الأيقونات في الكنيسة
الأربعاء أبريل 07, 2010 1:08 am
الأيقونات في الكنيسة
والأيقونة قديس ماثل بحياة عبقها الجهاد والغلبة وأكاليل البر والقداسة فهي رسم يصور عمل قديسه[iv]. وعندما نتأمل الأيقونة لا نقف عند حدود جمال الفن أو عدمه ولكنها ترفع الفكر إلى ما وراء الألوان والمادة – إلى شخص صاحبها- وتمزج مشاعرنا بمشاعره. حينئذ نقرأ فيها قصة حياة صاحبها كلها في نظرة واحدة وتملأنا بعواطف جديدة من حياته المنيرة فهي تنطق بجهاده الذي قدمه وتشهد للأكاليل التي نالها وتهتف بالمجد العتيد أن يتمجد به. ويرجع تاريخ الأيقونة كما يذكر مؤتمن الدولة بن العسال[v] أن أبجر Abgar ملك أديسا ( الرها حاليا) قد عاني من أمراض كثيرة ، وإذ علم بالآيات الباهرة التي يصنعها السيد المسيح له المجد أرسل له رسالة يتوسل فيها أن يحضر إلى مملكته ليمنحه الشفاء ، وود لو قبل العيش سويا في مملكته المتواضعة الهادئة بعيدا عن الشعوب التي تنغصه. وكان أحد المبعوثين ، ويسمى حنانيا ، رساما فأراد أن يصور السيد المسيح له المجد فلم يستطيع بسبب مهابة محياه ، ولكن الرب له المجد وضع منديلا على وجهه[vi] فارتسمت عليه صورته المقدسة وأرسله إلى ملك أديسا (الرها) مع رسله فلما وصل المنديل ، قبله وعظمه ومسح به بدنه ووجهه فعوفي للوقت، وجرت منه عجائب وشفاءات.وهذه القصة ترجمت إلى أغلب لغات العالم وذكرها أوسابيوس[vii] المؤرخ الكنسي. كما يروي عن معلمنا الرسام القديس لوقا الانجيلي أنه كان مصورا بارعا ويقال أنه قام بتصوير السيدة العذراء وهى في وضعها التقليدي وهى تحمل السيد المسيح الطفل وتوجد صورتان بديري السريان والمحرق يقال أنهما مأخوذتان عن النسخة التي للقديس لوقا البشير. كذلك ذكر الأب فانسليب Vansleb المؤرخ أنه شاهد أثناء زيارته لكاتدرائية الإسكندرية أيقونة تمثل رئيس الملائكة الجليل ميخائيل قديمة العهد وقيل أنها من عمل الرسول لوقا الإنجيلي . كما عرف عن البابا كيرلس الأول[viii] وهو الرابع والعشرين من سلسلة البطاركة وكان تكريسه في عام 420 م أنه عمم وضع الصور في الكنائس وذلك لما لها من تأثير على الشعب خاصة الأميين منهم. ولقد نشأت فكرة التصوير على اللوحات الخشبية في مصر في العصر اليوناني الروماني عندما رسم الفنانون وجوه الموتى بالألوان على لوحات من الخشب توضع على التوابيت ( مدرسة الفيوم )، وأستمر رسم الوجوه بهذا الشكل في باكورة العصر القبطي استمرارا لمدرسة الفيوم، كما أن الأقباط في ذلك العصر المبكر رسموا أيضا صورا لطيور وأسماك وحيوانات على لوحات مشابهة يرجع تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي ويغلب على الظن أن طريقة تصوير الأيقونات على لوحات خشبية مستمدة من تلك الفكرة[ix]. إلا أن الأيقونات التي نجدها في الكنائس والأديرة معلقة على الجدران أو حوامل الأيقونات الخشبية لا ترسم على اللوحات الخشبية مباشرة إلا بعد أن تكسى بالتيل أو الخيش ثم تغطى بطبقة من بطانة بيضاء مصقولة من الجص يرسم فوقها بالألوان وتحفظ الألوان بتغطيتها بورنيش شفاف. ولقد استخدمت الكنيسة القبطية هذه الأيقونات كوسيلة الغرض من وضعها تذكير المؤمنين بأصحابها. فمثلا تضع الكنيسة على حامل الأيقونات أيقونة الصليب، وهى تذكر المؤمنين بالفداء والثمن الغالي الذي دفع من أجل التصالح مع ال،له وتلفت نظر المؤمن إلى كيفية الصلب، وكيف أن السيد المسيح البار صلب مع الأشرار، وأن أحد اللصين لما آمن بالمصلوب وأعترف بربوبيته[x] استحق الجلوس عن يمينه بقوله : "اليوم تكون معي في الفردوس"[xi] .. أما الذي أنكره فقد وضع على شماله دلالة خذلانه. وكذلك يكون حال الناس عند مجيء الرب الثاني : فالمؤمنون بالرب والذين عاشوا في الإيمان "إيمان ابن الله الذي أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا"[xii] سوف يقيمهم السيد المسيح له المجد عن يمينه في اليوم الأخير وأما الأشرار الذين ينكرونه فسوف يطرحهم عن يساره[xiii]، كما أن صورتي العذراء ويوحنا الانجيلي بجانب صورة السيد المسيح له المجد مصلوبا من هنا ومن هناك إشارة إلى وقوفهما عند صلب المسيح قبل موته[xiv].. وتقصد الكنيسة من وضع صورة المسيح مصلوبا لفت نظر المصلين وتذكيرهم بهيئة صلبه ليكون تأثير ذلك شديدا حتى يمنح كل قوة من تحويل نظرهم إلى غير المسيح وقت الصلاة بل يعتبرون أنفسهم كأنهم وقوف أمام صليب السيد المسيح ويشاهدونه يتألم ويموت عن خطاياهم ذلك طبقا لما قاله :"وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع"[xv]. كذلك توضع الكنيسة على حامل الأيقونات صورة للعشاء الرباني تذكر المؤمنين بسر الافخارستيا وضرورته من أجل أن يصير الكل واحدا وشريكا في الثبات في السيد المسيح "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه"[xvi]. كذلك وضعت الكنيسة مجموعة من الأيقونات للآباء التلاميذ الأطهار يعلنون من خلالها تمسكهم بالبشارة ومذكرين المؤمنين بإرساليتهم المعطاة لهم من السيد المسيح "وقال لهم اذهبوا إلى العالم اجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" [xvii]. نعم، إن حامل الأيقونات في الكنيسة يذكرنا في علوه بالسماء التي يقف فيها الملائكة والقديسين الأطهار ويؤكد قول الكتاب "ناظرين إلى نهاية سيرتهم متمثلين بإيمانهم"[xviii]. ورغم كل هذه المعاني العميقة إلا أن طائفة البروتستانت قد أنكرت على الكنيسة عملها هذا ووجهت اعتراضا على عدم ضرورة وجود حامل للأيقونات متعللة في ذلك بان حجاب الهيكل وقت الصلب قد أنشق فلا داعي لوجود ما يحجبنا عن الله. ولا شك أنه لا يوجد سبب وجيه لهذا الاعتراض حيث أن حامل الأيقونات الذي يعلوه صليب رب المجد يرفع المؤمنين بفكرهم إلى السماء ولا يحجبها عنهم إذ أن حامل الأيقونات ليس فاصلا بين الله والناس إذ أن الحجاب الحقيقي الذي كان فاصلا بين الله والناس هو الخطية التي سمرها يسوع له المجد في جسده على الصليب كما قال إشعياء النبي " آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع"[xix]. ومن هنا نستطيع أن نؤكد بطلان الزعم البروتستانتي على إنكار عمل الكنيسة بوضع حامل للأيقونات بها. كذلك فإن الكنيسة حينما تضع الأيقونات بها لا تعلم أولادها أن يعبدوها تطبيقا للآية "لا تصنع لك تمثالا منحوتا أو صورة لتعبدها"[xx]ولكنها حينما تضع الأيقونات تعلمنا أن نصلي لله متذكرين صاحب الأيقونة وجهاده وأعماله، مقتفين أثره.. وهذا يوضح لنا أن الحملة[xxi] التي تعرضت لها الأيقونات في الفترة من 726- 841م والتي ظهرت فيها جماعة أطلق عليهم تعبير "مقاومي الأيقونات" والتي قامت بمحاربة استخدام الأيقونات المقدسة كانت عن عدم فهم عميق لعمل الأيقونة الإيماني والروحي في الكنيسة، حتى أن هذه الحملة أفسدت سلام الكنيسة نظرا لأن هذه الجماعة كان لها قوتها المدنية. وفي هذه الفترة حرقت الأيقونات وأتلف معظمها حتى جاء عام 842 م فانتهت قصة مقاومي الأيقونات تماما وتقرر صحة توقير الأيقونة وليس عبادتها وحرم مقاومي الأيقونات وكان ذلك في 19 فبراير سنة 842م حيث دخلت الأيقونات على الكنائس في احتفال عظيم بل وحسب هذا اليوم عيدا للأرثوذكس عند اليونان. وفي هذا يقول الأب يوحنا الدمشقي بضرورة التمييز بين العبادة الخاصة بالله وحده، وبين التكريم الذي يعنى الخضوع حتى الأرض وتقبيلها. وهو يحمل معنى التوقير الذي يمكن تقديمه لغير الله فنحن نسجد لله ونتعبد له ونوقر قديسيه ونكرمهم إكراما للروح القدس الذي يملئهم. ويعتبر فن رسم الأيقونة أحد فروع الفن القبطي الذي يعتبر في شتى مجالاته وريث[xxii]لحضارة مصر الفرعونية وما تلاها من تداخل وتزاوج للحضارات التي تعايشت مع الحضارة المصرية ولقد لعب الفن القبطي دورا تعبيريا غاية في الأهمية مستغلا القيم الوراثية في الفن المصري من خلال : 1- التعامل مع البعدين أي الطول والعرض وليس البعد الثالث وهو العمق أو المنظور. إذ أن البعد بين الطول والعرض بعدان ثابتان لا يتغيران أما البعد الثالث فهو البعد المتغير نحو نقط التلاشي في المنظور ولما كان المفهوم للعقيدة هو من الثوابت فقط احتفظ الفنان المصري حتى العصر القبطي بهذا المضمون. 2- استغلال الكتلة مع الفراغ في حساب لهذه الكتلة وشغلها للفراغ بإحساس جمال يؤكد رسوخ النظام الكوني في مجال التشكيل. 3- استغلال المجموعة اللونية وكلها من محاجر ومناجم مصر وهى عبارة عن أكاسيد طبيعية كما أن الألوان التي تستعمل في الأيقونات كانت في أغلب الأحوال من النوع المسمى بألوان التمبرا وتكون هذه الألوان مخلوطة بالغراء أو الصمغ أو زلال البيض أو الجيلاتينا ومن الشائع أن الفنان يلجأ إلى تذهيب خلفية الرسم المصور وكذلك بعض أجزاء منه كهالات القديسين بصفائح ذهبية دقيقة ومن أهم الأكاسيد الطبيعية التي تستخدم في الأيقونة القبطية : - الأصفر الأوهرا - الطينة النية - الطينة المحروقة - أسود ( العظام ) - الأزرق النيلة - أكسيد الحديد الأحمر - الأبيض الجيري. وهذه الألوان توضع في الأيقونة القبطية لتدل على مفاهيم ورموز فاللون الأصفر الأوهرا يرمز في الأيقونة للقداسة التي تنبعث من النور الإلهي.. كما أن اللون الأحمر أكسيد الحديد بدرجاته يرمز إلى المجد والفداء، وفي المفهوم العقيدي لا يوجد مجد بدون فداء فالمجد دائما يحتاج إلى الفداء، كذلك فهو رمز الفداء على الصليب .. واللون الأبيض يرمز إلى الطهارة القلبية " اغسلني فابيض أكثر من الثلج "[xxiii].. واللون الأزرق يرمز إلى الأبدية التي لا نهاية لها .. كما أن اللون الأسود يرمز إلى الوجود ويستخدم دائما في تأكيد الأشكال وإبراز التصميم. يضاف إلى ذلك أن فن رسم الأيقونة يحتاج إلى لغة معينة بعيدة عن المحاكاة الطبيعية للحياة وهذا هو السبب الذي من أجله يقال أن الأيقونة ليست برسم فقط وإنما هي تعبير روحاني لما تحمله وتظهره[xxiv]. لذلك فإن رسم الأيقونة بالنسبة للرسام الماهر تحتاج إلى إتضاع وتكريس في مراحلها الأولى بينما في المراحل التالية فيضاف على ذلك ممارسة للصيام والتداريب الروحية وهذا ضروري جدا. ولكي يزداد الجو المحيط بالفنان خشوعا يفضل أن يستمع لتسجيلات من خدمة القداس أو المدائح والتسبحة ويفضل أن يبدأ عمله بقراءات من الأسفار المقدسة لأن هذا يساعد على خلق جو هادئ روحاني ضروري للتركيز ولرفع النفس البشرية نحو خالقها حتى تستشف ما في الأيقونة من معان روحية بمعونة إلهية. وقد ازدهر وانتشر فن تصوير الأيقونات في مصر في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وعكف على رسمها فنانون بعضهم من المصريين وبعضهم من اليونانيين أو الأرمن الذين كانوا يعيشون في مصر ونتذكر منهم الفنان يوحنا الناسخ الذي تنتسب إليه الكثير من الأيقونات القبطية بكنائس مصر القديمة والأديرة القبطية ونجد أن هذه اللوحات قد دون عليها اسم المصور والسنة التي رسمت فيها. واستمر هذا الازدهار حتى السنوات الأخيرة والتي أخذ فن الأيقونة يزداد ازدهارا على يد الفنان القبطي الدكتور إيزاك فانوس الذي يرأس قسم خاص للفن القبطي بمعهد الدراسات القبطية بالأنبا رويس بالقاهرة ويعطيه رعاية خاصة قداسة البابا المعظم البابا شنوده الثالث البطريرك ال117 حيث يتم تدريس الفن القبطي وقد أنتشر من هذا القسم مجموعة متميزة من أبناء الكنيسة زينت أعمالهم الكنائس القبطية في مصر وبلاد المهجر أيضا. يبقى أن نؤكد أن القبطي يرى في الأيقونة عونا طوال رحلته على الأرض تسنده في ظل الظروف وتعينه على الشركة مع الله فما دمنا في الجسد فالحواس في حاجة ملحة إلى أشياء مادية ملموسة نتطلع إليها فتنقلنا إلى داخل القلب وهذا هو سر احتفاظنا بهذه الأيقونات أمام عيوننا وفي بيوتنا وكنائسنا. فالأيقونات في البيوت والكنائس ليست قطعا فنية للعرض أو الزينة وإنما هي معين لنا في تحقيق حياة الصلاة خلال المنظورات. وأخيرا فإن دراسة موضوع الأيقونات في الكنيسة يوفر لنا الفرصة المباركة فرصة للتأمل في نواحي عديدة من حياتنا فنستطيع أن نؤكد أن الله الذي حول الأرض الخربة إلى أيقونة جميلة تحدث بمجد الله وقدرته السرمدية قد جعل[xxv] من الطبيعة أيقونة جميلة والقديسين الممتلئون بالنور السماوي المشتعلون بنار الحب الإلهي هم أيقونة حب حقيقي لله لذلك فإن من واجبنا أن نحافظ على هذه الطبيعة الأيقونة الجميلة التي خلقها الله ، كما يجب علينا أن نتذكر أن الله قد أعطانا لمعرفته الكتاب المقدس حتى نستطيع أن نؤكد أن الكتاب المقدس هو فعلا أيقونة رائعة لمعرفة الله .. لذلك يتعين علينا أن نبحر في هذه الأيقونة من خلال القراءة والدرس حتى نستطيع الوصول إلى معرفة وعشرة مع الله. يضاف إلى ذلك أننا نحن كجماعة المؤمنين الذين اختارهم الله وسبق فعينهم الممتلئون بالنور السماوي المشتعلون بنار حبه الإلهي نعتبر أيقونة حب لله واجبنا أن نظهر في صورة يتمجد من خلالنا الله ... فيرون أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السموات . لذلك يجب علينا أن نحافظ على تواجدنا في إطار أيقونة الحب الإلهي كأعضاء في هذا الجسد المقدس الذي اختاره السيد المسيح ليكون رأسا له .. لا نفرط في محبته ولا نبتعد عن الإطار الذي وضعنا الله فيه بل نعمل جاهدين من أجل أن نستمر في هذا الإطار مرددين مع الرسول بولس: "من سيفصلنا عن محبة المسيح.أشدّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف[xxvi]". من هنا نستطيع أن نؤكد أن الله هو الجمال المطلق[xxvii] وبروح حب الجمال أصبح كل شئ جميل مستمد من الله. وبالتالي فالأيقونة الجميلة في الكنيسة تستمد جمالها من روح الله القادر أن يجعلنا أهلا لأن نكون أعضاء مباركين في جسده الطاهر له كل المجد والكرامة من الآن وإلى الأبد آمين. هذه الدراسة من إعداد / يوحنا نصحي عطية ماجستير في التاريخ الكنسي
والأيقونة قديس ماثل بحياة عبقها الجهاد والغلبة وأكاليل البر والقداسة فهي رسم يصور عمل قديسه[iv]. وعندما نتأمل الأيقونة لا نقف عند حدود جمال الفن أو عدمه ولكنها ترفع الفكر إلى ما وراء الألوان والمادة – إلى شخص صاحبها- وتمزج مشاعرنا بمشاعره. حينئذ نقرأ فيها قصة حياة صاحبها كلها في نظرة واحدة وتملأنا بعواطف جديدة من حياته المنيرة فهي تنطق بجهاده الذي قدمه وتشهد للأكاليل التي نالها وتهتف بالمجد العتيد أن يتمجد به. ويرجع تاريخ الأيقونة كما يذكر مؤتمن الدولة بن العسال[v] أن أبجر Abgar ملك أديسا ( الرها حاليا) قد عاني من أمراض كثيرة ، وإذ علم بالآيات الباهرة التي يصنعها السيد المسيح له المجد أرسل له رسالة يتوسل فيها أن يحضر إلى مملكته ليمنحه الشفاء ، وود لو قبل العيش سويا في مملكته المتواضعة الهادئة بعيدا عن الشعوب التي تنغصه. وكان أحد المبعوثين ، ويسمى حنانيا ، رساما فأراد أن يصور السيد المسيح له المجد فلم يستطيع بسبب مهابة محياه ، ولكن الرب له المجد وضع منديلا على وجهه[vi] فارتسمت عليه صورته المقدسة وأرسله إلى ملك أديسا (الرها) مع رسله فلما وصل المنديل ، قبله وعظمه ومسح به بدنه ووجهه فعوفي للوقت، وجرت منه عجائب وشفاءات.وهذه القصة ترجمت إلى أغلب لغات العالم وذكرها أوسابيوس[vii] المؤرخ الكنسي. كما يروي عن معلمنا الرسام القديس لوقا الانجيلي أنه كان مصورا بارعا ويقال أنه قام بتصوير السيدة العذراء وهى في وضعها التقليدي وهى تحمل السيد المسيح الطفل وتوجد صورتان بديري السريان والمحرق يقال أنهما مأخوذتان عن النسخة التي للقديس لوقا البشير. كذلك ذكر الأب فانسليب Vansleb المؤرخ أنه شاهد أثناء زيارته لكاتدرائية الإسكندرية أيقونة تمثل رئيس الملائكة الجليل ميخائيل قديمة العهد وقيل أنها من عمل الرسول لوقا الإنجيلي . كما عرف عن البابا كيرلس الأول[viii] وهو الرابع والعشرين من سلسلة البطاركة وكان تكريسه في عام 420 م أنه عمم وضع الصور في الكنائس وذلك لما لها من تأثير على الشعب خاصة الأميين منهم. ولقد نشأت فكرة التصوير على اللوحات الخشبية في مصر في العصر اليوناني الروماني عندما رسم الفنانون وجوه الموتى بالألوان على لوحات من الخشب توضع على التوابيت ( مدرسة الفيوم )، وأستمر رسم الوجوه بهذا الشكل في باكورة العصر القبطي استمرارا لمدرسة الفيوم، كما أن الأقباط في ذلك العصر المبكر رسموا أيضا صورا لطيور وأسماك وحيوانات على لوحات مشابهة يرجع تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي ويغلب على الظن أن طريقة تصوير الأيقونات على لوحات خشبية مستمدة من تلك الفكرة[ix]. إلا أن الأيقونات التي نجدها في الكنائس والأديرة معلقة على الجدران أو حوامل الأيقونات الخشبية لا ترسم على اللوحات الخشبية مباشرة إلا بعد أن تكسى بالتيل أو الخيش ثم تغطى بطبقة من بطانة بيضاء مصقولة من الجص يرسم فوقها بالألوان وتحفظ الألوان بتغطيتها بورنيش شفاف. ولقد استخدمت الكنيسة القبطية هذه الأيقونات كوسيلة الغرض من وضعها تذكير المؤمنين بأصحابها. فمثلا تضع الكنيسة على حامل الأيقونات أيقونة الصليب، وهى تذكر المؤمنين بالفداء والثمن الغالي الذي دفع من أجل التصالح مع ال،له وتلفت نظر المؤمن إلى كيفية الصلب، وكيف أن السيد المسيح البار صلب مع الأشرار، وأن أحد اللصين لما آمن بالمصلوب وأعترف بربوبيته[x] استحق الجلوس عن يمينه بقوله : "اليوم تكون معي في الفردوس"[xi] .. أما الذي أنكره فقد وضع على شماله دلالة خذلانه. وكذلك يكون حال الناس عند مجيء الرب الثاني : فالمؤمنون بالرب والذين عاشوا في الإيمان "إيمان ابن الله الذي أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا"[xii] سوف يقيمهم السيد المسيح له المجد عن يمينه في اليوم الأخير وأما الأشرار الذين ينكرونه فسوف يطرحهم عن يساره[xiii]، كما أن صورتي العذراء ويوحنا الانجيلي بجانب صورة السيد المسيح له المجد مصلوبا من هنا ومن هناك إشارة إلى وقوفهما عند صلب المسيح قبل موته[xiv].. وتقصد الكنيسة من وضع صورة المسيح مصلوبا لفت نظر المصلين وتذكيرهم بهيئة صلبه ليكون تأثير ذلك شديدا حتى يمنح كل قوة من تحويل نظرهم إلى غير المسيح وقت الصلاة بل يعتبرون أنفسهم كأنهم وقوف أمام صليب السيد المسيح ويشاهدونه يتألم ويموت عن خطاياهم ذلك طبقا لما قاله :"وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع"[xv]. كذلك توضع الكنيسة على حامل الأيقونات صورة للعشاء الرباني تذكر المؤمنين بسر الافخارستيا وضرورته من أجل أن يصير الكل واحدا وشريكا في الثبات في السيد المسيح "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه"[xvi]. كذلك وضعت الكنيسة مجموعة من الأيقونات للآباء التلاميذ الأطهار يعلنون من خلالها تمسكهم بالبشارة ومذكرين المؤمنين بإرساليتهم المعطاة لهم من السيد المسيح "وقال لهم اذهبوا إلى العالم اجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" [xvii]. نعم، إن حامل الأيقونات في الكنيسة يذكرنا في علوه بالسماء التي يقف فيها الملائكة والقديسين الأطهار ويؤكد قول الكتاب "ناظرين إلى نهاية سيرتهم متمثلين بإيمانهم"[xviii]. ورغم كل هذه المعاني العميقة إلا أن طائفة البروتستانت قد أنكرت على الكنيسة عملها هذا ووجهت اعتراضا على عدم ضرورة وجود حامل للأيقونات متعللة في ذلك بان حجاب الهيكل وقت الصلب قد أنشق فلا داعي لوجود ما يحجبنا عن الله. ولا شك أنه لا يوجد سبب وجيه لهذا الاعتراض حيث أن حامل الأيقونات الذي يعلوه صليب رب المجد يرفع المؤمنين بفكرهم إلى السماء ولا يحجبها عنهم إذ أن حامل الأيقونات ليس فاصلا بين الله والناس إذ أن الحجاب الحقيقي الذي كان فاصلا بين الله والناس هو الخطية التي سمرها يسوع له المجد في جسده على الصليب كما قال إشعياء النبي " آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع"[xix]. ومن هنا نستطيع أن نؤكد بطلان الزعم البروتستانتي على إنكار عمل الكنيسة بوضع حامل للأيقونات بها. كذلك فإن الكنيسة حينما تضع الأيقونات بها لا تعلم أولادها أن يعبدوها تطبيقا للآية "لا تصنع لك تمثالا منحوتا أو صورة لتعبدها"[xx]ولكنها حينما تضع الأيقونات تعلمنا أن نصلي لله متذكرين صاحب الأيقونة وجهاده وأعماله، مقتفين أثره.. وهذا يوضح لنا أن الحملة[xxi] التي تعرضت لها الأيقونات في الفترة من 726- 841م والتي ظهرت فيها جماعة أطلق عليهم تعبير "مقاومي الأيقونات" والتي قامت بمحاربة استخدام الأيقونات المقدسة كانت عن عدم فهم عميق لعمل الأيقونة الإيماني والروحي في الكنيسة، حتى أن هذه الحملة أفسدت سلام الكنيسة نظرا لأن هذه الجماعة كان لها قوتها المدنية. وفي هذه الفترة حرقت الأيقونات وأتلف معظمها حتى جاء عام 842 م فانتهت قصة مقاومي الأيقونات تماما وتقرر صحة توقير الأيقونة وليس عبادتها وحرم مقاومي الأيقونات وكان ذلك في 19 فبراير سنة 842م حيث دخلت الأيقونات على الكنائس في احتفال عظيم بل وحسب هذا اليوم عيدا للأرثوذكس عند اليونان. وفي هذا يقول الأب يوحنا الدمشقي بضرورة التمييز بين العبادة الخاصة بالله وحده، وبين التكريم الذي يعنى الخضوع حتى الأرض وتقبيلها. وهو يحمل معنى التوقير الذي يمكن تقديمه لغير الله فنحن نسجد لله ونتعبد له ونوقر قديسيه ونكرمهم إكراما للروح القدس الذي يملئهم. ويعتبر فن رسم الأيقونة أحد فروع الفن القبطي الذي يعتبر في شتى مجالاته وريث[xxii]لحضارة مصر الفرعونية وما تلاها من تداخل وتزاوج للحضارات التي تعايشت مع الحضارة المصرية ولقد لعب الفن القبطي دورا تعبيريا غاية في الأهمية مستغلا القيم الوراثية في الفن المصري من خلال : 1- التعامل مع البعدين أي الطول والعرض وليس البعد الثالث وهو العمق أو المنظور. إذ أن البعد بين الطول والعرض بعدان ثابتان لا يتغيران أما البعد الثالث فهو البعد المتغير نحو نقط التلاشي في المنظور ولما كان المفهوم للعقيدة هو من الثوابت فقط احتفظ الفنان المصري حتى العصر القبطي بهذا المضمون. 2- استغلال الكتلة مع الفراغ في حساب لهذه الكتلة وشغلها للفراغ بإحساس جمال يؤكد رسوخ النظام الكوني في مجال التشكيل. 3- استغلال المجموعة اللونية وكلها من محاجر ومناجم مصر وهى عبارة عن أكاسيد طبيعية كما أن الألوان التي تستعمل في الأيقونات كانت في أغلب الأحوال من النوع المسمى بألوان التمبرا وتكون هذه الألوان مخلوطة بالغراء أو الصمغ أو زلال البيض أو الجيلاتينا ومن الشائع أن الفنان يلجأ إلى تذهيب خلفية الرسم المصور وكذلك بعض أجزاء منه كهالات القديسين بصفائح ذهبية دقيقة ومن أهم الأكاسيد الطبيعية التي تستخدم في الأيقونة القبطية : - الأصفر الأوهرا - الطينة النية - الطينة المحروقة - أسود ( العظام ) - الأزرق النيلة - أكسيد الحديد الأحمر - الأبيض الجيري. وهذه الألوان توضع في الأيقونة القبطية لتدل على مفاهيم ورموز فاللون الأصفر الأوهرا يرمز في الأيقونة للقداسة التي تنبعث من النور الإلهي.. كما أن اللون الأحمر أكسيد الحديد بدرجاته يرمز إلى المجد والفداء، وفي المفهوم العقيدي لا يوجد مجد بدون فداء فالمجد دائما يحتاج إلى الفداء، كذلك فهو رمز الفداء على الصليب .. واللون الأبيض يرمز إلى الطهارة القلبية " اغسلني فابيض أكثر من الثلج "[xxiii].. واللون الأزرق يرمز إلى الأبدية التي لا نهاية لها .. كما أن اللون الأسود يرمز إلى الوجود ويستخدم دائما في تأكيد الأشكال وإبراز التصميم. يضاف إلى ذلك أن فن رسم الأيقونة يحتاج إلى لغة معينة بعيدة عن المحاكاة الطبيعية للحياة وهذا هو السبب الذي من أجله يقال أن الأيقونة ليست برسم فقط وإنما هي تعبير روحاني لما تحمله وتظهره[xxiv]. لذلك فإن رسم الأيقونة بالنسبة للرسام الماهر تحتاج إلى إتضاع وتكريس في مراحلها الأولى بينما في المراحل التالية فيضاف على ذلك ممارسة للصيام والتداريب الروحية وهذا ضروري جدا. ولكي يزداد الجو المحيط بالفنان خشوعا يفضل أن يستمع لتسجيلات من خدمة القداس أو المدائح والتسبحة ويفضل أن يبدأ عمله بقراءات من الأسفار المقدسة لأن هذا يساعد على خلق جو هادئ روحاني ضروري للتركيز ولرفع النفس البشرية نحو خالقها حتى تستشف ما في الأيقونة من معان روحية بمعونة إلهية. وقد ازدهر وانتشر فن تصوير الأيقونات في مصر في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وعكف على رسمها فنانون بعضهم من المصريين وبعضهم من اليونانيين أو الأرمن الذين كانوا يعيشون في مصر ونتذكر منهم الفنان يوحنا الناسخ الذي تنتسب إليه الكثير من الأيقونات القبطية بكنائس مصر القديمة والأديرة القبطية ونجد أن هذه اللوحات قد دون عليها اسم المصور والسنة التي رسمت فيها. واستمر هذا الازدهار حتى السنوات الأخيرة والتي أخذ فن الأيقونة يزداد ازدهارا على يد الفنان القبطي الدكتور إيزاك فانوس الذي يرأس قسم خاص للفن القبطي بمعهد الدراسات القبطية بالأنبا رويس بالقاهرة ويعطيه رعاية خاصة قداسة البابا المعظم البابا شنوده الثالث البطريرك ال117 حيث يتم تدريس الفن القبطي وقد أنتشر من هذا القسم مجموعة متميزة من أبناء الكنيسة زينت أعمالهم الكنائس القبطية في مصر وبلاد المهجر أيضا. يبقى أن نؤكد أن القبطي يرى في الأيقونة عونا طوال رحلته على الأرض تسنده في ظل الظروف وتعينه على الشركة مع الله فما دمنا في الجسد فالحواس في حاجة ملحة إلى أشياء مادية ملموسة نتطلع إليها فتنقلنا إلى داخل القلب وهذا هو سر احتفاظنا بهذه الأيقونات أمام عيوننا وفي بيوتنا وكنائسنا. فالأيقونات في البيوت والكنائس ليست قطعا فنية للعرض أو الزينة وإنما هي معين لنا في تحقيق حياة الصلاة خلال المنظورات. وأخيرا فإن دراسة موضوع الأيقونات في الكنيسة يوفر لنا الفرصة المباركة فرصة للتأمل في نواحي عديدة من حياتنا فنستطيع أن نؤكد أن الله الذي حول الأرض الخربة إلى أيقونة جميلة تحدث بمجد الله وقدرته السرمدية قد جعل[xxv] من الطبيعة أيقونة جميلة والقديسين الممتلئون بالنور السماوي المشتعلون بنار الحب الإلهي هم أيقونة حب حقيقي لله لذلك فإن من واجبنا أن نحافظ على هذه الطبيعة الأيقونة الجميلة التي خلقها الله ، كما يجب علينا أن نتذكر أن الله قد أعطانا لمعرفته الكتاب المقدس حتى نستطيع أن نؤكد أن الكتاب المقدس هو فعلا أيقونة رائعة لمعرفة الله .. لذلك يتعين علينا أن نبحر في هذه الأيقونة من خلال القراءة والدرس حتى نستطيع الوصول إلى معرفة وعشرة مع الله. يضاف إلى ذلك أننا نحن كجماعة المؤمنين الذين اختارهم الله وسبق فعينهم الممتلئون بالنور السماوي المشتعلون بنار حبه الإلهي نعتبر أيقونة حب لله واجبنا أن نظهر في صورة يتمجد من خلالنا الله ... فيرون أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السموات . لذلك يجب علينا أن نحافظ على تواجدنا في إطار أيقونة الحب الإلهي كأعضاء في هذا الجسد المقدس الذي اختاره السيد المسيح ليكون رأسا له .. لا نفرط في محبته ولا نبتعد عن الإطار الذي وضعنا الله فيه بل نعمل جاهدين من أجل أن نستمر في هذا الإطار مرددين مع الرسول بولس: "من سيفصلنا عن محبة المسيح.أشدّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف[xxvi]". من هنا نستطيع أن نؤكد أن الله هو الجمال المطلق[xxvii] وبروح حب الجمال أصبح كل شئ جميل مستمد من الله. وبالتالي فالأيقونة الجميلة في الكنيسة تستمد جمالها من روح الله القادر أن يجعلنا أهلا لأن نكون أعضاء مباركين في جسده الطاهر له كل المجد والكرامة من الآن وإلى الأبد آمين. هذه الدراسة من إعداد / يوحنا نصحي عطية ماجستير في التاريخ الكنسي
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى