذكية من العفنة. إن هذه الحاسة تُشير حقًا إلى حاسة التمييز التي بها نختار الفضيلة ونرفض الرذيلة. لذلك قيل في مدح الكنيسة العروس: "أنفك كبرج لبنان" (نش 7: 4). فالكنيسة المقدسة تدرك تمامًا بالتمييز التجارب التي تُثار عليها بأسباب متنوعة، وتعرف مقدمًا - من فوق برجها - معارك الشر المزمعة أن تحدث.
الزوائدي... بعض الناس ينشغلون دائمًا بأسئلة فضولية أكثر من اللازم، وهم لا يعترفون أنهم أغبياء، ولكنهم يفرطون في الثقة بنفوسهم، لذلك أضاف الكتاب قائلاً: "ولا زوائدي". ومن الواضح أن الأنف الكبير المنحني يعبر عن إفراط في التمييز، وهذا الإفراط يشوه كمال هذه الحاسة وجمالها.
الرجل الذي فيه كسر رجل وكسر يد هو الذي لا يستطيع مطلقًا أن يسير في طريق الله وقد تجرد تمامًا من نصيب الأعمال الصالحة. في هذا يختلف عن الأعرج الذي يمكنه - ولو بصعوبة - الإشتراك في الأعمال الصالحة، أما المكسور فقد تجرد منها تمامًا.
الأحدب هو الذي يرزح تحت ثقل الهموم العالمية فلا يمكنه أن يرفع عينيه إلى ما هو فوق بل يُثبتها على موطئ الأقدام حيث أدنى الأشياء. وهو إن سمع أخبارًا سارة عن مسكن الآب السماوي فإنه - تحت ثقل عاداته الشريرة - لا يستطيع أن يرفع محيا قلبه ولا يستطيع حتى أن يرتفع بفكره الذي ربطته الهموم العالمية إلى الأرض. هذا الإنسان يقول عنه المرتل داود: "لويت إنحنيت إلى الغاية" (مز 38: 6). ويقول الإله المتجسد عن هؤلاء رافضًا آثامهم: "والذي سقط بين الشوك هم الذين يسمعون ثم يذهبون فيختنقون من هموم الحياة وغناها ولذاتها ولا ينضجون ثمرًا" (لو 8: 14).
أما الأكشم أو من على عينيه غشاوة فهو الذي بنظراته الطبيعية يضيئ بمعرفة الحق لكن عينيه اظلمتا بالأعمال الجسدية، فالعين التي عليها غشاوة تكون حدقتها سليمة لكن الجفون تضعف وتنتفخ بسبب الإفرازات وتذبل بسبب سيل الدموع فتضعف حدقة العين. إن البعض تضعف بصريتهم بسبب الحياة الجسدية، هؤلاء كان لهم قدرة تمييز الخير لكن بصيرتهم اظلمت بسبب اعتيادهم فعل الإثم. الذي على عينيه غشاوة هو الذي كان له بالفطرة فطنة الحواس لكنه شوهها بحياته الفاسدة. لمثل هؤلاء يقول الملاك: "كحل عينيك بكحل لكي تبصر" (رؤ 3: 18). إن كحلنا عيوننا بكحل لنبصر فإننا نقوى عيون أفهامنا بأدوية الأعمال الصالحة لتبصر بريق النور الحقيقي.
أما الذي في عينيه بياض فهو الذي حرم من معاينة النور الحقيقي بسبب عماه مدفوعًا بادعاء الحكمة والصلاح. إن حدقة العين تبصر إن كانت سوداء لكن إن كان بها بياض فهي لا تبصر شيئًا، فمن الواضح أنه حينما يدرك الإنسان أنه أحمق وأثيم فإنه يفهم بقوى عقله مدى وهج الضياء الداخلي، لكنه إذ يعزي إلى نفسه إشراق الحكمة والصلاح فإنه يحجز عنها ضياء المعرفة الفائق، أما بالنسبة لكبرياء مجده الذاتي فإنه يعبث إذ يحاول إدراك بريق النور الإلهي فقد قيل عن البعض: "بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء" (رو 1: 22).
أما الإنسان الأجرب فهو الذي يسوده دائمًا بطر الجسد. ففي حالة الجرب تنتثر الحرارة الداخلية على الجلد، وهذه الحالة تمثل الدعارة تمامًا. وهكذا عندما يُترجم إغراء القلب بالأفعال فإننا نستطيع أن نقول أن الحرارة الداخلية تنتثر كما ينتثر الجرب على الجلد، أما الأذى الظاهر الذي يلحق بالجسد فإنه يطابق هذه الحقيقة. إنه كما أن الشهوة إذا لم تخضع في الفكر فإنها تسود بالفعل، لذلك كان بولس مهتمًا بتطهيرها كما لو كانت جربًا على الجلد فقال: "لم تصبكم تجربة إلاَّ بشرية" (1 كو 10: 13). وكأنه يُريد أن يوضح أنه كبشر لابد أن نقاسي من تجارب الفكر، ولكن إن تغلبت علينا في وسط حربنا معها واستقرت في قلوبنا فإن هذا يكون من الشيطان.
أما الأكلف فقد أتلف الطمع عقله، فإن لم يضبط هذا الطمع في الأمور الصغيرة فإنه سيسود على حياته كلها. إن الكلف يغزو الجسد لكنه لا يسبب آلامًا، وينتشرعلى المريض دون أن يُضايقه، لكنه يشوه جمال الأعضاء، وهكذا الطمع أيضًا إذ يملأ عقل ضحيته بالسرور إلاَّ أنه يُنجسه. وإذ يضع أمام الفكر أشياء ليقتنيها فإنه يثيره بالبغضة والعداوة. أما أنه لا يسبب آلامًا فهذا لأنه يعد النفس العليلة بأشياء كثيرة وفيرة ثمنًا للخطية. أما أن جمال الأعضاء يتشوه فهذا لأن الجشع يشوه جمال الفضيلة، أي أن الجسد كله يفسد حقًا إذا ملأت الرذائل نفس الإنسان، لذلك يقول القديس بولس بحق: "لأن محبة المال أصل لكل الشرور" (1 تى 6: 10).
أما مرضوض الخصي، مع أنه لا يفعل النجاسة إلاَّ أنه يرزح تحت نير التفكير الدائم فيها بإفراط، ومع أنه لم يتدنس أبدًا بالفعل إلاَّ أن قلبه افتتن بلهو الدعارة دون أي وخز للضمير. إن مرض إرتضاض الخصية يحدث نتيجة دخول سائل داخلي في الخصية فيسبب مضايقات وتورم معيب. فمرضوض الخصي إذن هو الذي يترك لفكره العنان في الأمور التي تحرك الشهوة، وبذلك يحمل في قلبه حملاً دنيئًا لا تستطيع نفسه أن تلقيه عنها وهو يفتقر في نفس الوقت إلى القوة ليرتفع بنفسه إلى التدرب العلني على الأعمال الصالحة إذ هو يرزح تحت ثقل أعماله الفاضحة الخفية.
إذن فليمتنع كل من به إحدى هذه العيوب التي سبق ذكرها عن تقديم خبز الرب، لأنه لا يستطيع إنسان أن يكفر عن ذنوب الآخرين مادامت نقائصه الشخصية تملك عليه[269]].
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى