اللاويين 6 - تفسير سفر اللاويين + ذبيحة الإثم وشرائع الذبائح والتقدمات
الخميس نوفمبر 18, 2010 3:46 pm
اللاويين 6 - تفسير سفر اللاويين
ذبيحة الإثم
وشرائع الذبائح والتقدمات
في هذا الأصحاح يقدم لنا الوحي الإلهي النوع الثاني من ذبيحة الإثم، وهي الذبيحة التي معها يلتزم مقدمها بتقديم تعويض لإخوته الذين سبب لهم ضررًا ماديًا [1-7]. كما يعرض على الكهنة بعض جوانب طقوس الذبائح والتقدمات التي تهمهم أكثر مما تشغل الشعب، إذ سبق في الأصحاحات وتحدث عنها بما يناسب مقدموها.
1. النوع الثاني لذبيحة الإثم [1-7].
2. شريعة المحرقة [8-13].
3. شريعة القربان [14-23].
4. شريعة ذبيحة الخطية [24-30].
1. النوع الثاني لذبيحة الإثم:
بعد أن حدثنا عن ذبيحة الإثم التي تُقدم عمن خان مقدسات الرب، عاد ليُحدثنا عن تلك التي تخص من جحد صاحبه في أمر وديعة أو أمانة (شركة) أو أنكر شيئًا وجده فالتقطه... بهذا يسلب أخاه أو يغتصب حقه.
يقصد بالوديعة ما يودعه إنسان لدى آخر إلى حين كأمانة يجب ردها، أما الأمانة أو خيانة شركة فغالبًا ما تشمل معنى أوسع إذ يعني ما التزم به الإنسان في تدبير شئون آخر كالوصي الذي يدبر أمور قاصر أو مريض أو محجور عليه، إذ يليق بنا ونحن في مركز الأوصياء أن نتوخى الأمانة الكاملة. أما اللقطة فتعني أن يجد إنسان شيئًا ملقيًا فيلتقطه، إذ لا يجوز له أن يخفيه أو ينكره بل يسعى نحو رده لصاحبه.
يعلق العلامة أوريجانوس على إرتكاب مثل هذه الخيانة كأمر غير لائق أن يرد في ذهن المؤمن، إذ يقول: [ليعلموا أن من "خان خيانة بالرب وجحد صاحبه وديعة أو أمانة أو مسلوبًا..." [2]، يسقط تحت دينونة عن خطية كبرى. ليحفظ الله كنيسته! فإنه لا أظن أن أحدًا من جمهور القديسين هذا يسلك هكذا ببؤس حتى ينكر وديعة قريبه أو يغشه في أمانة أو يسلبه خيرًا ليس له، أو يخفي أشياءً مسروقة من آخرين، وإن سُئل عنها يقسم مخالفًا ضميره. كما قلت إن هذا التفكير بعيد عن أحد المؤمنين. فإنني بثقة أقول: "وأما أنتم فلم تتعلموا المسيح هكذا" ولا هكذا "عُلمتم فيّه" (أف 4: 20-21). هذا وأن الناموس ذاته لا يقدم وصايا للقديسين والمؤمنين... "إن الناموس لم يوضع للبار بل للأثمة والمتمردين، للفجار والخطاة، للدنسين والمستبيحين" (1 تي 1: 9-10) ولأمثالهم. مادام الرسول يقول إن الناموس قد وضع لمثل هؤلاء، فليحفظ الله كنيسته من أن تُداس بخطايا كهذه، ولتكن كنيسته متعلمة ومقدسة بالروح[86]].
والآن إن كانت الوصية بمعناها الحرفي لا يجب حتى التفكير فيها، إذ يليق بمؤمن أن يخون صاحبه في أمر وديعة أو أمانة أو لقطة يجدها، فماذا تعني هذه الأمور في المفهوم الروحي؟
أولاً: أول وديعة إستلمها الإنسان هي روحه التي على صورة الله ومثاله، إستلمها من الله ليسلمها كما هي بلا تشويه. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يلزمك أن ترد هذه الوديعة سليمة وكاملة على ذات الحال الذي أخذتها عليه. فإن كنت رحيمًا كما أن أباكم هو رحوم (لو 6: 36) فإن صورة الله تكون في داخلك... إن كنت كاملاً كما أن أباكم في السموات كامل (مت 5: 48) فإن وديعة صورة الله قائمة في داخلك، وهكذا في كل الأمور الأخرى، إن كنت نقيًا وبارًا وقديسًا ونقي القلب الأمور التي في الله بطبيعته تتمثل أنت بها، بهذا تكون وديعة الصورة المقدسة سليمة وصحيحة. لكن إن كان سلوكك على خلاف هذا فكنت قاسيًا عوض أن تكون رحيمًا، شريرًا عوض التقوى، عنيفًا عوض اللطف، زارعًا للإنقسام عوض غرس السلام، سارقا عوض العطاء بسخاء، فإنك بهذا تكون قد رفضت صورة الله لتأخذ صورة إبليس، تجحد الوديعة الصالحة التي وهبك الله إياها كأمانة. أليست وصية الرسول لتلميذه المختار تيموثاوس: "يا تيموثاوس إحفظ الوديعة" (1 تي 6: 20) [87]].
يُطالبك السيد المسيح برد الوديعة بقوله: "إعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مت 22: 23). وكما يقول القديس أغسطينوس: [كما يطلب قيصر صورته على العمله هكذا يطلب الله صورته فينا[88]].
ثانيًا: الوديعة التي تسلمناها من الكنيسة هي التقليد الكنسي الذي في جوهره هو الإيمان الحيّ بالثالوث القدوس مترجمًا عمليًا خلال العبادة والسلوك في المسيح يسوع. هذه الوديعة يلزم أن نسلمها بأمانة للجيل التالي لا خلال الكتابة أو الوعظ فحسب وإنما خلال كل حياتنا التعبدية وسلوكنا في المنزل والعمل والشارع... نقدمه تقليدًا حيًا بلا انحراف. يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يكفينا للبرهنة على عبادتنا ذلك التقليد المنحدر إلينا من الآباء، بكونه الميراث الذي تناقلناه بالتتابع منذ الرسل خلال القديسين الذين تبعوهم[89]]. تضم هذه الوديعة المقدسة التي تسلمناها أي التقليد أو التسليم إيماننا بالخلاص وعمل الثالوث القدوس فينا والتمتع بالكتاب المقدس بعهديه وممارستنا للعبادة وسلوكنا بالروح... إلخ.
ثالثًا: يرى العلامة أوريجانوس أن عدم جحد الأمانة يعني الحفاظ على حياة الشركة مع الله في إبنه يسوع المسيح، وشركتنا مع القديسين والسمائيين في الرب بلا إنحراف، إذ يقول: [لنرى الآن ما يجب أن نفهمه من كلمة "أمانة (شركة)". هل تظن أنه توجد ضرورة للتحذير من عدم غش الشريك في أمور مالية أو غير مالية؟ يا لها من تعاسة مُرّة أن يمارس إنسان غشًا كهذا! من أجل الضعف لم يغفل الرسول عن تقديم هذا التحذير: "أن لا يتطاول أحد ويطمع على أخيه في هذا الأمر لأن الرب منتقم لهذه كلها" (1 تس 4: 6). الآن لنبحث عن "الشركة" روحياً. إسمع ما يعبر عنه الرسول بكلماته: "إن كانت تسلية ما للمحبة، إن كانت شركة ما في الروح، إن كانت أحشاء ورأفة، فتمموا فرحي" (في 2: 1-2). أترى كيف فهم الرسول بولس قانون "الشركة"؟ إستمع أيضًا إلى يوحنا إذ يعلن بنفس الروح: "وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع إبنه يسوع المسيح" (1 يو 1: 3). ويقول بطرس نفس الشيء: "تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية" (2 بط 1: 4)، بمعنى أن تكون لنا معه شركة. يقول الرسول بولس: "أي شركة للنور مع الظلمة؟!" (2 كو 6: 14)، فإن كان لا يمكن أن توجد شركة بين النور والظلمة وقد صارت لنا شركة مع الآب والإبن والروح القدس لذا يلزمنا أن نسهر لئلا نجحد هذه الشركة الإلهية المقدسة، فإننا إن تممنا "أعمال الظلمة" (رو 13: 12)، نكون بهذا بالتأكيد قد جحدنا الشركة مع النور[90]].
أمانتنا في الشركة أو في الأمانة التي عهد بها الله إلينا تلزمنا أن نسلك في النور ونرفض أعمال الظلمة، بهذا ننعم بالشركة وذلك بفعل الروح القدس واهب الشركة مع الله في ربنا يسوع المسيح. هذه الشركة تربطنا بشركة مع القديسين كأبناء نور معنا وأيضًا مع السمائيين، إذ يقول العلامة أوريجانوس: [إن كنا بالفعل في شركة مع الآب والإبن، كيف لا نكون كذلك في شركة مع القديسين، ليس فقط الذين على الأرض، وإنما أيضًا مع الذين في السماء؟! لأن المسيح بدمه صالح السمائيين مع الأرضيين (كو 1: 20) ليوحِّد السماء مع الأرض. أظهر هذه الشركة بوضوح عندما قال أنه يوجد فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب (لو 1: 15)، وأيضًا عندما قال: "في القيامة يكونون كملائكة الله في السماء" (مت 22: 30)، واعدًا الناس بصراحة بملكوت السموات (مت 13: 11). هذه الشركة نجحدها عندما نفترق عن السمائيين بأعمالنا الشريرة ومشاعرنا الردية[91]].
رابعًا: أما بخصوص السرقة وسلب الآخرين، فكما يقول العلامة أوريجانوس: [يوجد لصوص أشرار كما يوجد لصوص صالحون. الصالحون هم الذين قال عنهم المخلص إنهم يغتصبون ملكوت السموات (مت 11: 12). لكن يوجد لصوص أشرار، يتحدث عنهم النبي: "سلب البائس في بيوتكم" (إش 3: 14)، كما يقدم الرسول تصريحًا شديد اللهجة: "لا تضلوا: لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور ولا سارقون... يرثون ملكوت الله" (1 كو 6: 9، 10)[92]. أما السرقة بالمفهوم الروحي فهي أن يختفي الإنسان بين القديسين فيكون سارقًا لفكرهم الروحي ومعرفتهم الإلهية دون أن تتجدد حياته، فيكون كمن سلب خمرًا جديدة ووضعها في زقاق قديم، فالزقاق ينشق والخمر تنصب (مت 9: 17).
خامسًا: بخصوص الأمور المفقودة، من يجدها ويخفيها دون أن يردها لصاحبها يُحسب مغتصبًا ما لا حق فيه. ولعل هذا يُشير إلى جماعة الهراطقة الذين يغتصبون نفوس البسطاء ويسلبون الكنيسة أولادها، أو يسلبون الله نفسه وأولاده. هؤلاء إذ يرجعون عن ضلالهم وبدعهم يلزمهم أيضًا أن يردوا النفوس التي انحرفت بسببهم وتركت الإيمان الحق.
الآن إذ نعود إلى الذبيحة التي يُقدمها من ارتكب إحدى الخطايا السابقة نلاحظ الآتي:
أولاً: حسب الرب هذا الجحود خيانة له هو شخصيًا، فكل ظلم أو خيانة أو جحود أو سرقة نمارسها ضد إخوتنا يحسبها الله موجهة ضده هو شخصيًا بكونه محب البشر المهتم بخلاصهم، وأيضًا كل حب ولطف وترفق نقدمه لهم يحسبه مقدمًا له شخصيًا. ففي اليوم الأخير يقول: "بما أنكم فعلتم بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبيّ قد فعلتم" (مت 25: 40). لذلك يقول القديس جيروم: [كل مرة تبسط يدك بالعطاء أذكر المسيح[93]].
ثانيًا: يطلب من المخطئ أن يرد ما قد سلبه أو اغتصبه أو أنكره، فإن كانت الذبيحة قادرة على غفران الخطية لكنها لا تعمل في قلب متمسك بالشر. رد المغتصب لصاحبه هو إعلان صادق عن التوبة وقبولنا لعمل الله الخلاصي عمليًا.
هذا ويلاحظ أن الشريعة طلبت من موسى النبي أن يقيِّم الخسارة أو الضرر، لكن ليس بشاقل القدس (5: 15) كما في الخطية الموجهة ضد المقدسات...
ثالثًا: يطلب هنا أيضًا أن يقدم المخطئ الخُمس إضافة إلى ما قد سلبه. هذا الخُمس يمثل تعويضًا أدبيًا وماديًا عما لحق بالمضرور من خسائر، ومن جانب آخر يُحسب هذا التعويض تأديبًا للمخطئ حتى لا يكرر ما ارتكبه أو يستهين بالخطية. ومن جانب ثالث فإن هذا الخُمس الذي يقدمه للمضرور يُحسب كأنه مقدم لله... فإن كانت حواسه قد تدنست بالخطية يلزم تسليمها للرب كما في النوع الأول من هذه الذبيحة (أصحاح 5).
رابعًا: تقديم ذبيحة لاثمة كبشًا صحيحًا من الغنم... إذ لا تطهير من الإثم بدون سفك دم حمل الله، حتى وإن رد الإنسان ما اغتصبه مضاعفًا! ويرى العلامة أوريجانوس أن مرتكب الإثم يشتري الكبش أو الحمل من البائعين وهم الأنبياء والرسل الذين قدموا كلمة النبوة والكرازة لنقتني بالإيمان دم السيد المسيح غافر الخطية. إنهم يحثوننا على التوبة عن خطايانا والرجوع إلى الله بقبولنا الإيمان بمخلص العالم.
2. شريعة المحرقة:
في الأصحاحات السابقة كانت كلمات الرب لموسى: "كلم بني إسرائيل وقل لهم" (1: 2، 4: 1)، أما هنا فيقول: "أوصِ هرون وبنيه قائلاً" [8، 24]. هذا ما دفع بعض الدارسين إلى الإعتقاد بأن هذا الجزء وما يليه في الأصحاحين 6، 7 موجه للكهنة لا للشعب.
الآن إذ يقدم للكهنة شريعة ذبيحة المحرقة أبرز لهم بعض النقاط الهامة، وهي:
أولاً: توضع المحرقة المسائية حوالي الساعة السادسة مساءً لكي تظل على نار المذبح حتى الصباح، حيث كان يلزم أن تبقى النار مشتعلة بغير إنقطاع، إذ يقول: "المحرقة تكون على الموقدة (موضع إيقاد النار) فوق المذبح كل الليالي حتى الصباح، ونار المذبح تتقد عليه" [9]. ما هذه المحرقة التي توضع على الموقد الناري الذي للمذبح طول الليل حتى الصباح إلاَّ حياتنا التي نقدمها بنار الروح القدس محرقة حب لله طول ليل هذا العالم دون أن يفتر قلوبنا أو تتراخى روحنا إلى أن يشرق صباح الأبدية التي بلا ظلمة ونلتقي مع شمس البر وجهًا لوجه؟!
يحدثنا العلامة أوريجانوس عن هذه الذبيحة التي نقدمها على النار بلا انقطاع بكوننا كهنة الله - بالمفهوم الروحي العام الذي نناله خلال سر المعمودية - فيقول: [يجب أن تكون لك نار على المذبح بلا توقف. إن أردت أن تكون كاهنًا للرب كما هو مكتوب: "أما أنتم (كلكم) فتدعون كهنة الرب" (إش 61: 6)، وأيضًا كتب عنكم أنكم: "جنس مختار كهنوت ملوكي أمة مقدسة" (1 بط 2: 9)، وإن أردت أن تمارس كهنوتك فلا تبتعد قط عن نار مذبحك. هذه هي وصية الرب في الإنجيل: "لتكن أحقاؤكم ممنطقة ومصابيحكم موقدة" (لو 12: 35). لتكن نار الإيمان وسراج علمك مضيئًا على الدوام بلا توقف[94]].
ثانيًا: في الصباح عند رفع الرماد المتخلف عن الذبائح يلتزم الكاهن بلبس الثياب الكهنوتية المقدسة من قميص ومنطقة وسروال وقلنسوة (خر 28: 40-42) حتى يدرك الكهنة قدسية هذا العمل. بحسب المظهر هو رفع رماد يتطلب لبس ثياب قديمة، لكن في الفهم الروحي ليس مجرد رفع رماد متخلف إنما هو ممارسة جزء لا يتجزأ من عمل قدسي يمس تقديس الإنسان خلال مصالحته مع الله القدوس.
إن كانت الذبائح الحيوانية يتخلف عنها رماد يحمله الكهنة إلى جانب المذبح بقدسية ومهابة ثم ينقلونه بأنفسهم إلى الخارج، فإن ذبيحة السيد المسيح لم يمسها فساد بل قام السيد من الأموات واهبًا إيانا جسده سرّ حياة، يحملنا من رمادنا إلى الأبدية. السيد المسيح نفسه هو الذبيحة واهبة الحياة لنا نحن التراب والرماد!
ثالثًا: إذ يلتزم الكهنة بحمل الرماد إلى خارج المحلة يخلعون ثياب الخدمة ويلبسون ثيابًا أخرى حتى لا يخرجون بثياب الخدمة إلى الخارج. وكانوا يلقون الرماد في مكان مقدس دعى "مرمى الرماد" (4: 12)، محاط بسور حتى لا يأخذ أحد من الرماد الذي فيه، ولكي لا تذريه الرياح... يا للعجب، حتى آثار الرماد مقدس لا يُمس! إنها صورة لتقديس كل ما يمس الذبيحة الحقيقية كقبر السيد المسيح الذي فيه اضطجع واهب الحياة والذي قيل عنه: "ويكون محله (قبره) مجدًا" (إش 11: 1).
حينما نحمل الذبيحة فينا نصير نحن التراب مقدسين... تتقدس نفوسنا وأرواحنا وأيضًا أجسادنا الترابية! نصير أشبه بقبر السيد المسيح الذي تبارك بحلوله فينا!
رابعًا: يلتزم الكهنة ببقاء نار المذبح متقدة نهارًا وليلاً: "نار دائمة تتقد على المذبح لا تُطفأ" [13]. هذه النار التي جاءت من لدن الله بعد مسح هرون وبنيه (9: 24) إحتفظ بها اليهود بإيقاد الحطب والذبائح عليها، وكانوا يضعونها في ثلاثة مواضع على مذبح المحرقة... ويروي سفر المكابيين الثاني أن اليهود لما سبوا إلى بابل خبأوا النار المقدسة في بئر ليس بها ماء، ولما أرسل ملك فارس نحميا وأصحابه إلى أورشليم أرادوا أن يخرجوا النار من البئر فلم يجدوها بل وجدوا فيها ماءً، فوضعوا الوقود على المذبح ووضعوا عليه الذبائح ثم صبوا ماءً من البئر، ولما ظهرت الشمس محتجبة بالغيم إتقدت نار عظيمة على المذبح، فمجد الجميع الله. ولما علم ملك فارس بذلك تعجب وأمر بأن يُسيج حول البئر واعتبره موضعًا مقدسًا (2 مك 1: 19-36).
3. شريعة القربان:
في الأصحاح الثاني وجه الله حديثه لكل بني إسرائيل خلال موسى بخصوص تقدمة القربان، التي تحدثنا عنها في شيء من التفصيل، أما هنا فيركز على دور الكاهن من جوانب متعددة.
أولاً: يأخذ بقبضته بعض دقيق التقدمة وزيتها وكل اللبان الذي على التقدمة ويوقد على المذبح رائحة سرور تذكارها للرب [15] في دراستنا السابقة لبعض أسفار العهد القديم رأينا أن الذراع واليد يُشيران إلى كلمة الله المتجسد الذي جاء يتمم الخلاص عمليًا كما بيده[95] بينما أصبع الله يُشير إلى روحه القدوس. لعل يد الكاهن وهي تقبض بالدقيق والزيت تُشير إلى السيد المسيح الذي أمسك بطبيعتنا كما بقبضته لنصير فيه تقدمة حب لله، وكما قلنا أن الزيت يُشير إلى الروح القدس الذي به تحقق تجسد الكلمة في الأحشاء البتولي، وهو الروح الذي وهبه إيانا لأجل تقديسنا فنحسب بحق تقدمة سرور لله.
ثانيًا: ما يتبقى من دقيق وزيت يأكله فطيرًا الكهنة في دار خيمة الإجتماع دون إستخدام الخمير... يأكله الذكور دون النساء والأطفال، إذ يُشير إلى تمتعنا بالإتحاد مع السيد المسيح خلال جسده المبذول، فلا ينعم به المدللون (النساء) ولا غير الناضجين روحيًا (الأطفال)، إنما يتمتع به الروحيون السالكون كرجال الله في نضوج وجدية.
أما قوله: "إنها قدس أقداس... كل من مسها يتقدس" [17-18]. فيُشير إلى قدسية هذه التقدمة، فلا يأكلها غير الكهنة، يأكلونها داخل دار الخيمة وهم مستعدون روحيًا وجسديًا... ولعله يقصد أن كل من يمسها يصير قدسًا للرب يتكرّس لخدمته الإلهية.
يعلق العلامة أوريجانوس على هذه العبارة: [المسيح الذبيح (1 كو 5: 7) هو الذبيحة الوحيدة الكاملة التي قدمت كل هذه الذبائح كصورة لها، فمن يلمس جسد المسيح يتقدس إن كان دنسًا، يُشفى من آلامه، وذلك كنازفة الدم التي أدركت أن المسيح هو جسد الذبائح، إنه الجسد المقدس لذلك إقتربت إليه ولمسته[96]].
لقد أدركت الكنيسة فاعلية هذه الذبيحة وقدسيتها، لذلك دعى القديس يوحنا ذهبي الفم سرّ الأفخارستيا: [سرًا إلهيًا[97]]، [مائدة إلهية مهوبة[98]]، [سرًا مخوفًا[99]]، [غير منطوق به[100]]، [ذبيحة مقدسة مرهبة[101]].
أما عن تناوله داخل الدار فيُشير إلى تمتعنا بالحياة السماوية خلال هذه الذبيحة. وقد عبرّ القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذا بقوة بقوله: [كإن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد، ويطير مع السيرافيم ويتغنى بالتسبحة المقدسة].
والعجيب أن الكاهن وهو يتمتع بنصيب من هذه التقدمة، من دقيقها وزيتها، إذا به يلتزم من جانبه أن يقدم هو أيضًا تقدمة للرب صباحية وتقدمة مسائية. يذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس ومعظم علماء اليهود أن رئيس الكهنة كان يقدم هذه التقدمة يوميًا بالنسبة لخطورة مركزه أما الكاهن العادي فكان يقدمها مرة واحدة يوم مستحه فقط[102].
ولعل الحكمة من تقديم الكهنة للتقدمة أن يدركوا رسالتهم أنهم وإن كانوا باسم الرب يتمتعون بأنصبة كثيرة من الشعب لكنهم كجزء لا يتجزأ من الشعب هم أيضًا ملزمون بتقديم تقدمات. ومن جانب آخر الكاهن وهو يأخذ ينبغي أن يعطي... يعطي قلبه لله ولأولاده الروحيين كما يعطي أيضًا جهده وما تملكه يداه، وكما قال الرسول بولس عن نفسه أنه ينفق ويُنفق.
ما هي التقدمة الصباحية التي يلتزم بها الكاهن إلاَّ تقديم ناموس الرب الذي تسلمته كنيسة العهد القديم كما في الصباح عند بدء الحياة الروحية، يقدمه كما على نار الروح القدس الذي ينزع الحرف ويفيح رائحة الروح الذكية. أما تقدمة المساء فهي تقدمة الإنجيل بالسيد المسيح الذي قدم حياته فدية عن البشرية في ملء الزمان، كما في مساء حياتنا على الأرض. هكذا على ذات المذبح نتقبل الناموس روحيًا ملتحمًا بالكرازة بالإنجيل.
وقد أكدت الشريعة أن توقد تقدمة الكاهن أو تحرق بكمالها ولا توكل [23]... إذ يليق به أن يعطي كل حياته محرقة الرب، حتى إن قدم كل حياته للآخرين فهو يقدمها للرب وحده!
4. شريعة ذبيحة الخطية:
أبرز ما في شريعة ذبيحة الخطية نقطتين أساسين:
أولاً: تحسب أنصبة الكهنة منها "قدس أقداس" يأكلها الكهنة في دار الخيمة، من يمس لحمها يتقدس، بمعنى أنه لا يجوز أن يأكل منها إلاَّ من كان مستعدًا، ومن جانب آخر أن من يمسها يُحسب في ملكية الرب نفسه.
ثانيًا: أهم ما أبرز في شريعة هذه الذبيحة هو قدسية الدم، فإن انتثر من دمها على ثوب يُغسل ما انتثر عليه في مكان مقدس، وإناء الخزف الذي تطبخ فيه يُكسر، وإن كان نحاسيًا فيُجلي جيدًا بماء مقدس ويُشطف لأن النحاس لا يمتص شيئًا من الذبيحة.
يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن فاعلية دم السيد المسيح الذبيح، قائلاً: [هذا الدم يجعل صورة ملكنا واضحة فينا، ويجلب علينا جمالاً لا ينطق به، ولا يسمح بانتزاع سمونا، بل يرويه دائمًا وينعشه...
هذا الدم متى أخذناه بحق يطرد الشياطين، ويبعدهم عنا، بينما يدعو إلينا الملائكة. فإذ يظهر دم الرب تهرب الشياطين وتجتمع الملائكة. هذا الدم المسفوك يطهر كل العالم... هذا الدم يطهر الموضع السري وقدس الأقداس... هذا الدم يقدس المذبح الذهبي... هذا الدم يقدس الكهنة... هذا الدم هو خلاص نفوسنا... تغتسل النفس وتتجمل وتلتهب. به يلتهب فهمنا كالنار، وتتلألأ النفس أكثر من الذهب[103]].
ذبيحة الإثم
وشرائع الذبائح والتقدمات
في هذا الأصحاح يقدم لنا الوحي الإلهي النوع الثاني من ذبيحة الإثم، وهي الذبيحة التي معها يلتزم مقدمها بتقديم تعويض لإخوته الذين سبب لهم ضررًا ماديًا [1-7]. كما يعرض على الكهنة بعض جوانب طقوس الذبائح والتقدمات التي تهمهم أكثر مما تشغل الشعب، إذ سبق في الأصحاحات وتحدث عنها بما يناسب مقدموها.
1. النوع الثاني لذبيحة الإثم [1-7].
2. شريعة المحرقة [8-13].
3. شريعة القربان [14-23].
4. شريعة ذبيحة الخطية [24-30].
1. النوع الثاني لذبيحة الإثم:
بعد أن حدثنا عن ذبيحة الإثم التي تُقدم عمن خان مقدسات الرب، عاد ليُحدثنا عن تلك التي تخص من جحد صاحبه في أمر وديعة أو أمانة (شركة) أو أنكر شيئًا وجده فالتقطه... بهذا يسلب أخاه أو يغتصب حقه.
يقصد بالوديعة ما يودعه إنسان لدى آخر إلى حين كأمانة يجب ردها، أما الأمانة أو خيانة شركة فغالبًا ما تشمل معنى أوسع إذ يعني ما التزم به الإنسان في تدبير شئون آخر كالوصي الذي يدبر أمور قاصر أو مريض أو محجور عليه، إذ يليق بنا ونحن في مركز الأوصياء أن نتوخى الأمانة الكاملة. أما اللقطة فتعني أن يجد إنسان شيئًا ملقيًا فيلتقطه، إذ لا يجوز له أن يخفيه أو ينكره بل يسعى نحو رده لصاحبه.
يعلق العلامة أوريجانوس على إرتكاب مثل هذه الخيانة كأمر غير لائق أن يرد في ذهن المؤمن، إذ يقول: [ليعلموا أن من "خان خيانة بالرب وجحد صاحبه وديعة أو أمانة أو مسلوبًا..." [2]، يسقط تحت دينونة عن خطية كبرى. ليحفظ الله كنيسته! فإنه لا أظن أن أحدًا من جمهور القديسين هذا يسلك هكذا ببؤس حتى ينكر وديعة قريبه أو يغشه في أمانة أو يسلبه خيرًا ليس له، أو يخفي أشياءً مسروقة من آخرين، وإن سُئل عنها يقسم مخالفًا ضميره. كما قلت إن هذا التفكير بعيد عن أحد المؤمنين. فإنني بثقة أقول: "وأما أنتم فلم تتعلموا المسيح هكذا" ولا هكذا "عُلمتم فيّه" (أف 4: 20-21). هذا وأن الناموس ذاته لا يقدم وصايا للقديسين والمؤمنين... "إن الناموس لم يوضع للبار بل للأثمة والمتمردين، للفجار والخطاة، للدنسين والمستبيحين" (1 تي 1: 9-10) ولأمثالهم. مادام الرسول يقول إن الناموس قد وضع لمثل هؤلاء، فليحفظ الله كنيسته من أن تُداس بخطايا كهذه، ولتكن كنيسته متعلمة ومقدسة بالروح[86]].
والآن إن كانت الوصية بمعناها الحرفي لا يجب حتى التفكير فيها، إذ يليق بمؤمن أن يخون صاحبه في أمر وديعة أو أمانة أو لقطة يجدها، فماذا تعني هذه الأمور في المفهوم الروحي؟
أولاً: أول وديعة إستلمها الإنسان هي روحه التي على صورة الله ومثاله، إستلمها من الله ليسلمها كما هي بلا تشويه. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يلزمك أن ترد هذه الوديعة سليمة وكاملة على ذات الحال الذي أخذتها عليه. فإن كنت رحيمًا كما أن أباكم هو رحوم (لو 6: 36) فإن صورة الله تكون في داخلك... إن كنت كاملاً كما أن أباكم في السموات كامل (مت 5: 48) فإن وديعة صورة الله قائمة في داخلك، وهكذا في كل الأمور الأخرى، إن كنت نقيًا وبارًا وقديسًا ونقي القلب الأمور التي في الله بطبيعته تتمثل أنت بها، بهذا تكون وديعة الصورة المقدسة سليمة وصحيحة. لكن إن كان سلوكك على خلاف هذا فكنت قاسيًا عوض أن تكون رحيمًا، شريرًا عوض التقوى، عنيفًا عوض اللطف، زارعًا للإنقسام عوض غرس السلام، سارقا عوض العطاء بسخاء، فإنك بهذا تكون قد رفضت صورة الله لتأخذ صورة إبليس، تجحد الوديعة الصالحة التي وهبك الله إياها كأمانة. أليست وصية الرسول لتلميذه المختار تيموثاوس: "يا تيموثاوس إحفظ الوديعة" (1 تي 6: 20) [87]].
يُطالبك السيد المسيح برد الوديعة بقوله: "إعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مت 22: 23). وكما يقول القديس أغسطينوس: [كما يطلب قيصر صورته على العمله هكذا يطلب الله صورته فينا[88]].
ثانيًا: الوديعة التي تسلمناها من الكنيسة هي التقليد الكنسي الذي في جوهره هو الإيمان الحيّ بالثالوث القدوس مترجمًا عمليًا خلال العبادة والسلوك في المسيح يسوع. هذه الوديعة يلزم أن نسلمها بأمانة للجيل التالي لا خلال الكتابة أو الوعظ فحسب وإنما خلال كل حياتنا التعبدية وسلوكنا في المنزل والعمل والشارع... نقدمه تقليدًا حيًا بلا انحراف. يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يكفينا للبرهنة على عبادتنا ذلك التقليد المنحدر إلينا من الآباء، بكونه الميراث الذي تناقلناه بالتتابع منذ الرسل خلال القديسين الذين تبعوهم[89]]. تضم هذه الوديعة المقدسة التي تسلمناها أي التقليد أو التسليم إيماننا بالخلاص وعمل الثالوث القدوس فينا والتمتع بالكتاب المقدس بعهديه وممارستنا للعبادة وسلوكنا بالروح... إلخ.
ثالثًا: يرى العلامة أوريجانوس أن عدم جحد الأمانة يعني الحفاظ على حياة الشركة مع الله في إبنه يسوع المسيح، وشركتنا مع القديسين والسمائيين في الرب بلا إنحراف، إذ يقول: [لنرى الآن ما يجب أن نفهمه من كلمة "أمانة (شركة)". هل تظن أنه توجد ضرورة للتحذير من عدم غش الشريك في أمور مالية أو غير مالية؟ يا لها من تعاسة مُرّة أن يمارس إنسان غشًا كهذا! من أجل الضعف لم يغفل الرسول عن تقديم هذا التحذير: "أن لا يتطاول أحد ويطمع على أخيه في هذا الأمر لأن الرب منتقم لهذه كلها" (1 تس 4: 6). الآن لنبحث عن "الشركة" روحياً. إسمع ما يعبر عنه الرسول بكلماته: "إن كانت تسلية ما للمحبة، إن كانت شركة ما في الروح، إن كانت أحشاء ورأفة، فتمموا فرحي" (في 2: 1-2). أترى كيف فهم الرسول بولس قانون "الشركة"؟ إستمع أيضًا إلى يوحنا إذ يعلن بنفس الروح: "وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع إبنه يسوع المسيح" (1 يو 1: 3). ويقول بطرس نفس الشيء: "تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية" (2 بط 1: 4)، بمعنى أن تكون لنا معه شركة. يقول الرسول بولس: "أي شركة للنور مع الظلمة؟!" (2 كو 6: 14)، فإن كان لا يمكن أن توجد شركة بين النور والظلمة وقد صارت لنا شركة مع الآب والإبن والروح القدس لذا يلزمنا أن نسهر لئلا نجحد هذه الشركة الإلهية المقدسة، فإننا إن تممنا "أعمال الظلمة" (رو 13: 12)، نكون بهذا بالتأكيد قد جحدنا الشركة مع النور[90]].
أمانتنا في الشركة أو في الأمانة التي عهد بها الله إلينا تلزمنا أن نسلك في النور ونرفض أعمال الظلمة، بهذا ننعم بالشركة وذلك بفعل الروح القدس واهب الشركة مع الله في ربنا يسوع المسيح. هذه الشركة تربطنا بشركة مع القديسين كأبناء نور معنا وأيضًا مع السمائيين، إذ يقول العلامة أوريجانوس: [إن كنا بالفعل في شركة مع الآب والإبن، كيف لا نكون كذلك في شركة مع القديسين، ليس فقط الذين على الأرض، وإنما أيضًا مع الذين في السماء؟! لأن المسيح بدمه صالح السمائيين مع الأرضيين (كو 1: 20) ليوحِّد السماء مع الأرض. أظهر هذه الشركة بوضوح عندما قال أنه يوجد فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب (لو 1: 15)، وأيضًا عندما قال: "في القيامة يكونون كملائكة الله في السماء" (مت 22: 30)، واعدًا الناس بصراحة بملكوت السموات (مت 13: 11). هذه الشركة نجحدها عندما نفترق عن السمائيين بأعمالنا الشريرة ومشاعرنا الردية[91]].
رابعًا: أما بخصوص السرقة وسلب الآخرين، فكما يقول العلامة أوريجانوس: [يوجد لصوص أشرار كما يوجد لصوص صالحون. الصالحون هم الذين قال عنهم المخلص إنهم يغتصبون ملكوت السموات (مت 11: 12). لكن يوجد لصوص أشرار، يتحدث عنهم النبي: "سلب البائس في بيوتكم" (إش 3: 14)، كما يقدم الرسول تصريحًا شديد اللهجة: "لا تضلوا: لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور ولا سارقون... يرثون ملكوت الله" (1 كو 6: 9، 10)[92]. أما السرقة بالمفهوم الروحي فهي أن يختفي الإنسان بين القديسين فيكون سارقًا لفكرهم الروحي ومعرفتهم الإلهية دون أن تتجدد حياته، فيكون كمن سلب خمرًا جديدة ووضعها في زقاق قديم، فالزقاق ينشق والخمر تنصب (مت 9: 17).
خامسًا: بخصوص الأمور المفقودة، من يجدها ويخفيها دون أن يردها لصاحبها يُحسب مغتصبًا ما لا حق فيه. ولعل هذا يُشير إلى جماعة الهراطقة الذين يغتصبون نفوس البسطاء ويسلبون الكنيسة أولادها، أو يسلبون الله نفسه وأولاده. هؤلاء إذ يرجعون عن ضلالهم وبدعهم يلزمهم أيضًا أن يردوا النفوس التي انحرفت بسببهم وتركت الإيمان الحق.
الآن إذ نعود إلى الذبيحة التي يُقدمها من ارتكب إحدى الخطايا السابقة نلاحظ الآتي:
أولاً: حسب الرب هذا الجحود خيانة له هو شخصيًا، فكل ظلم أو خيانة أو جحود أو سرقة نمارسها ضد إخوتنا يحسبها الله موجهة ضده هو شخصيًا بكونه محب البشر المهتم بخلاصهم، وأيضًا كل حب ولطف وترفق نقدمه لهم يحسبه مقدمًا له شخصيًا. ففي اليوم الأخير يقول: "بما أنكم فعلتم بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبيّ قد فعلتم" (مت 25: 40). لذلك يقول القديس جيروم: [كل مرة تبسط يدك بالعطاء أذكر المسيح[93]].
ثانيًا: يطلب من المخطئ أن يرد ما قد سلبه أو اغتصبه أو أنكره، فإن كانت الذبيحة قادرة على غفران الخطية لكنها لا تعمل في قلب متمسك بالشر. رد المغتصب لصاحبه هو إعلان صادق عن التوبة وقبولنا لعمل الله الخلاصي عمليًا.
هذا ويلاحظ أن الشريعة طلبت من موسى النبي أن يقيِّم الخسارة أو الضرر، لكن ليس بشاقل القدس (5: 15) كما في الخطية الموجهة ضد المقدسات...
ثالثًا: يطلب هنا أيضًا أن يقدم المخطئ الخُمس إضافة إلى ما قد سلبه. هذا الخُمس يمثل تعويضًا أدبيًا وماديًا عما لحق بالمضرور من خسائر، ومن جانب آخر يُحسب هذا التعويض تأديبًا للمخطئ حتى لا يكرر ما ارتكبه أو يستهين بالخطية. ومن جانب ثالث فإن هذا الخُمس الذي يقدمه للمضرور يُحسب كأنه مقدم لله... فإن كانت حواسه قد تدنست بالخطية يلزم تسليمها للرب كما في النوع الأول من هذه الذبيحة (أصحاح 5).
رابعًا: تقديم ذبيحة لاثمة كبشًا صحيحًا من الغنم... إذ لا تطهير من الإثم بدون سفك دم حمل الله، حتى وإن رد الإنسان ما اغتصبه مضاعفًا! ويرى العلامة أوريجانوس أن مرتكب الإثم يشتري الكبش أو الحمل من البائعين وهم الأنبياء والرسل الذين قدموا كلمة النبوة والكرازة لنقتني بالإيمان دم السيد المسيح غافر الخطية. إنهم يحثوننا على التوبة عن خطايانا والرجوع إلى الله بقبولنا الإيمان بمخلص العالم.
2. شريعة المحرقة:
في الأصحاحات السابقة كانت كلمات الرب لموسى: "كلم بني إسرائيل وقل لهم" (1: 2، 4: 1)، أما هنا فيقول: "أوصِ هرون وبنيه قائلاً" [8، 24]. هذا ما دفع بعض الدارسين إلى الإعتقاد بأن هذا الجزء وما يليه في الأصحاحين 6، 7 موجه للكهنة لا للشعب.
الآن إذ يقدم للكهنة شريعة ذبيحة المحرقة أبرز لهم بعض النقاط الهامة، وهي:
أولاً: توضع المحرقة المسائية حوالي الساعة السادسة مساءً لكي تظل على نار المذبح حتى الصباح، حيث كان يلزم أن تبقى النار مشتعلة بغير إنقطاع، إذ يقول: "المحرقة تكون على الموقدة (موضع إيقاد النار) فوق المذبح كل الليالي حتى الصباح، ونار المذبح تتقد عليه" [9]. ما هذه المحرقة التي توضع على الموقد الناري الذي للمذبح طول الليل حتى الصباح إلاَّ حياتنا التي نقدمها بنار الروح القدس محرقة حب لله طول ليل هذا العالم دون أن يفتر قلوبنا أو تتراخى روحنا إلى أن يشرق صباح الأبدية التي بلا ظلمة ونلتقي مع شمس البر وجهًا لوجه؟!
يحدثنا العلامة أوريجانوس عن هذه الذبيحة التي نقدمها على النار بلا انقطاع بكوننا كهنة الله - بالمفهوم الروحي العام الذي نناله خلال سر المعمودية - فيقول: [يجب أن تكون لك نار على المذبح بلا توقف. إن أردت أن تكون كاهنًا للرب كما هو مكتوب: "أما أنتم (كلكم) فتدعون كهنة الرب" (إش 61: 6)، وأيضًا كتب عنكم أنكم: "جنس مختار كهنوت ملوكي أمة مقدسة" (1 بط 2: 9)، وإن أردت أن تمارس كهنوتك فلا تبتعد قط عن نار مذبحك. هذه هي وصية الرب في الإنجيل: "لتكن أحقاؤكم ممنطقة ومصابيحكم موقدة" (لو 12: 35). لتكن نار الإيمان وسراج علمك مضيئًا على الدوام بلا توقف[94]].
ثانيًا: في الصباح عند رفع الرماد المتخلف عن الذبائح يلتزم الكاهن بلبس الثياب الكهنوتية المقدسة من قميص ومنطقة وسروال وقلنسوة (خر 28: 40-42) حتى يدرك الكهنة قدسية هذا العمل. بحسب المظهر هو رفع رماد يتطلب لبس ثياب قديمة، لكن في الفهم الروحي ليس مجرد رفع رماد متخلف إنما هو ممارسة جزء لا يتجزأ من عمل قدسي يمس تقديس الإنسان خلال مصالحته مع الله القدوس.
إن كانت الذبائح الحيوانية يتخلف عنها رماد يحمله الكهنة إلى جانب المذبح بقدسية ومهابة ثم ينقلونه بأنفسهم إلى الخارج، فإن ذبيحة السيد المسيح لم يمسها فساد بل قام السيد من الأموات واهبًا إيانا جسده سرّ حياة، يحملنا من رمادنا إلى الأبدية. السيد المسيح نفسه هو الذبيحة واهبة الحياة لنا نحن التراب والرماد!
ثالثًا: إذ يلتزم الكهنة بحمل الرماد إلى خارج المحلة يخلعون ثياب الخدمة ويلبسون ثيابًا أخرى حتى لا يخرجون بثياب الخدمة إلى الخارج. وكانوا يلقون الرماد في مكان مقدس دعى "مرمى الرماد" (4: 12)، محاط بسور حتى لا يأخذ أحد من الرماد الذي فيه، ولكي لا تذريه الرياح... يا للعجب، حتى آثار الرماد مقدس لا يُمس! إنها صورة لتقديس كل ما يمس الذبيحة الحقيقية كقبر السيد المسيح الذي فيه اضطجع واهب الحياة والذي قيل عنه: "ويكون محله (قبره) مجدًا" (إش 11: 1).
حينما نحمل الذبيحة فينا نصير نحن التراب مقدسين... تتقدس نفوسنا وأرواحنا وأيضًا أجسادنا الترابية! نصير أشبه بقبر السيد المسيح الذي تبارك بحلوله فينا!
رابعًا: يلتزم الكهنة ببقاء نار المذبح متقدة نهارًا وليلاً: "نار دائمة تتقد على المذبح لا تُطفأ" [13]. هذه النار التي جاءت من لدن الله بعد مسح هرون وبنيه (9: 24) إحتفظ بها اليهود بإيقاد الحطب والذبائح عليها، وكانوا يضعونها في ثلاثة مواضع على مذبح المحرقة... ويروي سفر المكابيين الثاني أن اليهود لما سبوا إلى بابل خبأوا النار المقدسة في بئر ليس بها ماء، ولما أرسل ملك فارس نحميا وأصحابه إلى أورشليم أرادوا أن يخرجوا النار من البئر فلم يجدوها بل وجدوا فيها ماءً، فوضعوا الوقود على المذبح ووضعوا عليه الذبائح ثم صبوا ماءً من البئر، ولما ظهرت الشمس محتجبة بالغيم إتقدت نار عظيمة على المذبح، فمجد الجميع الله. ولما علم ملك فارس بذلك تعجب وأمر بأن يُسيج حول البئر واعتبره موضعًا مقدسًا (2 مك 1: 19-36).
3. شريعة القربان:
في الأصحاح الثاني وجه الله حديثه لكل بني إسرائيل خلال موسى بخصوص تقدمة القربان، التي تحدثنا عنها في شيء من التفصيل، أما هنا فيركز على دور الكاهن من جوانب متعددة.
أولاً: يأخذ بقبضته بعض دقيق التقدمة وزيتها وكل اللبان الذي على التقدمة ويوقد على المذبح رائحة سرور تذكارها للرب [15] في دراستنا السابقة لبعض أسفار العهد القديم رأينا أن الذراع واليد يُشيران إلى كلمة الله المتجسد الذي جاء يتمم الخلاص عمليًا كما بيده[95] بينما أصبع الله يُشير إلى روحه القدوس. لعل يد الكاهن وهي تقبض بالدقيق والزيت تُشير إلى السيد المسيح الذي أمسك بطبيعتنا كما بقبضته لنصير فيه تقدمة حب لله، وكما قلنا أن الزيت يُشير إلى الروح القدس الذي به تحقق تجسد الكلمة في الأحشاء البتولي، وهو الروح الذي وهبه إيانا لأجل تقديسنا فنحسب بحق تقدمة سرور لله.
ثانيًا: ما يتبقى من دقيق وزيت يأكله فطيرًا الكهنة في دار خيمة الإجتماع دون إستخدام الخمير... يأكله الذكور دون النساء والأطفال، إذ يُشير إلى تمتعنا بالإتحاد مع السيد المسيح خلال جسده المبذول، فلا ينعم به المدللون (النساء) ولا غير الناضجين روحيًا (الأطفال)، إنما يتمتع به الروحيون السالكون كرجال الله في نضوج وجدية.
أما قوله: "إنها قدس أقداس... كل من مسها يتقدس" [17-18]. فيُشير إلى قدسية هذه التقدمة، فلا يأكلها غير الكهنة، يأكلونها داخل دار الخيمة وهم مستعدون روحيًا وجسديًا... ولعله يقصد أن كل من يمسها يصير قدسًا للرب يتكرّس لخدمته الإلهية.
يعلق العلامة أوريجانوس على هذه العبارة: [المسيح الذبيح (1 كو 5: 7) هو الذبيحة الوحيدة الكاملة التي قدمت كل هذه الذبائح كصورة لها، فمن يلمس جسد المسيح يتقدس إن كان دنسًا، يُشفى من آلامه، وذلك كنازفة الدم التي أدركت أن المسيح هو جسد الذبائح، إنه الجسد المقدس لذلك إقتربت إليه ولمسته[96]].
لقد أدركت الكنيسة فاعلية هذه الذبيحة وقدسيتها، لذلك دعى القديس يوحنا ذهبي الفم سرّ الأفخارستيا: [سرًا إلهيًا[97]]، [مائدة إلهية مهوبة[98]]، [سرًا مخوفًا[99]]، [غير منطوق به[100]]، [ذبيحة مقدسة مرهبة[101]].
أما عن تناوله داخل الدار فيُشير إلى تمتعنا بالحياة السماوية خلال هذه الذبيحة. وقد عبرّ القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذا بقوة بقوله: [كإن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد، ويطير مع السيرافيم ويتغنى بالتسبحة المقدسة].
والعجيب أن الكاهن وهو يتمتع بنصيب من هذه التقدمة، من دقيقها وزيتها، إذا به يلتزم من جانبه أن يقدم هو أيضًا تقدمة للرب صباحية وتقدمة مسائية. يذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس ومعظم علماء اليهود أن رئيس الكهنة كان يقدم هذه التقدمة يوميًا بالنسبة لخطورة مركزه أما الكاهن العادي فكان يقدمها مرة واحدة يوم مستحه فقط[102].
ولعل الحكمة من تقديم الكهنة للتقدمة أن يدركوا رسالتهم أنهم وإن كانوا باسم الرب يتمتعون بأنصبة كثيرة من الشعب لكنهم كجزء لا يتجزأ من الشعب هم أيضًا ملزمون بتقديم تقدمات. ومن جانب آخر الكاهن وهو يأخذ ينبغي أن يعطي... يعطي قلبه لله ولأولاده الروحيين كما يعطي أيضًا جهده وما تملكه يداه، وكما قال الرسول بولس عن نفسه أنه ينفق ويُنفق.
ما هي التقدمة الصباحية التي يلتزم بها الكاهن إلاَّ تقديم ناموس الرب الذي تسلمته كنيسة العهد القديم كما في الصباح عند بدء الحياة الروحية، يقدمه كما على نار الروح القدس الذي ينزع الحرف ويفيح رائحة الروح الذكية. أما تقدمة المساء فهي تقدمة الإنجيل بالسيد المسيح الذي قدم حياته فدية عن البشرية في ملء الزمان، كما في مساء حياتنا على الأرض. هكذا على ذات المذبح نتقبل الناموس روحيًا ملتحمًا بالكرازة بالإنجيل.
وقد أكدت الشريعة أن توقد تقدمة الكاهن أو تحرق بكمالها ولا توكل [23]... إذ يليق به أن يعطي كل حياته محرقة الرب، حتى إن قدم كل حياته للآخرين فهو يقدمها للرب وحده!
4. شريعة ذبيحة الخطية:
أبرز ما في شريعة ذبيحة الخطية نقطتين أساسين:
أولاً: تحسب أنصبة الكهنة منها "قدس أقداس" يأكلها الكهنة في دار الخيمة، من يمس لحمها يتقدس، بمعنى أنه لا يجوز أن يأكل منها إلاَّ من كان مستعدًا، ومن جانب آخر أن من يمسها يُحسب في ملكية الرب نفسه.
ثانيًا: أهم ما أبرز في شريعة هذه الذبيحة هو قدسية الدم، فإن انتثر من دمها على ثوب يُغسل ما انتثر عليه في مكان مقدس، وإناء الخزف الذي تطبخ فيه يُكسر، وإن كان نحاسيًا فيُجلي جيدًا بماء مقدس ويُشطف لأن النحاس لا يمتص شيئًا من الذبيحة.
يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن فاعلية دم السيد المسيح الذبيح، قائلاً: [هذا الدم يجعل صورة ملكنا واضحة فينا، ويجلب علينا جمالاً لا ينطق به، ولا يسمح بانتزاع سمونا، بل يرويه دائمًا وينعشه...
هذا الدم متى أخذناه بحق يطرد الشياطين، ويبعدهم عنا، بينما يدعو إلينا الملائكة. فإذ يظهر دم الرب تهرب الشياطين وتجتمع الملائكة. هذا الدم المسفوك يطهر كل العالم... هذا الدم يطهر الموضع السري وقدس الأقداس... هذا الدم يقدس المذبح الذهبي... هذا الدم يقدس الكهنة... هذا الدم هو خلاص نفوسنا... تغتسل النفس وتتجمل وتلتهب. به يلتهب فهمنا كالنار، وتتلألأ النفس أكثر من الذهب[103]].
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى